كتبه: د. يوسف الحزيمري
لقد اصطفى الله عز وجل نبيه الكريم لحمل الرسالة الخاتمة إلى العالمين، وهيأه قبل البعثة بحادثة شق الصدر ونزع حظ الشيطان منه، وحبب إليه فعل الخيرات وترك المنكرات، حتى أضحى يلقب بين عشيرته وأهله بالصادق الأمين، فكان النبي صلى الله عليه وسلم “أكرم الخلق أخلاقاً، وأعلاهم فضائل وآداباً، امتاز بذلك في الجاهلية قبل عهد النبوة فكيف بأخلاقه بعد النبوة؟.وقد خاطبه ربُّه – تبارك وتعالى – بقوله له: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم:4] لقد أدَّبهُ ربُّه، فأحسن تأديبه، وربَّاه فأحسن تربيته، فكان خُلُقهُ القرآن الكريم، يتأدب به، ويؤدب الناس به”[1].
يقول محمد عزت دروزة: “والثناء من الله على خلق النبي صلّى الله عليه وسلّم بهذا الأسلوب البليغ التوكيدي، ووصفه بالعظمة رائع كل الروعة، يتضاءل أمامه كل ثناء ووصف وتكريم بشري، ثم كل ما حاوله بعض المسلمين في وصف شخصيته بأوصاف تكاد تخرجه عن نطاق البشرية، مما جاء في بعض كتب السيرة والشمائل على غير طائل وضرورة، وعلى غير ما صرح به القرآن من أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بشر كسائر البشر في جميع الأعراض والمظاهر، ورسول قد خلت من قبله الرسل، وليس بدعا فيهم كما جاء في آية سورة الأحقاف(9) هذه: {قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَلا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَّ وَما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ}، وفي آية سورة آل عمران[144] هذه:{وَما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ}، وفي آية سورة الأعراف[188] هذه:{قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرًّا إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَما مَسَّنِيَ السُّوءُ } ، وفي آية سورة الكهف [110] هذه:{قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً}، والمتبادر أن ذلك متأتّ من قصور الأفهام عن إدراك ما في أخلاق النبي صلّى الله عليه وسلّم من عظمة وما في نفسه من صفاء، وما في قلبه من إيمان وإخلاص جعله أهلا لاصطفاء الله، فحفزهم إلى البحث عن أسباب أخرى، فيها ما فيها من الغلو الذي لا ينسجم مع طبائع الأشياء، ولا يتسق مع نصوص القرآن”[2].
وعن هذا العجز عن وصف أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم، وربما تأتى من عجز الأفهام عن أن يصدر مثلها عن إنسان، ما روي “أن يهوديا من فصحاء اليهود جاء إلى عمر في أيام خلافته وقال: أخبرني عن أخلاق رسولكم. فقال عمر: اطلب من بلال فهو أعلم به مني. ثم إن بلالا دل على فاطمة عليها السلام وهي دلته على علي رضي الله عنه. فلما سأل عليا رضي الله عنه قال: صف لي متاع الدنيا حتى أصف لك أخلاقه. فقال اليهودي: هذا لا يتيسر لي فقال علي رضي الله عنه: عجزت عن وصف متاع الدنيا وقد حكم الله بقلته حيث قال: {قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ} [النساء: 77] فكيف أصف أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وقد شهد الله بأنه عظيم في قوله {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} [القلم: 4]”[3].
إن أخلاق رسول الله صلى الله عليه وسلم كانت محط تساؤل بين الوفود، فهي التي كان يسري خبرها بين القبائل وتستهويهم، وهي كانت الدافع إلى الدخول في الإسلام جماعات وفرادى، حتى قال العلماء: “ولم يكن فتح قبل الفتح أعظم من صلح (الحديبية)، وذلك أنّ المشركين اختلطوا بالمسلمين في تلك الهدنة، وسمعوا منهم أخلاق النّبيّ صلى الله عليه وسلم، ومحاسن شريعته، فأسلم منهم في تلك المدّة جماعة من رؤسائهم؛ كعمرو بن العاص، وخالد بن الوليد، في خلق كثير”[4].
حيث كانت أخلاقه صلى الله عليه وسلم في موازاة المعجزات التي أيده الله بها، وفي ذلك يقول المنفلوطي رحمه الله: “إن في أخلاق النبي -صلى الله عليه وسلم- وسجاياه التي لا تشتمل على مثلها نفس بشرية ما يغنيه عن كل خارقة تأتيه من الأرض أو السماء، أو الماء أو الهواء. إن ما كان يبهر العرب من معجزات علمه وحلمه، وصبره واحتماله، وتواضعه وإيثاره، وصدقه وإخلاصه، أكثر مما كان يبهرهم من معجزات تسبيح الحصى وانشقاق القمر، ومشي الشجر، ولين الحجر؛ ذلك لأنه ما كان يريبهم في الأولى ما كان يريبهم في الأخرى من الشبه بينها وبين عرافة العرافين وكهانة الكهنة وسحرة السحرة، فلولا صفاته النفسية وغرائزه وكمالاته ما نهضت له الخوارق بكل ما يريد، ولا تركت المعجزات في نفوس العرب ذلك الأثر المعروف، ذلك هو معنى قوله تعالى: {وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ} [آل عمران: 159]”[5].
ومن ثم كان عليه السلام الأسوة والقدوة الحسنة للمسلمين، بل للعالمين، قال تعالى: {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ في رَسُول الله أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} [الأحزاب: 21].
وقد تمثلت هذه الأسوة الحسنة في عظم أخلاقه صلى الله عليه وسلم، والتي عبرت عنها سيدتنا عائشة رضي الله عنها حينما سئلت عنها بأنها القرآن، و”إن القرآن يولى الناحية الأخلاقية عناية كبرى، بل إن هذا الكتاب العظيم هو الينبوع الثر، والمدرسة الأخلاقية العليا، التي تخرج منها رسول الإنسانية وتلقى عنها أخلاقه السامية، كما تشير إلى ذلك عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، عندما سئلت عن أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: (كان خلقه القرآن)”[6].
قال النووي: قولها: فإن خلق نبي الله – صلى الله عليه وسلم – كان القرآن: معناه: العمل به، والوقوف عند حدوده، والتأدب بآدابه، والاعتبار بأمثاله وقصصه، وتدبره وحسن تلاوته”[7].
لقد زكَّى الله عز وجل نبيه – صلى الله عليه وسلم – في كتابه الحكيم في غير موضع، قال تعالى: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ}.
قال الطبري: “يقول تعالى ذكره لنبيه محمد – صلى الله عليه وسلم -: وإنك يا محمد لعلى أدب عظيم، وذلك أدب القرآن الذي أدبه الله به وهو الإسلام وشرائعه”[8].
يقول محمد صالح المنجد “وهذا القرآن العظيم فيه دستور للأخلاق، وهذه سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم فيها ذكر كثير للأخلاق الحسنة، والتحذير من الأخلاق السيئة، وعلماؤنا قد اهتموا بهذا الموضوع اهتماماً كبيراً، لذلك تجدهم قد أفردوا الأخلاق بمؤلفات مثل كتاب: مكارم الأخلاق لـابن أبي الدنيا، ومساوئ الأخلاق للخرائطي، ولا تكاد تجد مصنفاً في الحديث إلا وتجد فيه من أبواب الأدب: الأخلاق والبر والصلة، وأفرد البيهقي رحمه الله الآداب بكتاب مستقل وغيره، وألف ابن عبد القوي منظومة الآداب وشرحها السفاريني في كتابه العظيم: غذاء الألباب شرح منظومة الآداب، وتجد كتباً مستقلة في بيان شمائله صلى الله عليه وسلم، ككتاب الشمائل المحمدية للترمذي، والشمائل المحمدية لابن كثير، وكتاب أخلاق النبي لـأبي الشيخ، وخصص ابن القيم رحمه الله جزءاً من كتابه زاد المعاد لبيان أخلاقه صلى الله عليه وسلم”[9].
ومن مصادر السيرة النبوية الشريفة “كتب الشمائل: وهي مقصورة على ذكر أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم وعاداته وفضائله وما كان يعمل في يومه من الصباح إلى المساء، وفي ليله من المساء إلى الصباح. وأشهر هذه الكتب وأولها: كتاب الشمائل للحافظ المنذري. وقد كتب كبار العلماء زيادات عليه أهمها وأضخمها وأطولها: كتاب الشفا في حقوق المصطفى للقاضي عياض، وقد شرحه الشهاب الخفاجي وسماه نسيم الرياض، وصنف في هذا الموضوع علماء آخرون، منها: كتاب شمائل النبي صلى الله عليه وسلم لأبي العباس المستغفري المتوفى سنة 432 هـ، والنور الساطع لابن المقري الغرناطي المتوفى سنة 552 هـ، وسفر السعادة لمجد الدين الفيروزابادي المتوفى سنة 812 هـ”[10].
ومما ينبغي استفادته من سيرته صلى الله عليه وسلم “أن نتعلم من السيرة أخلاق النبي – صلى الله عليه وسلم – فالله -عز وجل- وصفه فقال: {وَإِنَّكَ لَعَلَى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)} [القلم: 4]. “وإن حسن الخلق هو عنوان استفادة المسلم من هذا الدين وهديه، وهو الركيزة الأساسية في النجاة من النار وسلوك مسلك الأبرار بعد تقوى الله عز وجل”[11].
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخيارهم خيارهم لأهله))[12].
والخلق”هو عبارة عن أوصاف الإنسان التي يعامل بها غيره ويخالطه، وهي منقسمة إلى محمودة ومذمومة، فالمحمود منها صفات الأنبياء والأولياء والصالحين كالصبر عند المكاره، والحلم عند الجفاء، وتحمل الأذى، والإحسان للناس والتودد لهم، والمسارعة في قضاء حوائجهم، والرحمة بهم، والشفقة عليهم، واللين في القول، والتثبت في الأمور، ومجانبة المفاسد والشرور، والقيام على نفسك لغيرك. قال الحسن البصري: حقيقة حسن الخلق بذل المعروف، وكف الأذى وطلاقة الوجه. قال القاضي: إن حسن الخلق منه ما هو غريزة، ومنه ما هو مكتسب بالتخلق والاقتداء بغيره”[13].
قال السندي: “إن حسن الخلق يحمل الإنسان على أن يؤدي إلى الخالق حقه، وإلى الخلق حقهم، وبه يتم الأمر مع الخالق والخلق”[14].
وفي الختام يجدر التنبيه والإشارة إلى:
* أهمية الأخلاق في حياة المسلم وأنَّ حُسن الأخلاق والمعاملة الطَّيِّيبة للآخرين دليل على سلامة عقيدة المسلم، وقوَّة إيمانه.
* إنَّ النِّظام الأخلاقيّ في الإسلام مستمدٌ من كتاب اللَّهِ تعالى، وسُنَّةِ نبيه ، ولا يجوز للمسلمِ أن يقتبس الأخلاق والسلوكَ مِن مصادرَ أُخرى.
* إنَّ المُصَنَّفات في مَجال التَّربية، والسّلوك عند المسلمين، ولا سيما المُحدِّثين منهم قد أخذت أنماطاً متعددة، فمنهم مَن صَنَّف في أخلاق النَّبيِّ (، ومنهم مَن صَنَّفَ في مكارم الأخلاق ومعاليها، ومنهم مَن ألَّفَ في مساوئ الأخلاق، ومنهم مَن صَنَّف في المحاسنِ والأضداد، وَمِنهم مَن صَنَّفَ في أخلاق الأتقياء والنَّجاة مِنَ الأشرار، ومنهم مَن كتبَ في أخلاقِ الملوك ومنهم مَن كَتَبَ في عِشرَة النِّساء، ومنهم مَن كتب عن خُلُقِ المُسْلِمِ، ناهيكَ عن كتبِ السُّلوكِ والآدابِ، والتَّرغيب والتَّرْهيبِ والتي لم يَخل منها عصر مِن العُصور”[15].
ـــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1 الطريق إلى الإسلام، محمد بن إبراهيم بن أحمد الحمد، الناشر: دار ابن خزيمة، الطبعة: الثانية (ص20)
2 التفسير الحديث، دروزة محمد عزت، الناشر: دار إحياء الكتب العربية – القاهرة، الطبعة: 1383هـ، (1/ 365)
3 غرائب القرآن ورغائب الفرقان، نظام الدين الحسن بن محمد بن حسين القمي النيسابوري (ت 850هـ)، تحقيق: الشيخ زكريا عميرات، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت، الطبعة: الأولى – 1416 هـ (6/ 531)
4 حدائق الأنوار ومطالع الأسرار في سيرة النبي المختار، محمد بن عمر بن مبارك الحميري الحضرمي الشافعي، الشهير بـ «بَحْرَق» (ت 930هـ)، تحقيق: محمد غسان نصوح عزقول، الناشر: دار المنهاج – جدة، الطبعة: الأولى – 1419 هـ (ص329)
5 النظرات، مصطفى لطفي بن محمد لطفي بن محمد حسن لطفي المَنْفَلُوطي (ت 1343هـ)، الناشر: دار الآفاق الجديدة، الطبعة الأولى 1402هـ- 1982م، (1/ 150)
6 دراسات وتوجيهات إسلامية، أحمد سحنون (ت 1424هـ)، الناشر: المؤسسة الوطنية للكتاب، الجزائر، الطبعة: الثانية، 1992 م (ص275)
7 المنهاج شرح صحيح مسلم بن الحجاج، أبو زكريا محيي الدين يحيى بن شرف النووي (ت 676هـ)، الناشر: دار إحياء التراث العربي – بيروت، الطبعة: الثانية، 1392هـ (6/ 26)
8 تفسير الطبري = جامع البيان عن تأويل آي القرآن، المؤلف: أبو جعفر، محمد بن جرير الطبري (224 – 310هـ)، توزيع: دار التربية والتراث – مكة المكرمة ، الطبعة: بدون تاريخ نشر (23/ 528)
9 دروس للشيخ محمد صالح المنجد، دروس صوتية قام بتفريغها موقع الشبكة الإسلامية (258/ 4)
10 الأساس في السنة وفقهها – السيرة النبوية، المؤلف: سعيد حوّى (المتوفى 1409 هـ)، الناشر: دار السلام للطباعة والنشر والتوزيع والترجمة، الطبعة: الطبعة الثالثة، 1416 هـ – 1995 م، (1/ 110)
11 محبة الرسول بين الاتباع والابتداع، عبد الرؤوف محمد عثمان، الناشر: رئاسة إدارة البحوث العلمية والإفتاء والدعوة والإرشاد إدارة الطبع والترجمة – الرياض، الطبعة: الأولى، 1414هـ (ص94)
12 رواه أحمد 2/ 250، وأبو داود (4682) وصححه الترمذي (1162) وابن حبان (479) والحاكم 1/ 3 من حديث أبي هريرة – رضي الله عنه –
13 شرح سنن أبي داود، شهاب الدين أبو العباس أحمد بن حسين بن علي بن رسلان المقدسي الرملي الشافعي (ت 844 هـ)، تحقيق: عدد من الباحثين بدار الفلاح بإشراف خالد الرباط، الناشر: دار الفلاح للبحث العلمي وتحقيق التراث، الفيوم – جمهورية مصر العربية، الطبعة: الأولى، 1437 هـ – 2016 م (18/ 203)
14 مسند أحمد، طبعة الرسالة، (12/ 366)
15 جزء فيه حديث رسول الله ((أكمل المؤمنين إيماناً أحسنهم خلقاً، وخيارهم خيارهم لأهله)) رواية ودراية، د. عبد الرحمن بن محمد بن شريف، مدرس الحديث بقسم أصول الدين – كلية الشريعة والدراسات الإسلامية، جامعة قطر – الدوحة، مجلة جامعة أم القرى 19 – 24 (3/ 214)
Source : https://dinpresse.net/?p=18727