15 مارس 2025 / 02:15

هكذا يُعيد الصراع حول الإسلام تشكيل العالم

منتصر حمادة
كتاب “الاستثنائية الإسلامية: كيف يُعيد الصراع حول الإسلام تشكيل العالم”، كتاب حديث الإصدار زمنياً، وإن كنا نتحدث عن نسخته المترجمة إلى العربية، حيث صدر في نسخته الإنكليزية عن “منشورات مارتينز”، ويتناول فيه الباحث ما وصفه بـ”الاستثناء الإسلامي” كـ”حالة مغايرة للإسلام كدين في تعاطيه مع السياسة، وكيف يمكن أن يعتبر ذلك مؤثراً في فهمنا لراهن ومستقبل الشرق الأوسط، نظراً للارتباك الذي طرأ على تموضعات الدين في المجال العام، ونزاعات الإسلاميين مع الرؤية العلمانية لعلاقات الدين والدولة”.

جاءت النسخة المترجمة في 304 صفحة، عن مركز نماء للبحوث والدراسات، وهو مركز بحثي سعودي. مؤلف الكتاب هو شادي حميد، أما الترجمة، فقد أنجزها صلاح حيدوري مع مراجعة خالد بن مهدي.

تضمنت محاور العمل عرضاً تعريفياً في العمل، حرّره مشاري حمد الرييح، وثمانية فصول، جاءت عناوينها كالتالي: “الاستمتاع بالمجزرة”، “هل الإسلام استثنائي؟”، “الإصلاح في الإسلام”، “الإخوان المسلمون: من الإصلاح إلى الثورة”، “النموذج التركي: الإسلاميون المُمَكن لهم”، “تونس: الإسلاميون يتنازلون عن إسلامويتهم”، “داعش: بعد فشل الدولة”، “الإسلام والليبرالية: هل من مخرج؟”.

“الدين”، “الإسلام السياسي”، “الديموقراطية”، و”العنف”، إنها المفردات التي احتلت مساحة كبيرة من التناول البحثي الغربي في الحقبة التي تلت أحداث “الفوضى الخلاقة” أو “الربيع العربي”، كما شغلت قضايا التفاعل والاشتباك النظري والواقعي بين الإسلام والإسلاميين وإكراهات الحداثة السياسية أروقة الكثير من مراكز التفكير وصناع القرار في العالم، وزادت وتيرة اختبار مقاربات التفسير لهذه الحالة بعد صعود الموجة الأكثر عنفا وتشدداً المتمثلة في تنظيم “داعش”، كما نقرأ في الورقة التعريفية للكتاب.

“الاستثناء الإسلامي” هنا نسبة إلى الإسلام، أو النصوص الإسلامية المقدسة والمؤسسة، وليس إحالة بالضرورة على الحركات الإسلامية (يتحدث المؤلف عن “الإسلاموية”)، حيث تطرق إليها المؤلف في عدة فصول من الكتاب، وخاصة أثناء حديثه عن التجارب الإسلامية الحركية في كل من مصر وتونس وتركيا، موظفاً مصطلح “الإسلاموية” بالتحديد، للإحالة على هذه الظاهرة، بخلاف التفاعل الإسلامي الحركي مع الكتاب، كما نقرأ في بعض ما صدر عن العمل، حيث نقرأ لإسلامي حركي مشرقي، أن مصطلح الإسلاموية الوارد في الكتاب، مصطلح أطلقه “العلمانيون” [كذا] عن الحركات الإسلامية، وهذه مغالطة، متوقعة أن تصدر عن الجهاز المفاهيمي للعقل الإسلامي الحركي.

وبمقتضى الفورة الإسلاموية التي تعج بها المنطقة العربية والعالم الإسلامي، فقد اختبر المؤلف مفهوم الاستثنائية هذا مع التيارات الإسلامية السياسية المختلفة في العالم العربي والإسلامي وكيفية تعاملها مع السلطة وتقبل شعوبها لها. كما قدم تفسيراً بانورامياً لأسباب انزلاق المنطقة للعنف الذي وَلّد تنظيم “داعش”، وتناول تجارب الإسلاميين في مصر وتركيا وتونس رجاء التأكيد على “الاستثناء الإسلامي”، وساعده في ذلك، أنه التقى بالعديد من الفاعلين الإسلاميين في المنطقة في الفترة التي تلت عام 2011، كي يحاول الخروج بما يشبه التفسير لما آلت إليه الأوضاع بعد أحداث “الفوضى الخلاقة”.

يؤكد الكاتب على استثنائية العلاقة المنسوجة بين الإسلام كدين والسياسة، وهو ما يحاول فهمه، بدافع أنه دين “باقٍ”، ويمثّل عاملاً أساسياً في منطقة الشرق الأوسط، وفي الدول الغربية أيضاً. وتقوم أطروحته على أن ما يبدو من صراع في المنطقة، لا يستند فقط على الانقسامات التي تبدو في ظاهرها سياسية، أي حول من يمتلك السلطة، بل يتعداها إلى أسئلة أخرى أكبر من قبيل: ما هي طبيعة وأهداف الدولة الحديثة؟ وما هو دور الإسلام في الحياة العامة؟

ولكن من هم هؤلاء الإسلاميون؟ حسب الكتاب، فإنه يتم تعريف الإسلاميين ذوي الاتجاه السائد على أنهم المنتمون لجماعة الإخوان المسلمين أو الذين ينحدرون منها، والتي تعتبر أم كل الحركات الإسلامية، والتي تأسست في مصر في عام 1924، على يد حسن البنا. يأمل الإسلاميون في الجمع بين الأصالة والحداثة وبين الشرق والغرب. في هذا الإطار، وخلافاً للخيال الشائع فإن الإسلاميين لا يسعون بالضرورة للعودة إلى الجزيرة العربية في القرن السابع. بل يرى المؤلف أنهم حداثيون أو ربما حداثيون أكثر من اللازم.

والكتاب ــ القائم على أكثر من عشر سنوات من البحث، بما في ذلك أكثر من ست سنوات بين العيش، والسفر، والدراسة في الشرق الأوسط ــ ليس محاولة الفهم الأحداث المرعبة فقط؛ وإنما هو محاولة لفهم قوة الأفكار ودورها في المعارك الوجودية التي زعزعت أسس النظام في الشرق الأوسط، حيث يتناول المؤلف على مدار الكتاب عدداً من المواضيع المتكررة والقضايا التي بذلت قصارى جهده لمعالجتها. على سبيل المثال، عند محاولة فهم الحروب في الشرق الأوسط، وصعود “الدولة الإسلامية”، والانقسامات الثقافية حول شيء قد يبدو تافهاً مثل الرسوم المسيئة لخاتم الأنبياء عليه الصلاة والسلام، ما أهمية الإسلام حقاً عندئذ؟ هل الأمر متعلق بالدين أم بالسياسة؟ وهل بإمكاننا حتى الفصل بينهما في وقت تشابك فيه المفهومان في عقول المؤمنين وقلوبهم؟

من أجل فهم صراعات اليوم التي تبدو مستعصية في المنطقة، يدعونا المؤلف إلى زيارة تاريخية، والعودة بالتحديد إلى عام 1924، أي العام الذي أنهيت فيه الخلافة رسمياً، ومعلوم أن تمثل إحياء الخلافة، هو قاسم مشترك في مشروع الحركات الإسلامية بشكل عام.

حجتان ذاتا صلة تشكلان جوهر النصف الأول من هذا الكتاب:
ــ تفيد الأولى أن الإسلام، في الواقع، مُميز في علاقته بالسياسة، وهذا الاختلاف له آثار عميقة على مستقبل الشرق الأوسط، وبالتالي على العالم الذي نعيش فيه بأسره. هذا هو القول المثير للجدل والمثير للقلق خصوصاً في ظل ارتفاع المشاعر المعادية للمسلمين في الولايات المتحدة وأوروبا. بتعبير آخر، “الاستثنائية الإسلامية”، وهي عنوان الكتاب، ليست أمراً جيداً ولا سيئاً، وإنما مجرد أمر كائن، ونحن بحاجة إلى فهم ذلك واحترامه، وإن تعارضت مع آمالنا وتفضيلاتنا الخاصة؛ ويضيف في مقام آخر من الكتاب، أنه إذا كان الإصلاح خاصاً بالتجربة المسيحية مع الاستبداد الديني، وهو شيء لا وجود له حقيقة في السياق الإسلامي، فسيكون من الغريب أن نتوقع حدوث أمر مماثل في العالم الإسلامي. هنالك أيضاً اعتبارات غير محسوسة أهمها أن الإسلام كان أكثر صموداً أمام العلمنة.

ــ أما الحجة الثانية، ولأن العلاقة بين الإسلام والسياسة علاقة مميزة، فإن تكرار النموذج الغربي ــ الإصلاح البروتستانتي الذي تلاه التنوير الذي دفع الدين تدريجيا إلى المجال الخصوصي- ليس أمراً مرجحاً أن يتبع الإسلام ــ الذي هو دين مختلف تماماً بالأساس وتطور مخالف تماماً ــ مساراً مماثلاً كما المسيحية، هو في حد ذاته افتراض غریب.

يرى المؤلف أن فشل أحداث 2011 ساهم في “مثال مضاد” تقدمه “الدولة الإسلامية في العراق والشام”، أو تنظيم “داعش” [هذا محور فصل كامل في الكتاب]، ولأنه قد يكون الصعود السريع للجماعة في صيف 2014، قد باغت المتتبعين، ولكن أن يزدهر شيء ما مثل تنظيم “داعش” في هذا القرن، في وقت كان من المفترض أن ينحني فيه قوس التاريخ نحو العدالة، لهو أمر مدهش حقاً، خاصة أنها أسست فروعاً في عدة دول، أو “محافظات” حسب التعبير الإسلامي الحركي، بل أخذت أيضاً الحكم وبناء المؤسسات بجدية نسبية، وأجادت فيه أفضل مما قد يتوقع المتتبع ــ وإن لم يتوقف المؤلف هنا عن التواطئات الإقليمية التي ساعدت في ولادة الظاهرة ــ مما يجعلها عدواً أكثر جدارة وأشد خطراً، وهو مثير للذعر بطرق عدة، لكنه مع ذلك كان نموذجاً مثيراً، مضيفاً أن تنظيم “داعش” لم يكن في تناقض صارخ مع الإخوان المسلمين وباقي الحركات الإسلامية.

كما خلُص المؤلف إلى أن الحركات الإسلامية قد تحتاج إلى نسيان بعض العقود الأخيرة من التجربة الديمقراطية المتقلبة، لأن الانتخابات وسيلة وليست غاية، المشكلة مع معظم الإسلاميين ليست هي في اعتراضهم على الدولة القومية الحديثة، بل هوسهم بها، حيث عمل الهوس ضدهم، منتجاً عكس ما كانوا يريدون المزيد من عدم الاستقرار والانقسام وحب الدول مفرطة القوة للقبضة السلطوية.

أما أنصاف الحلول لجماعة الإخوان المسلمين، فقد اتضح أنها كانت قاصرة، حيث آمن الإخوان وأتباعهم في استيعاب الإسلام والشريعة الإسلامية داخل الدولة القومية الحديثة، متقبلين العديد من الافتراضات الأساسية للدولة إن لم يكن معظمها، بما يفسر أن التنظيمات المستوحاة من جماعة الإخوان، مع استثناءات قليلة، تبذل جهداً لتقليص الفجوات بين القانون الإسلامي القديم والمعايير الدولية الحديثة، حيث نمت جماعات مثل جماعة الإخوان المسلمين في مصر، النهضة في تونس، وحزب العدالة والتنمية في المغرب؛ مستخدمة مصطلحات مثل “الدولة المدنية”، “السيادة الشعبية”، “حقوق المرأة”، و”المواطنة”، دون أن يُفيد ذلك أنهم ليبراليون في النهاية.