هل يساهم “صدام العقائد” في إعادة رسم خرائط النفوذ العالمي؟

عمر العمري
2025-01-29T19:15:35+01:00
آراء ومواقف
عمر العمري29 يناير 2025آخر تحديث : الأربعاء 29 يناير 2025 - 7:15 مساءً
هل يساهم “صدام العقائد” في إعادة رسم خرائط النفوذ العالمي؟

أعتقد أن الإمبريالية الدينية الجديدة، مع عودة دونالد ترامب إلى السلطة، بدأت تتشكل معالمها كقوة صاعدة تعيد رسم معادلات النفوذ الدولي، حيث لم يعد الدين عنصرا ثقافيا أو هوية روحية فحسب، وإنما تحول إلى أداة استراتيجية تستخدمها القوى الكبرى في تشكيل التحالفات وفرض واقع سياسي جديد.

وتعزز هذه المقاربة، التي يتبناها التيار المحافظ في الولايات المتحدة، بقيادة ترامب، توجها يرى في المسيحية الأصولية ركيزة للحكم، وفي القومية الدينية أساسا لإعادة هندسة النظام الدولي وفق تصورات تتجاوز المصالح التقليدية إلى سرديات مقدسة تحدد ملامح الصراع القادم.

وتقوم سياسة ترامب الدينية على توظيف العقيدة لتعزيز هيمنة أمريكا، حيث يسعى إلى تفكيك الإرث الليبرالي واستبداله بمنظومة محافظة تجعل من الدين مكونا أساسيا في صياغة السياسات الداخلية والخارجية، هذا التوجه ترجم إلى سياسات هيكلية مثل “Project 2025″، الذي يهدف إلى إعادة تشكيل مؤسسات الدولة بحيث تنسجم مع رؤية دينية محافظة.

وتستهدف الإدارة الدينية الجديدة إلغاء وزارة التعليم، وتقييد برامج التنوع، وتشديد قوانين الإجهاض، في محاولة لتنميط المجتمع الأمريكي وفق هوية دينية ـ قومية تجعل من “الاستثناء الأمريكي” حقيقة إيديولوجية لا مجرد مفهوم سياسي.

ولا تقتصر هذه المحاولات على الداخل الأمريكي، بل تمتد إلى السياسة الخارجية، حيث يعاد تعريف العلاقات الدولية وفق منظور ديني يتجاوز المصالح البراغماتية إلى صراع رؤى حضارية، وهذا تعزير لنظرية جديدة ستقوم على “صدام العقائد” (مع استحضار فكرة المخلص الذي ينتظره الشيعة والسنة والمسيحيون واليهود)، على غرار نظرية “صامويل هنتنجتون” القائمة على “صدام الحضارات”.

وهكذا تتحول، العلاقة مع إسرائيل، تحت إدارة ترامب، من تحالف استراتيجي إلى “تحالف لاهوتي”، حيث ينظر إلى دعم الدولة العبرية كجزء من تحقيق نبوءات توراتية (انتظار لمعركة هرمجدون الحاسمة حسب السرديات العقائدية)، مما يجعل أي تسوية مع الفلسطينيين غير قابلة للتصور داخل العقل المحافظ الأمريكي، وبالتالي تدفع هذه الرؤية نحو تصعيد دائم في الشرق الأوسط، حيث يمكن اعتبار استمرار الصراع كحتمية دينية، وليس كأزمة سياسية قابلة للحل الدبلوماسي (يمكن الاشارة الى تصريحات نتنياهو ذات الحمولة العقدية اثناء حرب غزة).

وفي موازاة ذلك، تأخذ المواجهة مع الصين مثلا منحى مختلفا، حيث لن تكون المنافسة محكومة بالمصالح الاقتصادية والجيوسياسية، وإنما تعدو معركة ثقافية ـ دينية تعيد تعريف طبيعة الصراع بين الشرق والغرب، فالصين، التي ينظر إليها في الخطاب الترامبي كـ”إمبراطورية إلحادية”، سيتم تصويرها على أنها تهديد مباشر للقيم المسيحية الغربية، مما يجعل المواجهة معها تتجاوز البعد الاقتصادي إلى صراع وجودي بين رؤيتين متناقضتين للعالم.

أما روسيا، فبالرغم من كونها خصما تقليديا، فإن بعض المحافظين الأمريكيين يرون فيها حليفا محتملا بحكم هويتها الأرثوذكسية، التي تتقاطع مع سردية الدفاع عن “العالم المسيحي” ضد الليبرالية الغربية المتطرفة، وقد ينتج عن ذلك إعادة تشكيل التوازنات الدولية بالدفع نحو استقطاب جديد يحكمه التنافس على من يملك “الشرعية الأخلاقية” لقيادة العالم.

وسيمتد ذلك أيضا إلى إعادة تشكيل الصراعات الإقليمية، حيث تجد الحركات الإسلامية المحافظة والتيارات الإيديولوجية العابرة للحدود نفسها أمام مشهد توظف فيه العقائد كأداة لفرض الهيمنة الغربية، مما يقوي من وجود خطاب مضاد يرى في صعود الإمبريالية الدينية الأمريكية ـ الإسرائيلية إعلانا عن حرب ثقافية هدفها العميق هو إعادة صياغة هوية المجتمعات الإسلامية، عبر فرض “الدين الابراهيمي الجديد”.

وتتجلى نظرية “تصادم العقائد” بوضوح في الصراع بين أمريكا وإسرائيل وإيران، حيث يتجاوز النزاع البعد السياسي ليتحول إلى مواجهة وجودية ذات طابع ديني، تستمد زخمها من سرديات مقدسة، فتنظر إيران إلى مقاومة واشنطن كجزء من “التكليف الإلهي” في معركة المستضعفين ضد المستكبرين، بينما ترى أمريكا في إيران خطرا يهدد منظومتها الليبرالية والدينية، مما يعمق الهوة بين الطرفين ويجعل الصدام أكثر تعقيدا واستدامة.

وفي نظري، فإنه مع تنامي مثل هذه الرؤى، يصبح الصدام بين القوى الإسلامية المحافظة والقومية الدينية الغربية حتميا في ظل غياب مسارات للتفاهم، مما يدفع نحو مواجهات غير تقليدية تتجاوز منطق الصراع الجيوسياسي المعتاد.

وسيجد العالم نفسه أمام مشهد تتراجع فيه الدبلوماسية التقليدية لصالح مقاربات تعيد إنتاج الاستقطاب الإيديولوجي، حيث لم تعد النزاعات تحكمها المصالح الاقتصادية وحدها، وإنما أصبحت مساحة للمواجهة بين رؤى دينية ـ حضارية متعارضة، وتعيد هذه الديناميكيات تشكيل مفهوم القوة، وتجعل من النظام العالمي ساحة تنافس بين سرديات عقائدية متصادمة، مما يزيد من احتمالية اندلاع صراعات طويلة الأمد لا يمكن احتواؤها من خلال الحلول التقليدية.

ومع استمرار تأثير “الإمبريالية الدينية الجديدة”، يصبح النظام الدولي أمام خيارين:

أولا: إما الانزلاق نحو عصر من “الحروب العقائدية” والصراعات الوجودية، حيث تصبح السياسة أداة لتبرير المواجهة الدينية.

ثانيا: أو البحث عن آليات جديدة لإعادة التوازن، تكبح تطرف الإيديولوجيات، وتعيد ضبط العلاقات الدولية على أسس تعترف بالتعددية دون أن تسقط في فخ الإقصاء والتصعيد.

أرى أن السنوات المقبلة ستكون اختبارا حاسما لقدرة العالم على احتواء هذا الزحف الديني المتصاعد، الذي بات يشكل عنصرا مؤثرا في توجيه السياسات الداخلية والخارجية للدول، خاصة في عالم ما بعد حرب غزة، حيث أخذت السرديات الدينية طابعا أكثر مركزية في الصراعات الجيوسياسية.

وإذا لم يتم احتواء هذا المسار، فقد يتحول إلى معادلة شديدة التعقيد، تعزز “الاستقطاب العقائدي” على مستوى عالمي، وتجعل تفكيكه رهينا بتصعيد المواجهات واتساع دوائر الانقسام، مما يضع التوازنات الدولية أمام مخاطر طويلة الأمد.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.