زعيم الخيرالله
هناكَ قاعِدَةٌ معروفةٌ عندَ الأُصوليينَ السُّنَّة، وهذهِ القاعِدَةُ تقول:” تتغيَّرُ الأحكامُ بِتَغَيُّرِ الأزمان” . ولايرادُ من “الأزمان” هنا معناها الفلسفي ؛ حيثُ يعرِّفُ الفلاسفَةُ ” الزمان” بِأَنَّهُ : مقدارُ الحركةِ . ولايرادُ منها معناها الفيزيائي والرياضِيّ، حيثُ اختلفَ الزمانُ في فيزياء نيوتن الذي اتسمَ بصفةِ الاطلاق عنهُ في فيزياء اينشتين الذي اعتبر الزمانَ بعداً رابِعاً واعتبرَهُ نِسبِيّاً . الزمان عند الفقهاء هو التغيُّراتُ والظُروفُ المُحيطَةُ بنا .
ولكِنَّ السؤالَ الذي يطرحُ نفسَهُ هنا هو : كيف تتغَيَّرُ الاحكامُ الالهيَّةُ الثابِتَةُ في الواقعِ وَنَفسِ الأمرِ؟ ويُجيبُ أصحابُ هذهِ القاعِدَةِ : بأنَّنا لانعني بالاحكام التي يُغَيُّرُها الزمان هي الاحكامُ الالهيَّةُ الثابِتَةُ بل نعني بها الاحكامُ المُتَغَيِّرَةُ ، فهذهِ هي الاحكامُ التي تَتَغَيَّرُ بتَغَيُّرِ الأزمانِ.
هذا مايقولُهُ مشهورُ الأُصوليينَ من اهلِ السُّنَّةِ ، ولكنَّ الأُصوليينَ الشيعةَ قالوا بقاعِدَةٍ أُخرى هي:ر” الاحكامُ تَتَغَيَّرُ بِتَغَيُّرِ موضوعاتِها”. ومعنى هذهِ القاعدةِ ، أَنَّ الازمانَ لاتغيِّرُ الأحكامَ الشَّرعِيَّةَ وَانَّما تُغَيِّرُ موضوعاتِها ، وتبقى الاحكامُ على ثَباتِها، ومن خلالِ الأمثِلَةِ تَتَضِحُ هذهِ القاعِدَةُ .
فعلى سبيلِ المثال، نقولُ: أنَّ الخمرَ حرامٌ وَنَجِسَةٌ ، هذانِ حُكمانِ للخَمرِ غير قابلينِ للتغيير والتبديلِ ولكن اذا تغَيَّرَ الموضوعُ والذي هو “الخمرُ” هنا، وانقلبَ خَلّاً فحينئذٍ يصبح ماكان خمراً بانقلابِهِ خلّاً حلالاً وطاهراً . الذي غَيَّرَهُ الزمانُ هنا ليس الحكم ؛ لانه ثابتٌ من الأول بحرمة الخمرِ ونجاستها ، وثابتٌ للخَلِّ بالحلِيَّةِ والطهارَةِ . الذي تَبَدَّلَ هو الموضوعُ الخارجي الذي هو الخمرُ بانقلابِهِ خلّاً. مثال آخر: الخَشَبَةُ المُتَنَجِسَةُ بالبولِ اذا أحرقَتْها النارُ واستحالَتْ رماداً تكونُ طاهرةً . هذهِ الخَشَبَةُ التي كانتْ نَجِسَةً اصبحتْ طاهرةً لانَّ الموضوعً تَغَيَّر. وقد ضرب الفقهاء مثلاً آخرَ وهو : الكلبُ المطمورُ في أرضٍ ملحِيَّةٍ لمئاتِ السنين بحيثُ استحالَ الى ملحٍ فهنا نقول بالطهارة بسبب تبدل الموضوع الخارجي. مع ملاحظة أنَّ المالكِيَّةَ قالوا بطهارةِ الكلب.
هذه الموضوعاتُ هي موضوعاتٌ حِسِيَّةٌ ، ولكن هناك حالات من التغير تطرأ على الموضوع بتغيّر بعض الصفات وهذه الصفاتُ ليست حسيَّةً مشاهدةً بالحاسة البصريَّةِ ، ومثالُها: الدم ، الفقهاء يقولون بحرمةِ بيعِ الاعيان النجسة كالدمِ اذا لم تكن له فائدةٌ مُحَلَلَةٌ مقصودةٌ لدى العُقَلاءِ ، في السابق، لم تكن للدم فائدةٌ محلَلَةٌ مقصودةٌ لدى العقلاء ، بل كانت فائدتُه فائدةً مُحَرَّمَةٌ وهي شُربُهُ، أما اليومَ ، فتحققت فوائدُ كثيرةٌ للدم وهي اعطاؤُهُ للمرضى من اجل انقاذ حياتهم ، فاصبحت لهُ فائِدَةٌ مُحَلَلَةٌ مقصودةٌ لدى العقلاء وبالتالي يجوز بيعُهُ . فهنا الموضوع وهو ” الدمُ” بقِيَ نفسه ولكن وجدت فيه صفاتٌ جديدةٌ لم تكُنْ معروفَةً في السابِقِ ، وكأَنَّهُ صارَ موضوعاً جديداً ؛ ولذا جازَ بيعُهُ من اجلِ انقاذ جريحٍ أو اسعافِ مريضٍ.
وَأحياناً يبقى الموضوع على ماهو عليه ، ولكنّ الصفةَ التعاقديَّةَ تُغَيِّرُ الحكم مثالهُ : الرجل والمرأة قبل العقدِ كانا أجنبيينِ عن بعضهما البعض ، لايحلُّ لكل منهما لمس الآخر أوتقبيله أو سائر الاستمتاعات الاخرى ، ولكن بعد العقد يحل لهما كلَّ شيء ، الذي احدث التغيير هي الصفةُ التعاقديَّةُ التي انضمت الى الموضوع . اذن الاحكام لاتتغير بتغير الازمان ، وانما الزمن يحدث اما تغييرات حِسيَّة في الموضوعِ أَو تغييرات في الصفات كالمنفعة المحللة المقصودة في الدم والتي تجيزُ لنا بيعَهُ ، أو الصفة التعاقدية التي التي حدثت
للموضوع فغيرته من حرمة لمس المرأة قبل العقد الى حليّة سائر الاستمتاعات بعد العقد .
هذا الموضوع طويل ومتشعب ولاتسعه هذه المقالة ، وانَّما هي مجرد اثارات عسى ان ينتفع القارئ الكريم بها.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=20907