هل العلوم الشرعية سماوية أم وضعية؟
محمد التهامي الحراق
هناك مسألة في غاية الأهمية لابد من فهمها على الوجه السديد؛ لأنها تساعد على حل جم من القضايا التفصيلية، وتجنبنا أشكالا من الاصطدامات والاتهامات، ويتعلق الأمر بمفهوم “العلوم الشرعية” في الإسلام؛ هل يتعلق الأمر بعلوم سماوية وإلهية لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها أم يتعلق الأمر بعلوم وضعية بشرية مثل سائر المعارف الوضعية البشرية؟
للنظر في هذه المسألة ينطرح سؤال إبستمولوجي يتصل بتحديد مفهوم العلم في “العلوم الشرعية”، والتمييز بين هذا المفهوم في هذه “العلوم” عن مفهومه في “العلوم الإنسانية والاجتماعية” ومفهومه في “العلوم الطبيعية التجريبية”. وهنا، يمكن إجمال القول في كون العلم في “العلوم الشرعية” يختلف عنه في “العلوم الإنسانية والاجتماعية” في كون “العلم الشرعي” هو نتاج حوار مع الوحي، أي مع النص المقدس؛ يستمد منه ماهيته وموضوعه وغايته ومبادئه( أو قل رسْمَه وحدَّه، ومقولاته العشر عند الأرسطيين وامتداداتهم..)؛ مثلما يستمد منه مشروعيته ومعجمه ومفاهيمه…إلخ. فيما يغيب عنصر الوحي في مفهوم العلم في العلوم الإنسانية والاجتماعية، والتي ما تفتأ تطور مناهجها لتكسبها علمية تحد من تداخل الذات والموضوع فيها، اقتداء بالعلوم الطبيعية والتجريبية التي تتأسس على الملاحظة والتجربة الموضوعيين.
على أن الأمر الرئيس في العلوم الشرعية أنها صارت بعد ظهور العلوم الإنسانية والاجتماعية في العصر الحديث تتفاعل معها، لوجود تقاطعات موضوعاتية ومنهاجية بينهما؛ باعتبارهما معا تشتغلان على اللغة والنصوص والنفس والاجتماع والتشريع والتاريخ والثقافة ..؛ أي على سؤال الإنسان والمعنى، كما أن العلوم الإنسانية والاجتماعية تتخذ من الدين موضوعا لها من منظورها الخاص، أي بوصفه ظاهرة من ظواهر الاجتماع والتاريخ.
في ضوء هذه الإلماعات نعود إلى السؤال المنطلق: هل العلوم الشرعية إلهية أم وضعية؟ إن الجواب عن هذا السؤال يختلف في العصر الحديث عما قبله؛ ذلك أن المعارف الشرعية( بل والدينية في كل الأديان) كانت تعتبر إلى نهاية العصر الوسيط معارف شريفة لارتباطها بقداسة الموضوع، ومن ثم فهي معارف إلهية شرعية لأن منطلقها الوحي ومقصدها استخلاص “مراد الله” تعالى منه؛
لكن الثورات المعرفية الحديثة نَسّبَت من هذا الفهم، وأفول فلسفة الذاتية، وانتقال الشك من الموضوع إلى الوعي، واكتشاف الإنسان أن هذا الأخير يخضع لعوامل مؤثرة في تشكيله على مستويات اللغة والنفس والاجتماع؛ كل ذلك أكّد بعض الإشارات الاستثنائية في قديم الثقافة الإنسانية، بما فيها إشارات بعض أجدادنا في الثقافة الإسلامية، إلى أن فهم النصوص المقدسة ليس مقدسا، وقراءة الوحي ليست وحيا، ومن ثم تكون المعارف المسماة شرعية هي نتاج حوار بين عقل بشري نسبي ونص وحياني مطلق؛ مما يجعلها نتاجا بشريا في فهم الوحي وليست قولا مطلقا محضا. وهذا واحد من أسباب تعدد فهوم النص الوحياني الواحد، وتعدد ما صدر عنه من مذاهب واتجاهات لغوية وكلامية وفقهية وصوفية وفلسفية.
وإذا تبين هذا الأمر ، لم يعد من العلمية في شيء اعتبار علم أصول الفقه مثلا، “علما إلهيا”؛ لأنه يستخلص معجمه ومفاهيمه ومباحثه ومناهجه من تخصيب الحوار بين إمكانات عقل بشري محكوم بحدوده المعرفية في عصر معرفي معين( وهو ما يسمى في الفكر الفلسفي المعاصر إبستمية..) ومن مستوى تطور المعارف فيه، وبين النص الوحياني؛ ومن ثم فذاك العلم هو وحياني من حيث النص المنطلَق وبشري من حيث القراءة، وعليه فهذا العلم ليس وحيانيا محضا ولا وضعيا محضا، أو قل هو وحياني من جهة وبشري من جهة. ومن ثم سيكون من العبث حصر نتائج ذاك العلم بوصفها إلهية صالحة لكل زمان ومكان؛ إذ فيها من النسبي بقدر ما فيها من المطلق، وفيها من التعالي بقدر ما فيها من التاريخ، وفيها من الثابت بقدر ما فيها من المتحول؛ وتجديد العقل الديني بشكل مستمر هو الكفيل بالتمييز في تاريخ هذه العلوم الشرعية بين المستويين في كل عصر معرفي.
الأمر هنا يتجاوز ثنائية العلوم العقلية والنقلية، أو ثنائية العلوم الأصيلة والدخيلة، حين نكتشف مقدار اشتغال جدلية العقل والوحي في تلك “العلوم الشرعية” الموروثة نفسها. هذا في نظري المتواضع ما يدعو العقلَ المسلم اليوم إلى أن يتحمل مسؤوليته في تلقي القرآن الكريم وكأنه أنزل عليه هنا والآن، ومن ثم أن يجدد من تخصيب حوار الوحي ومكتسبات العقل الإنساني المعاصر، بشكل نقدي يتجاوز أزمة المعنى والروح والمعيار وفقدان التعالي في العقل الحديث، ويتجاوز أزمة اللاتاريخية والمنهج والانسداد وفقدان القدرة على إنتاج المعنى في العقل الديني في السياق الحديث.
مثل هذا الأفق كفيل بأن يجدد من حضور الوحي والنبوة والتعالي في العلوم الدينية بما من شأنه أن ينقذ الإنسان المعاصر من انسداداته المعرفية والروحية والأخلاقية على السواء.
بوركتم
التعليقات