28 أبريل 2025 / 14:55

هذه كتبي.. هذه اعترافاتي

عبده حقي
حين أقلب مئات الصفحات التي كتبتها على امتداد أكثر من أربعة عقود منذ أواسط السبعينات، أرى مكتبتي المتواضعة ليست باعتبارها رفوفا خشبية تتزاحم فيها العناوين، بل مثل كائن أنيس حي ينبض بالحيرة والأسئلة القلقة ، تتشابك فيه الروايات مع المقالات، وتتجاور فيه القصائد مع الحوارات، وتلتحم فيه السيرة الذاتية بروبوتات التقنية، حتى ليخيل لي أحياناً أنني لم أكتب هذه الكتب، بل إن الكتب هي التي كتبتني.

لا أتحدث هنا من باب الفخر والاعتزاز أو لاستعراضها الكرنفالي، بل من باب استعادة مسار تشكلت فيه هويتي ككاتب مغربي مستقل ، انطلق من رواية «وداعاً أرض النار والرياح» التي كتبتها في لحظة تأمل وجودي، باحثاً عن معنى الرحيل والانتماء، وواصلت الرحلة نحو رواية “إيريكا في غرفة الأخبار” حيث تجسدت قضايا الإعلام والتكنولوجيا ، الحقيقة، وصناعة الوهم في زمن ما بعد الحقيقة.

في أعمالي الأدبية التسعة عشر مثل «حوارات مع الكاتب المغربي عبده حقي” وحوارات في الثقافة العربية” و”حوارات في الثقافة المغربية “، لم أكن أجري مقابلات بالمعنى التقليدي، بل كنت أستدرج الذاكرة الثقافية المغربية والعربية كي تتكلم بصوتها الخاص، محاولة لتوثيق الهموم والأسئلة التي تؤرق النخبة المثقفة وتؤطر المستقبل.

أما في كتاب “مكاشفات: شذرات بلورية”، فقد كان اليراع يكتب من منطقة الحدس، من شرفة شاعر يلتقط المعنى المبعثر ويصوغه في كلمات لامعة كقطرات الندى، نصوصا كتبتها تحت دوحة التأمل الفيحاء حينًا، وتحت صقيع الشك أحيانًا أخرى.

وحين اجتاحت التكنولوجيا عالم الكتابة والإبداع ، وجدت نفسي معنيًّا أكثر من أي وقت مضى بتأمل مصير الأدب في عصر الشاشات واللوغاريتمات، فكان مشروع الأدب الرقمي أحد أبرز انشغالاتي حيث كتبت “مناهج تدريس الأدب الرقمي”، و”ما هو الأدب الرقمي؟” بجزأيه، الأول والثاني و”مفهوم النص في الأدب الرقمي” بجزأيه أيضا، و”مستقبل الأدب الرقمي”، بل وترجمت أعمالاً مرتبطة بهذا الحقل الحديث . في الحقيقة كنت كمن يحاول أن يصنع من الأسلاك النحاسية نصوصاً، ومن الشيفرات صوراً شعرية، ومن الذكاء الاصطناعي حليفاً إبداعياً لا خصماً وجودياً.

أما في مجال الصحافة والإعلام ، فقد كانت بمثابة ظلي المتحرك الذي يلاحقني في متاهات مهنة المتاعب . في كتب مثل “الصحافة من السلطة الرابعة إلى الصحافة التشاركية”، و”أسئلة ورهانات الصحافة اليوم وغداً”، و”دور الصحافة الحزبية والمستقلة في التحولات الديموقراطية بالمغرب”، و”تحديات الصحافة العربية في عصر الذكاء الاصطناعي”، كنت أتأمل بقلق كبير تلك التحولات العميقة التي أصابت الجسم الصحافي، من انهيار الورق إلى بزوغ نجم المواطن-الصحافي، ومن يقظة الوعي إلى غيبوبة الترافيك.

وفي لحظة استثنائية من حياتنا المشتركة ، كتبت “عام كورونا”. لم يكن نصاً عن الوباء فقط، بل عن هشاشتنا الصحية والنفسية والاجتماعية وارتباكنا في مواجهة المجهول، عن أقنعة الوجه التي أخفت أقنعة الدواخل.

الكتابة للأطفال أيضا كانت استراحة وجدانية، فقد كتبت “قصص قصيرة للأطفال” من زاوية مغايرة، لا لتلقينهم العالم بل لمصاحبته معهم، ولأجعل من القصّ أداة تفكير، لا فقط ملهاة وتسلية.

وفي كتاب “شعراء أُعدموا” الإلكتروني ، لامست أكثر مناطق الكتابة أثرا وإيلاماً، حيث تصير الكلمة بحجم مقصلة ، ويتحول الحرف إلى رصاصة. إن هذا الكتاب جعلني أعيد التفكير في ثمن الحرية وفي معنى أن تكتب كما لو أنك تحفر في لحم التاريخ.

الروايات مثل “أساطير الحالمين”، و”زمن العودة إلى واحة الأسياد”، و”مايا”، كانت امتداداً لحلمي السردي، حيث أختبر إمكانيات الحكي، وأسائل الذاكرة، وأخلق فضاءات تتراوح بين الواقعي والحلمي. هي محاولات لتمديد الزمن، وشد جسور غير مرئية بين الأمكنة والمصائر.

أما الكتابات الفكرية مثل “صناعة الرأي العام بين ثالوث الإعلام والإنترنت وتكنولوجيا التواصل” و” نبذة عن تاريخ الإنترنت والكتاب الإلكتروني”، فقد جاءت من رغبتي في فهم ما يحدث من حولنا من تحولات مذهلة، لا بصفتي مفكراً مغربيا تقنياً، بل ككاتب يحاول أن يلتقط علامات الطريق.

ولأنني عشت في المغرب بلدي الفسيفسائي الجميل ، وكتبت من عمقه ، شكلت الأمازيغية جزءاً لا يتجزأ من رؤيتي الثقافية، لذا جاء كتاب “الأمازيغية بالمغرب: الواقع والآفاق” الإلكتروني مساهمة صادقة في النقاش الهويتي، بعيداً عن الشعارات وقريباً من أسئلة الانصهار الثقافي والتعدد اللغوي.

أما المختارات الجماعية، مثل “أنطولوجيا القصة والشعر بالمغرب”، و” أنطولوجيا القصة القصيرة العالمية”، و”أنطولوجيا الشعر المغربي 2000 ــ 2010″، فهي قد شكلت مجهوداتي الخاصة في التوثيق، وتكريسي لفكرة أن الثقافة ليست عملا فرديا منعزلاً بل نسيجا جماعيا.

لقد كتبت كل هذه الكتب جميعاً وغيرها لا يتسع المقام لذكرها لأنني لم أحتمل الصمت ولا أرضى بأن أنفعل بالأدب ولا أفعل من خلاله . لأنني شعرت في كل لحظة أن العالم أكبر من أن يُفهم بصوت واحد. وربما لهذا السبب، أنا أكتب منذ أربعة عقود ونيف حتى الآن… كي أظل أتعلم من كتبي، لا لتدرس أو لأدرّس بها.

إنها ليست فقط قائمة أعمالي، بل خريطة لحياتي الفكرية، لعواطفي المتقلبة، لأسئلتي المستمرة، ولمقاومتي الصغيرة في وجه النسيان.