المصطفى الراشيدي ـ دين بريس
تؤسس زيارة دونالد ترامب إلى الخليج لبنية استراتيجية جديدة تعيد تشكيل موقع المنطقة ضمن النظام الدولي، إذ تستثمر الولايات المتحدة اللحظة لاستعادة دورها القيادي من خلال تحالفات مالية تضمن لها النفوذ دون الحاجة إلى الانتشار العسكري المكلف.
ويتعامل ترامب مع الخليج باعتباره شريكا رأسماليا يملك السيولة والرغبة في التأثير، وليس كطرف تابع في معادلة الحماية التقليدية، ولذلك، تحضر الجولة بوصفها أداة لإعادة صياغة التوازنات، ولا ينظر إليها مجرد محطة دبلوماسية.
وتربط الإدارة الأمريكية بين هذه الزيارة وتوجهها نحو عالم متعدد الأقطاب، حيث تتصاعد أدوار قوى مثل الصين وروسيا، ويصبح الخليج ساحة تنافس ناعم على النفوذ، كما تنظر واشنطن إلى استثمارات الخليج الضخمة كوسيلة لتثبيت تحالفاتها الجيوسياسية، في حين تعتبر الدول الخليجية أن الوقت قد حان للتفاوض على موقعها كصاحبة قرار، ويتقاطع الطرفان عند منطق تبادل المصالح، ويتباعدان أحيانا عند تعريف الأولويات.
وتعلن العواصم الخليجية عن استثمارات ضخمة تتجاوز تريليوني دولار، في خطوة تهدف إلى تثبيت شراكة جديدة تؤسس لدور فاعل في ملفات دولية تتنوع بين الأمن الطاقي والتحولات الرقمية، وبينما تقدم الإمارات خارطة طريق اقتصادية تمتد لعقد كامل، تفتح السعودية ملفات التعاون في الذكاء الاصطناعي والطاقة المتجددة، وتمنح قطر امتيازات استراتيجية تشمل النقل الجوي والدعم اللوجستي، وهو ما يعكس وعيا جماعيا بأهمية التحول من تمويل الاستقرار إلى صياغة النظام.
وتعيد واشنطن عبر هذه الجولة رسم أدوات الضغط والتأثير، حيث توظف التحالفات الاقتصادية لتفكيك محاور إقليمية تقليدية، وتدفع الأطراف الفاعلة نحو تبني منطق المرونة الاستراتيجية، بما في ذلك إعادة تقييم الأولويات الأمنية، لذلك، تتحول ملفات مثل غزة واليمن وسوريا من ساحات مواجهة إلى منصات تفاوض مالي وتجاري، بينما يعاد طرح ملف إيران ضمن سيناريو مزدوج يجمع بين التلويح بالقوة والانفتاح على الوساطة الخليجية.
وتدفع هذه التغيرات الخليج نحو تبني دور تفاوضي عابر للمنطقة، إذ تستقبل العواصم الخليجية وفودا دولية لبحث أزمات عالمية، وتتحول إلى منصات لتبادل الأسرى وترتيب وقف إطلاق النار، تتعدى الجوار إلى مناطق مثل أوكرانيا والقرن الإفريقي، ومن هذا المنطلق، تنجح دول الخليج في تحويل فائضها المالي إلى فائض دبلوماسي، مستفيدة من تراجع المبادرات الأوروبية وتخبط السياسات التركية، ما يمنحها هامشا أوسع في صناعة القرار الدولي.
وتدير السعودية ملف التطبيع مع إسرائيل بحذر محسوب، حيث توازن بين ضغوط واشنطن ورغبة تل أبيب وبين الاعتبارات الداخلية التي تتأثر بشدة من الحرب في غزة، في حين يواصل ترامب التفاوض مع عواصم خليجية أخرى في محاولة لتوسيع دائرة الاعترافات، مقدما حوافز مالية وصفقات أمنية متقدمة، كما يوظف هذه الورقة ضمن موازناته مع الحكومة الإسرائيلية نفسها، التي تمر بأزمة داخلية عميقة تقلص من قدرتها على الضغط المباشر.
وتراجع قطر من موقع الفاعلية الإقليمية لا يعني انسحابها من المشهد، لكنها تجد نفسها أمام ضرورة إعادة تعريف أدواتها، خاصة بعد اهتزاز شبكة تحالفاتها التقليدية وتراجع وزن خطابها الإعلامي والديني (تلاشي الورقة الإخوانية)، بينما تستفيد السعودية والإمارات من مناخ إعادة الهيكلة، وتتقدمان بمبادرات تعيد بناء مفهوم القيادة الخليجية على قاعدة الاستثمار، والابتكار، وإعادة تشكيل العمق الاستراتيجي للمنطقة.
وتتحول الرؤية الخليجية من منطق الاتكال إلى منطق المشاركة الفاعلة، إذ تطرح نفسها كمصدر للأفكار، وتستثمر في خلق توازنات جديدة تسمح لها بالتفاوض كشريك نِدي، وتربط أمنها القومي باستقرار الأسواق العالمية، وبهذا التحول، تخرج من منطق “شراء الحماية” نحو استراتيجية “ضبط قواعد اللعبة”، سواء تعلق الأمر بالطاقة أو التكنولوجيا أو الأمن البحري.
وتثير صور الحفاوة المفرطة بترامب جدلا، إلا أن المظهر لا يعكس كامل الحقيقة، إذ تُدار خلف تلك المشاهد مفاوضات حازمة ومفصلة تضع مصالح العواصم الخليجية في صلب الحسابات، ويدرك الفاعلون الخليجيون أن التوازن بين الشكل والمضمون ضروري لضمان بقاء العلاقة مع واشنطن في إطار مفيد للطرفين، خاصة في ظل المناخ السياسي الأمريكي الذي يجعل من الحلفاء الماليين أدوات مهمة في الحملات الانتخابية.
ويدفع هذا السياق الخليج إلى استثمار انهيار النظام العربي الكلاسيكي لتعزيز موقعه كمحور جديد لصياغة الحلول، وبينما تغيب الجامعة العربية عن ملفات حيوية، تتقدم المبادرات الخليجية كبدائل عملية، قادرة على التمويل، والتفاوض، وإعادة البناء، ويعزز هذا الواقع فرضية أن المال الخليجي أصبح أداة لإعادة رسم الخرائط السياسية والأمنية في الشرق الأوسط.
وتربط دول الخليج مستقبلها بالقدرة على التحكم في مفاتيح الاقتصاد العالمي الجديد، إذ تُبرم اتفاقيات تشمل الذكاء الاصطناعي، الطاقات البديلة، والخدمات السحابية، وتتجه هذه الدول نحو تموقع استراتيجي يجعلها شريكة في بلورة النظام الدولي المقبل، مستفيدة من التحولات التكنولوجية والبيئية، ومستعدة لتحويل رأس المال إلى سلطة ناعمة فاعلة.
ويحاول ترامب توظيف هذا التفاعل الخليجي كورقة ضغط انتخابية، مستعرضا أمام ناخبيه صورة أمريكا التي تعود إلى الصدارة عبر صفقات ذكية وتحالفات مربحة، في حين ترسخ دول الخليج موقعها كشريك استراتيجي لا غنى عنه، يشارك في إعادة تعريف قواعد النفوذ والتأثير، ويمنح واشنطن الأدوات اللازمة لاستعادة زمام المبادرة دون الحاجة إلى خوض حروب مباشرة.
وتخرج هذه الزيارة الخليج من موقع الانتظار إلى موقع المبادرة، حيث تتقاطع أدوات القوة الناعمة مع الحسابات الصلبة، وتتداخل الاستثمارات مع المواقف، وتتوسع العواصم من مجرد مستورد للتكنولوجيا إلى شريك في صناعتها، وبذلك، تدخل المنطقة زمنا جديدا يحكمه التفاوض الذكي، وتدار فيه التحالفات بوعي استراتيجي لا يخضع لعواطف اللحظة أو أسر التاريخ.