سعيد الزياني ـ دين بريس
إن قرار إدارة الرئيس دونالد ترامب بتجميد التمويل الفيدرالي للمؤسسات الدينية التي تقدم خدمات مجتمعية قد يبدو إجراء إداريا يهدف إلى تقليص الإنفاق الحكومي، لكن في عمقه هو خطوة تنطوي على أبعاد استراتيجية أعمق تمتد إلى الجوانب السياسية، الدينية، والقانونية في الولايات المتحدة.
ويعكس هذا القرار رؤية محافظة تركز على تقليص دور الحكومة في الحياة العامة، معتمدة على فلسفة اقتصادية ترى أن القطاع الخاص والمؤسسات غير الربحية يجب أن تكون المحرك الأساسي للخدمات المجتمعية، بدلا من الدولة، لكن هذه الخطوة، رغم انسجامها مع إيديولوجية الإدارة الجمهورية، إلا انها تحمل تداعيات معقدة قد تعيد تشكيل المشهد السياسي والاجتماعي الأمريكي بطرق لم تكن محسوبة بالكامل.
أولا: على المستوى الديني، يكشف هذا القرار عن انقسام عميق بين المؤسسات الدينية الأمريكية، ليس فقط من حيث حجم الموارد المالية التي تمتلكها، بل أيضا من حيث دورها في المجتمع، فالكنائس الكبرى، التي تمتلك شبكات تمويل واسعة وقواعد شعبية قوية، قد تكون قادرة على التكيف مع هذه التغييرات من خلال تعزيز حملات جمع التبرعات وتوسيع شبكات الدعم المالي الخاصة بها، وفي المقابل، تواجه الكنائس الصغيرة والمؤسسات الدينية ذات الموارد المحدودة خطر الانكماش وربما الإغلاق، مما سيؤدي إلى إضعاف البنية التحتية الدينية التي يعتمد عليها الملايين من الأمريكيين في حياتهم اليومية.
إن خطورة هذه التباينات هي أنها قد تؤدي إلى تعميق الفجوة بين المؤسسات الدينية الغنية وتلك التي تعتمد على التمويل الحكومي، وهو ما قد ينعكس سلبا على التوازن داخل المجتمع الديني الأمريكي.
لقد كانت مسألة تدخل الحكومة في الشؤون الدينية موضع جدل مستمر في الولايات المتحدة، وقد تؤدي القرارات المالية التي اتخذها ترامب إلى إعادة تأجيج هذا النقاش، فبينما يرى البعض أن تقليص التمويل الحكومي يعزز استقلالية المؤسسات الدينية، مما يمنحها حرية أكبر في تحديد أجنداتها بعيدا عن الضغوط السياسية، يرى آخرون أن حرمانها من هذا الدعم قد يحد من قدرتها على تقديم الخدمات المجتمعية، وهو ما يتعارض مع الدور التقليدي للكنائس كمؤسسات أساسية في النسيج الاجتماعي الأمريكي، توفر الدعم للمحتاجين وتسهم في الاستقرار المجتمعي.
ثانيا: أما على المستوى السياسي، فإن هذه الخطوة قد تكون مقامرة محفوفة بالمخاطر بالنسبة لترامب وحزبه، حيث إن الدعم الإنجيلي هو أحد الركائز الأساسية لنجاحه الانتخابي، وقطع التمويل عن المؤسسات الدينية قد يدفع هذه الفئة إلى إعادة تقييم موقفها السياسي.
صحيح أن القاعدة المحافظة التي يعتمد عليها ترامب تميل إلى تأييد السياسات التي تقلص دور الحكومة، إلا أن الجانب العملي لهذا القرار قد يكون مكلفا سياسيا، حيث تجد العديد من المؤسسات الدينية نفسها في موقف حرج أمام مؤيديها الذين يعتمدون على الخدمات التي كانت تمول في السابق من قبل الدولة، وهذا قد يؤدي إلى حدوث تصدعات في التحالف التقليدي بين التيار المحافظ والقاعدة الدينية، مما يمنح الأحزاب المعارضة فرصة لاستقطاب أصوات جديدة من بين المتضررين من هذا القرار.
كما أن المعارضة السياسية لهذا الإجراء لن تقتصر على الديمقراطيين فقط، بل قد تمتد إلى بعض الجمهوريين المعتدلين الذين يرون أن هذه الخطوة قد تضر بفرص الحزب في الانتخابات القادمة، فالسياسة الأمريكية، كما هو معروف، تقوم على توازن دقيق بين الإيديولوجية والمصالح العملية، وأي خلل في هذا التوازن قد يكون له تداعيات غير متوقعة.
ومن هذا المنطلق، قد يجد ترامب نفسه في مواجهة مع بعض أعضاء حزبه الذين يخشون من أن يؤدي هذا القرار إلى خسارة أصوات الناخبين في المناطق التي تعتمد بشكل كبير على التمويل الفيدرالي لدعم الخدمات المجتمعية.
ثالثا: من الناحية القانونية قد يفتح تجميد التمويل الفيدرالي للمؤسسات الدينية الباب أمام معارك قضائية قد تصل إلى المحكمة العليا، فالدستور الأمريكي ينص بوضوح على أن الكونغرس هو الجهة المسؤولة عن تخصيص الأموال الفيدرالية، وأي تدخل من السلطة التنفيذية في هذا الشأن قد يعتبر انتهاكا لمبدأ الفصل بين السلطات، وبالتالي، قد يكون لهذا القرار تداعيات تتجاوز إدارة ترامب، حيث قد تصدر المحاكم أحكاما تحدد مدى قدرة أي رئيس مستقبلي على التدخل في توزيع التمويل الفيدرالي، مما قد يؤدي إلى تقييد السلطة التنفيذية في هذا المجال بشكل دائم.
علاوة على ذلك، فإن المسألة القانونية تتداخل مع القضية الحساسة المتعلقة بحرية الدين في الولايات المتحدة، فبعض الجماعات الدينية قد ترى في هذا القرار تمييزا ضد المؤسسات الدينية مقارنة بالمنظمات غير الربحية الأخرى، مما قد يدفعها إلى الطعن في القرار استنادا إلى التعديل الأول للدستور، الذي يضمن حرية ممارسة الشعائر الدينية، وفي حال نجحت هذه الطعون، فقد نشهد تغييرات في الطريقة التي يتم بها توزيع التمويل الفيدرالي مستقبلا، مما قد يجبر الحكومة على إعادة النظر في معايير تخصيص الأموال للمؤسسات غير الربحية.
وتشكل التدابير المالية التي اتخذها ترامب اختبارا حقيقيا للعلاقة بين الدين والدولة في الولايات المتحدة، حيث تسلط الضوء على تعقيد هذه العلاقة داخل مجتمع تعددي يسعى باستمرار إلى تحقيق توازن دقيق بين المبادئ الدستورية والواقعين السياسي والاجتماعي، كما تعكس هذه السياسات التحولات العميقة التي تمر بها السياسة الأمريكية تحت إدارة ترامب، التي تهدف إلى إعادة رسم دور الحكومة وفق رؤية محافظة، وقد تترتب عليها آثار طويلة الأمد على المشهدين السياسي والديني، خاصة في ظل استمرار الجدل القانوني والصراع السياسي حولها.
وقد تجد المؤسسات الدينية نفسها مضطرة إلى إعادة التفكير في استراتيجياتها التمويلية، مما قد يدفعها إلى البحث عن مصادر تمويل بديلة مثل التحالفات مع القطاع الخاص أو توسيع نطاق حملات التبرعات، لكن السؤال: إلى أي مدى يمكن للمؤسسات الدينية أن تستمر في تقديم الخدمات المجتمعية دون دعم حكومي؟ وهل ستؤدي هذه التغييرات إلى تراجع دور الكنائس في المجال الاجتماعي، أم أنها ستؤدي إلى زيادة استقلاليتها وتعزيز تأثيرها بطرق غير متوقعة؟
الواقع أن الإجابة على هذه الأسئلة ستتوقف على مدى قدرة الكنائس والمؤسسات الدينية على التكيف مع الظروف الجديدة، وكذلك على التطورات السياسية والقضائية التي قد تحدث في السنوات القادمة، لكن المؤكد من وجهة نظرنا هو أن هذا القرار قد يكون بداية فصل جديد في العلاقة بين الدولة والدين في الولايات المتحدة، وهو فصل سيحمل معه تحديات كبيرة للسياسة الدينية لولايات المتحدة الأمريكية في المستقبل.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=23407