18 يوليو 2025 / 08:00

هل خرجنا من عصر التنوير؟

أشرف منصور. باحث من مصر 

يقال إن التاريخ، وخاصة التاريخ الغربي، قد تجاوز عصر التنوير إلى عصر الحداثة وما بعد الحداثة، وعصر ما بعد الصناعة والتكنولوجيا والذكاء الاصطناعي. ويقال أيضًا إننا نعيش في عصر ما بعد التنوير، والمقصود بذلك أن عصر التنوير انتهى بقيمه ومبادئه، لأسباب متعددة، منها أنه فشل في مهمته في إنقاذ الإنسان من ظلام الخرافات والتعصبات، إذ دخلت البشرية في خرافات وتعصبات جديدة من صنع الحداثة نفسها، وربما من صنع التنوير نفسه، مثل تمجيد العقل الذي تحول إلى عقلانية أداتية نفعية، وتمجيد الحرية التي تحولت إلى نزعات فردية وأنانية، وتمجيد المساواة والعدالة الاجتماعية التي تحولت إلى سلبيات التوجهات الاشتراكية والشيوعية؛ وكأن عصر التنوير هو المسؤول عن هذه السلبيات وحده.
لكنني أقول على العكس إن عصر التنوير لا يزال ملازمًا لنا، فنحن نعيشه دون أن نشعر، والانطباع بأنه انتهى هو انطباع خاطئ وزائف، ويأتي في الغالب من أعداء التنوير. وأول علامة تدل على أننا لا نزال نعيش في عصر التنوير، أو أننا نعيش في الشرط الفكري والثقافي الذي خلقه عصر التنوير ولا يزال موجودًا، وأن عصرنا يعد استمرارًا واستطالة فكرية لعصر التنوير، هي الإيمان بقدرة الأفكار على تغيير الواقع، وهو ما تجلى في صورة الأيديولوجيات الحديثة. فلاسفة عصر التنوير هم أول فلاسفة في التاريخ آمنوا بقدرة الأفكار على إعادة تشكيل الواقع، الاجتماعي والسياسي والديني.
كان الفلاسفة قبل عصر التنوير يؤمنون هم أيضًا بقدرة الأفكار على التغيير الواقع، لكنهم اعتقدوا أن الذي يتغير بالأفكار هو حياة الفلاسفة وحدهم، لا المجتمع كله ولا السياسة؛ فعندما كانت الفلسفة هي أسلوب حياة، كانت هي أسلوب حياة النخبة الفكرية العليا، أي الفلاسفة أنفسهم، وهم مجموعة صغيرة جدًا من المجتمع، ولم يكن الفلاسفة القدماء يعتقدون في إمكانية تغيير المجتمع كله بالفلسفة، فقط حياة الفلاسفة هي التي يمكن أن تتغير. ومن ثم ففلاسفة التنوير هم أول من اعتقد في إمكان تغيير المجتمع كله بكل ما فيه من نظم سياسية وقوانين واقتصاد بالأفكار وحدها.

لقد كان ماركس معبرًا بدقة شديدة عن فكر عصر التنوير عندما ذهب إلى أن “الفلاسفة عبر التاريخ قد اكتفوا بفهم العالم، والمهم الآن هو تغييره”؛ فلم يكن ماركس في ذلك سوى تلميذ لفلاسفة التنوير الذين سبقوه إلى محاولة تغيير العالم.
والحقيقة أن تغيير الواقع بالأفكار هو ما كان يطلق عليه اسم “الأيديولوجيا”، وانتشار الأيديولوجيات من كل نوع في العصر الحديث ونجاحها بالفعل في تشكيل وإعادة تشكيل المجتمعات وفي خلق دول وأنظمة سياسية هو من ميراث عصر التنوير. وإذا قيل إن عصر الأيديولوجيات قد انتهى، فإن هذا غير صحيح.

لقد انتهت أيديولوجيات معينة، لكن لا تزال العالم تحكمه أيديولوجيات أخرى. فالليبرالية الجديدة التي تحكم العالم اليوم هي عبارة عن أيديولوجيا، إذ هي أفكار قبل أن تكون سياسات ونظم وممارسات. نحن لا نزال نعيش في عالم خلقه عصر التنوير، وفي شرط إنساني من صنعه.