في كتابه “آمن” (Believe) يشبه روس دوثات ماكس (Ross Douthat makes) التدين بتعلم لعب كرة القدم، حيث يمكن للفرد أن يمارس أولا اللعبة بمفرده، لكنه بعد ذلك ينضم إلى فريق، حيث يتفاعل مع الآخرين، يتعلم أنماط اللعب، ويفهم ديناميكياتها الأعمق.
في نظري، يكشف هذا التشبيه عن طبيعة الإيمان، فهو لا بد أن يبدأ كـ”تجربة فردية”، لكنه لا يتفاعل إلا عندما يتحول إلى ممارسة داخل مجموعة، تعكس جوهر الدين كظاهرة كونية لا تقتصر على القناعة العقلية المعزولة، بل تتجلى كتفاعل حيوي داخل منظومة أوسع تتجاوز الإدراك الفردي.
ويقدم لنا التاريخ الديني أمثلة حية على هذا الانتقال من العزلة إلى التأثير، حيث مر العديد من الرسل بفترات “تأمل فردي” قبل أن ينخرطوا في “الفعل الجماعي”، فموسى، على سبيل المثال، عاش تجربة إيمانية فردية امتدت عشر سنوات في أرض مدين، بعيدا عن صخب المدن، غارقا في تأملاته وسط الصحراء الشاسعة، حتى تجلت له اللحظة المفصلية بجانب الوادي المقدس طُوى (رأى نورا)، إيذانا ببداية مهمته الرسالية.
أما يوسف، فقد اختبر تجربة مختلفة ولكنها ذات جوهر مشابه، إذ قبع في السجن لسنوات، ربما سبعا، في عزلة تأملية قسرية، جعلته أكثر وعيا بمحيطه، حتى خرج من ضيق الزنزانة إلى سعة “الحكم”، متحملا مسؤولية تدبير أزمة اقتصادية عصفت بمصر.
لكن النموذج الفلسفي الأعمق يتجلى في تجربة محمد، الذي اعتزل الناس في غار حراء لعشرين عاما، مستغرقا في تجربة تأملية استبطانية، بلغت ذروتها حين نزل عليه الوحي (رأى روح القدس)، ليحمل أعظم رسالة عرفها التاريخ. (من الضروري ان يتساءل الباحث عن سبب هذه العزلة الفردية)
غير أن المشترك بين هؤلاء جميعا هو أن العزلة لم تكن غاية في ذاتها، بل مقدمة لحركة اجتماعية واسعة، حيث انتقلوا من الانعزال إلى الفعل، ومن التأمل إلى التغيير، ومن الذات إلى المجتمع، وكما يشير “دوثات”، فقد انتقلوا من مرحلة “التدريب الذاتي” إلى ديناميكية اللعب “ضمن فريق”، لأن الإيمان، في جوهره قناعة داخلية، وأيضا قوة حية تتفاعل مع العالم، تحاول إعادة تشكيله وفق رؤية تتجاوز حدود التجربة الفردية.
وهنا يبرز التحدي الأكبر: الاصطدام بالموروث، ذلك الموروث الذي يرى في استمرارية الماضي حقيقة مطلقة، حيث يكتفي الأبناء بتكرار ما وجدوا عليه آباءهم، دون مساءلة جوهر الإيمان الذي انبثقت منه تلك الممارسات.
لكن في بعض الأحيان، يكون الأبناء هم من يرفضون إيمان وتراث آبائهم، في لحظة رفض عنيفة يعبر عنها القرآن الكريم: ﴿وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَّكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَقَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِن قَبْلِي وَهُمَا يَسْتَغِيثَانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ مَا هَٰذَا إِلَّا أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ﴾.. (ليس دائما الآباء هم من يرفضون الجديد)
إنها لحظة صدام بين جيلين، حيث يتحول الموروث الإيماني إلى موضع شك لدى الأبناء، فيرونه مجرد امتداد للأساطير، بينما الآباء، وقد استندوا إلى تجربتهم الروحية، يستغيثون بالله ليهدي أبناءهم إلى الحق الذي أدركوه، إنها مواجهة تتكرر عبر الزمن، حيث لا يكون الإيمان مجرد إرث عائلي، بل اختبارا يخوضه كل جيل بشكل مستقل، بحثا عن اليقين.
وفي سياق زمننا الراهن، يطرح “دوثات” فكرة أن الإيمان لم يعد مجرد قبول أعمى بالموروث، بل بات خيارا عقلانيا في عالم تتراكم فيه الأدلة التي تجعله أكثر قابلية للتصديق، بينما يتطلب الإلحاد إنكارا متزايدا للمعطيات المتجددة.
وحين يعلن الإنسان اليوم: “لا أؤمن”، فهو لا يعبر عن قناعة نهائية، بل يتخذ موقفا دفاعيا في معركة لم تُحسم بعد، لأن معطياتها لا تزال قيد التشكل، ولأن الأسئلة الكبرى حول الوجود والمعنى لم تجد بعد إجابة نهائية تبرر رفض الإيمان كليا.
يؤرقني هذا التساؤل:
هل أصبح تغيير العالم اليوم مشروطا باستعادة التجربة التأملية الفردية، كمسار ضروري للوصول إلى الخلاص، تماما كما فعل موسى في عزلته، ويوسف في سجنه، ومحمد في غاره؟
أؤمن بأن البشرية لم تعد بحاجة إلى دين جديد، ولا إلى رسالة أخرى، بل إلى “تجربة روحية فردية” تعيد اكتشاف العمق الذي لم يُستنفد في القرآن، ذلك الكتاب الذي بقي وحده بعد أن خُتمت النبوة وانقطعت الرسالات، فليس المطلوب اختراع يقين آخر، بل الغوص في النص الإلهي بصفاء المتأمل، لاستخلاص النور الذي تجلى لمحمد في الغار ولموسى في الوادي المقدس.
هناك مسارات لم تكتشف بعد، وأسرار تنتظر من يكشفها، لأن الحقيقة ليست ملكا للماضي، بل نور ممتد، يظل قابلا للاستكشاف والتلقي لمن أخلص البحث وسلك درب المعرفة بنية صادقة.
لابد للإنسان من خوض تجربة تأملية فردية، بحثا عن النور في لحظته ومكانه المقدرين، حيث لا يكون التجلي صدفة، بل استجابة لقانون روحي دقيق، فلم يكن عبثا أن يتلقى موسى نوره في الوادي المقدس، ولا أن يرى محمد الوحي في ظلمة الغار، فالمكان والزمان ليسا إطارا للأحداث فحسب، بل هما جزء من هندسة القدر التي تهيئ الإنسان لاستقبال الحقيقة (النور).
وحين تكتمل الرؤية، لا يبقى التأمل غاية في ذاته، بل يصبح نقطة انطلاق نحو الفعل، حيث يتحول النور المكتسب إلى حركة حية ضمن منظومة جماعية، تماما كما يشير “روس دوثات”، حين يتجاوز الفرد مرحلة التدريب التأملي ليصبح جزء من فريق يسعى نورهم بين أيديهم في الأرض، ويجسدون رحمة الله الواسعة إلى العالمين..
المصدر : https://dinpresse.net/?p=23170