محمد عسيلة*
تسعى هولندا اليوم إلى تطبيق أكثر السياسات تشددًا في أوروبا تجاه اللجوء والهجرة، وهو تحول يثير الدهشة بالنسبة لشعب كان يُعرف بانفتاحه وتسامحه لعقود طويلة.
لكن ما الذي يقف وراء هذا التغيير الجذري في المزاج الوطني؟ وما الذي يمكن أن نستفيده من التجربة الهولندية في النقاشات المتعلقة بالهجرة واللجوء في دول مثل ألمانيا؟
من “أنا غاضب” إلى الانعزال السياسي
في عام 1993، نظمت هولندا حملة بطاقات بريدية مشهورة حملت عبارة “أنا غاضب”، حيث تم توزيع هذه البطاقات في جميع أنحاء البلاد لحث المواطنين على إرسالها إلى محطة إذاعية. جمعت المحطة 1.2 مليون بطاقة تم إرسالها إلى المستشار الألماني آنذاك هلموت كول. السبب؟ كان الهولنديون غاضبين من تعامل ألمانيا مع اللاجئين في تلك الفترة، حيث أدت الهجمات العنصرية في بعض المدن الألمانية إلى مقتل طالبي لجوء. لم يكن هذا الوضع مقبولاً لدى الهولنديين، وعبروا عن غضبهم من جيرانهم الألمان.
ما يثير الاستغراب هو كيف تبدلت الأدوار بين هولندا وألمانيا منذ ذلك الحين. ففي حين أن ألمانيا قد اتخذت خطوات لتقييد تدفق اللاجئين والمهاجرين، إلا أنها لا تزال تُعتبر دولة منفتحة نسبيًا على العالم، خصوصًا بعد أزمة اللاجئين في 2015/2016. أما هولندا، التي كانت رمزًا للتسامح والانفتاح، فقد بدأت تتجه نحو سياسات أكثر تشددًا تجاه الهجرة واللجوء.
خيرت فيلدرز، زعيم الحزب اليميني المتطرف “حزب الحرية” (PVV)، يقود اليوم التحول السياسي في هولندا. ورغم أنه لم يصل بعد إلى منصب رئيس الوزراء، إلا أن حزبه هو الأكبر في الحكومة اليمينية الحالية. فيلدرز معروف بمواقفه المتطرفة والمعادية للإسلام والمهاجرين. وزيرة اللجوء في حكومته، مارجولين فابر، تعمل على تنفيذ سياسات تهدف إلى جعل هولندا أقل جاذبية لطالبي اللجوء. وقد أعلنت مؤخرًا عن نية الحكومة إعلان حالة الطوارئ لتعليق قواعد اللجوء الأوروبية، بهدف اتخاذ إجراءات تقلل من استقبال المهاجرين.
يُعرف الهولنديون تاريخيًا بتسامحهم وانفتاحهم، وهي صورة متجذرة في تاريخهم الاجتماعي والسياسي، خصوصًا في الحركات الاحتجاجية في الستينيات والسبعينيات. في تلك الفترة، كانت أوروبا، بما في ذلك هولندا، تشهد موجة من التحولات الاجتماعية التي دفعت بالمجتمعات نحو مزيد من الانفتاح والتحرر. لكن هذا المزاج بدأ في التغير مع حلول التسعينيات.
سياسات الاندماج الفاشلة أدت إلى ظهور مجتمعات موازية في بعض المدن الهولندية، وبدأت تتزايد المخاوف المتعلقة بالهجرة. هجمات 11 سبتمبر 2001 في الولايات المتحدة واغتيال السياسي اليميني بيم فورتوين والمخرج ثيو فان جوخ في هولندا ساهمت في زيادة هذه المخاوف، مما أدخل البلاد في مرحلة جديدة من التشاؤم تجاه الهجرة، وهي المرحلة التي لا تزال مستمرة حتى يومنا هذا.
ويمثّل المسلمون ما نسبته 5% من إجمالي عدد السكان البالغ 17 مليون نسمة، بواقع 850 ألف نسمة وفق إحصاءات 2019. معظم هؤلاء المسلمين من الأتراك الذين يبلغ عددهم قرابة 400 ألف نسمة، يليهم المغاربة بحوالي 390 ألفًا، وفق مركز الإحصاء الهولندي “سي بي إس”. هؤلاء المسلمون يشكلون جزءًا أساسيًا من النسيج الاجتماعي في هولندا، ولكن السياسات الجديدة تجعلهم عرضة للتمييز المتزايد. إذ يتم توجيه خطاب سياسي متشدد ضدهم، مما يفاقم من شعورهم بالعزلة والاضطهاد.
على الرغم من صورة هولندا كدولة منفتحة، إلا أن الهولنديين يظهرون حبًا للنظام والقوانين أكثر مما يعتقد البعض. النائب الألماني أوتو فريكه يشير إلى أن بعض المجموعات استغلت تسامح الهولنديين لصالحها على حساب النظام الاجتماعي، مما أدى إلى شعور عام في المجتمع بأن هذا التسامح قد تم استغلاله بشكل سلبي. ونتيجة لذلك، تضاءلت قدرة الهولنديين على التسامح مع انتهاكات القوانين بشكل ملحوظ في السنوات الأخيرة.
وتبقى التجربة الهولندية تعكس في تصورنا تحولًا جذريًا في المواقف تجاه الهجرة واللجوء على مدار العقود الثلاثة الماضية، حيث انتقلت من دولة معروفة بتسامحها وهدوئها إلى دولة تسعى إلى فرض سياسات لجوء متشددة. هذه التجربة تطرح أسئلة مهمة حول تداعيات هذه السياسات المتطرفة على المسلمين والمغاربة في هولندا والعالم.
فهل سيؤدي هذا التشدد المتزايد إلى عزل المسلمين والمغاربة وتهميشهم داخل المجتمع الهولندي؟ وكيف يمكن للمسلمين مواجهة هذا المناخ السياسي المتغير؟
في ظل تصاعد الخطاب المتشدد والسياسات المتطرفة تجاه الهجرة في هولندا، يصبح دور الفاعل المدني المسلم أكثر أهمية من أي وقت مضى. على المسلم الهولندي أن يدرك أن التغيير لا يأتي فقط من الخارج، بل يبدأ من داخل مجتمعه، سواء من داخل المسجد أو من خلال الانخراط في مؤسسات المجتمع المدني.
داخل المسجد، يلعب الفاعل المسلم دورًا محوريًا في تعزيز القيم الإيجابية، مثل التسامح والتعاون والتعايش السلمي. من خلال الخطب والدروس الدينية، يمكن تعزيز الهوية الإسلامية المعتدلة وتوضيح كيفية التفاعل مع الآخرين في مجتمع متعدد الثقافات. كما يمكن للمسجد أن يصبح مركزًا للنشاطات الاجتماعية والحوارات بين الأديان، مما يعزز صورة الإسلام كدين ينبذ التطرف والعنف ويشجع على السلام والاندماج.
خارج المسجد، يجب أن يكون الفاعل المدني المسلم ناشطًا في مختلف مجالات الحياة العامة، سواء في التعليم أو العمل أو السياسة. يمكن للمسلمين المشاركة في الحوارات العامة والدفاع عن حقوقهم من خلال الانخراط في الجمعيات والمجالس المحلية، والعمل على بناء جسور مع المجموعات الأخرى لتعزيز فهم مشترك وحماية حقوق الأقليات. كما أن الانخراط في وسائل الإعلام ومواقع التواصل الاجتماعي يمكن أن يلعب دورًا حاسمًا في مواجهة الصورة النمطية السلبية عن المسلمين.
إن هذه المرحلة تتطلب تعاونًا وثيقًا بين الفاعلين المسلمين ومختلف القوى السياسية والمدنية لتصحيح المسار السياسي والاجتماعي، والعمل على تعزيز قيم العدالة والمساواة.
فهل سيتمكن المسلمون في هولندا من بناء تحالفات قوية تساعدهم في مواجهة هذا المناخ السياسي المتغير؟ وكيف يمكن للفاعلين المدنيين المسلمين أن يكونوا جزءًا من الحلول السياسية والاجتماعية التي تواجه بلادهم؟
ـــــــــــــــــ
* استاذ باحث في قضايا الدين والثقافة والهجرة
استاذ محاضر بالمدرسة العليا للعلوم الاجتماعية التطبيقية بكولونيا
مستشار في قضايا الاندماج والتربية والتعليم لدى هيئات تعليمية ومدرسية ولائية بألمانيا
المصدر : https://dinpresse.net/?p=21116