7 سبتمبر 2025 / 18:56

ابن الهيثم أو ولادة المنهج: من جرح التراث إلى إمكان المستقبل

سمير لعباد
إن ابن الهيثم ليس مجرد اسم عابر في كتب التراث ولا هو مجرد عالم بصريات حفظناه في سردية تمجيدية، بل هو حدث فلسفي هائل لم يكتمل بعد؛ فلم يكن الرجل مجرد عالم فيزيائي يشتغل على الضوء، بل كان لحظة انشقاق في العقل الإسلامي، حيث يعتبر ثورة صامتة في قلب قرون مأهولة بالفقهاء والمتكلمين وحراس اليقين.

لقد تجرأ على أن يضع البصر في محك الاختبار، وأن يقلب العلاقة بين العين والضوء. فمنذ تلك اللحظة صار النظر تجربةً قبل أن يكون يقيناً، وصارت الحقيقة نتيجة لامتحان لا لعقيدة.

إنّ ابن الهيثم لم يكن ينحت نظرية إضافية، بل كان يؤسس لعقل جديد: عقل لا يطمئن إلى النصوص الجاهزة ولا يكتفي بالمتون، بل يبحث عن برهانه في التجربة، فكان اختراقه الكبير هو إدراك أنّ العين ليست أداة استقبال سلبي، بل هي شريك في إنتاج الصورة.

وبهذا المعنى لم يكن علم البصريات مجرد فصل من فصول الفيزياء، بل كان إعلاناً مبكراً عن أن الحقيقة لا تولد إلا في علاقة بين الذات والعالم، بين البصر والضوء، بين الرؤية وما يُرى.

الحاضر الذي نعيشه اليوم يبدو وكأنه قد تخلى عن هذه الروح ونحن غارقون في وفرة المعلومات، محاصرون بالشاشات، مراقَبون من الذكاء الاصطناعي، لكننا نفتقر إلى المنهج وكل فرد صار قادراً على أن يتحدث في كل شيء، لكن القليل فقط من يملك ذلك الانضباط التجريبي الذي يحوّل الرأي إلى معرفة.

واستدعاء ابن الهيثم الآن ليس عودة نوستالجية إلى مجد ماضٍ، بل هو مساءلة قاسية لنا: هل نملك الجرأة على أن نعيد بناء علاقتنا بالحقيقة على أساس الاختبار والشك؟ أم أننا ما زلنا أسرى يقينيات لا تحتمل أي امتحان؟

هنا يكمن سؤال الحاضر: كيف نعيش دون منهج؟ وكيف يمكن لعقل بلا تجربة أن يكون جديراً باسمه؟

إن المنهج عند ابن الهيثم لم يكن مجرد تقنية أو وصفة قابلة للتكرار، بل كان أخلاقاً للعقل. أن تضع النظر موضع الاختبار، أن تتعامل مع كل يقين كفرضية، أن تعتبر الشك ليس عدواً للمعرفة بل شرطها الأول.

في زمنه كان ذلك انقلاباً جذرياً، أما في زمننا فهو ما نفتقده؛ إذ تحول الشك عندنا إلى تهمة، وصارت التجربة استثناءً، بينما لم يعد الرأي في فضائنا سوى نسخة معاصرة من العقيدة القديمة: يقينيات معلّبة تتنكر في لباس الحديث. أن نكون هيثميين اليوم يعني أن نتعلم كيف نخون تراثنا بطريقة خلاقة، أي أن نضعه على محك الاختبار لا أن نحفظه كالوصايا.

فالخيانة هنا ليست عداءً بل وفاء من نوع آخر: وفاء للروح التي دفعت ابن الهيثم نفسه إلى مساءلة يقينيات عصره.

ابن الهيثم لم يترك وصية مكتوبة، لكنه ترك لنا مهمة تتجلى في أن نجرؤ على جعل المعرفة تجربةً يومية، أن نعيد النظر في علاقتنا بالعلم لا كشيء نستورد نتائجه من الغرب، بل كجرح بدأ في حضارتنا ولم نكمل نزيفه بعد.

إنّ فكرة المنهج التي انطلقت من جرأته تحولت لاحقاً إلى ركيزة للحداثة الأوروبية، بينما نحن اكتفينا بأن نحول الرجل إلى أيقونة تراثية، إلى تمثال نعلّقه في كتب التاريخ المدرسية.

لكن الرجل لم يكن تمثالاً، بل كان ناراً، والواجب ليس تمجيد النار بل أن نجرؤ على الاحتراق بها.

وحين ننظر إلى حاضرنا، نكتشف أنّ مشكلتنا ليست في فقدان الهوية ولا في صراع الثقافات، بل في غياب المنهج. كل هويتنا تنهار لأننا لم نتعلم بعد كيف نضع يقينياتنا على محك الشك؛ إذا لسنا محتاجين إلى ترديد الشعارات الكبرى عن الأصالة والمعاصرة، بل إلى شجاعة صغيرة: أن نقول مع ابن الهيثم إنّ الحقيقة لا تُعطى، بل تُجرَّب.

إنّنا نعيش في زمن لم يعد فيه الضوء محايداً، بل صار أداة مراقبة، صار سلطة تحصي أنفاسنا، ولكن أن نكون هيثميين في هذا الزمن هو أن نعيد للعين حقّها في النظر، وأن نجعل من البصر فعلاً نقدياً لا مجرد استقبال سلبي لصورة تُصنع لنا في مصانع التقنية.

وعلاوة على ذلك لا نحتاج إلى ابن هيثم جديد، بل نحتاج إلى أن نصير نحن هيثميين في حاضرنا. أي أن نجعل من كل يقين سؤالاً، ومن كل حقيقة فرضية، ومن كل منهج حياة.

هذا هو معنى أن يكون للمنهج حضور في زمننا: أن يتحول إلى قدر لا يمكننا الإفلات منه إلى أخلاق جديدة للعقل، إلى نوع من الشجاعة الهادئة التي تحررنا من عبودية الرأي وتفتح أمامنا إمكان الحرية.

ويذكّرنا ابن الهيثم بأنّ الماضي ليس تراثاً جاهزاً، بل مهمة لم تكتمل. استدعاؤه الآن لا يعني أن نحتفل بذكرى رجلٍ مات، بل أن نواصل ما بدأه، أن نكمل جرأته.

وذلك أن الحقيقة لا تعيش في النصوص، بل في التجارب. في حين الحرية لا تولد من الحفظ، بل من الشك، والمستقبل لا يُبنى بالوفاء للماضي كما هو، بل بالخيانة الخلّاقة له.

لذلك فإنّ سؤال الحاضر لا يطرح علينا: ماذا ترك لنا ابن الهيثم؟ بل: ماذا فعلنا نحن بما تركه؟

والجواب، حتى الآن، أننا لم نفعل شيئاً. لكن ربما ما يزال أمامنا متسع من الزمن كي نعيد فتح الباب الذي فتحه لنا، وأن نجرؤ، مثلما تجرأ، على أن نرى الضوء لا كمعطى بل كجرح، لا كيقين بل كمنهج، لا كرمز للمعرفة فحسب بل كرمز لتحرر العقل من كل عبودية.