خديجة منصور: بتصرف عن مداخلة للدكتور محمد نور الدين أفاية*
قد تبدو عامة الأسئلة التي تتعلق بشروط التفكير حول قضايا قريبة من موضوعنا “سؤال الأخلاق والقيم في عالمنا المعاصر”، من هذه الأسئلة كيف يمكن الاقتراب من قضايا السياسة، الهوية ، الاعتقاد والتواصل بدون الأخذ بعين الاعتبار الأشكال الجديدة للتفاوت والإلغاء، والأشكال الجديدة للأصوليات والعنف وللمختلف مظاهر التفكك، كيف يمكن التفكير الآن في القيم أو في الرابطة الاجتماعية؟ ربما من البديهي القول بأن القيم هي لحمة أو ما يسمى بالرابطة وبالروابط الاجتماعية في علاقتها بالدولة وبالديمقراطية؟
للاقتراب من هذه الأسئلة يفترض الانتباه إلى أن الشروط العامة التي نعيش تنتج قواعد جديدة لعمل التفكير، قد نتجه إلى الكرونولوجيات و إلى تطور المفاهيم وتاريخ الأفكار، لكن نحن أمام لحظة تاريخية جديدة تفترض منا أن نعيد صياغة كثير من أفكارنا ومن أسئلتنا، لهذه القواعد الجديدة، لعمل التفكير، وأيضا تعقل التحولات.
هذه القواعد سألخصها في أربع ظواهر:
1.الظاهرة الأولى: تتعلق باهتزازات العالم والعلاقات الدولية وما أحدثته واقعة 11 شتنبر من صدمات ومراجعات وما تقتضيه منا اليوم ثورات العالم العربي من فهم ونقد.
2.الظاهرة الثانية: قد تبدو المسألة، بديهية مرتبطة بالحركية الاقتصادية والتواصلية للعالم، فالكل يتحدث عن أن كل شيء يتعولم، لدرجة أن أحيانا الدولة تتمكن في بعض الأحيان من احتكار العنف الشرعي، لأن لحركة الاقتصاد عنفها الخاص.
3.الظاهرة الثالثة : تتعلق ببروز أوجه جديدة لما يسمى الضحية la victime سواء من خلال الفرد أو الجماعة، أي بحضور متصاعد في المجال العام يستدعي تفكيرا جديدا في العنف وليس فقط العنف المادي أو الجسدي إنما كل مظاهر العنف، وتفكير جديد في جدل الهوية والدين والسياسة والروابط الاجتماعية، نستمع لخطابات ولنداءات لا حصر لها بأنها ضحية، فمثلا التلميذ ضحية الأستاذ والأستاذ ضحية الإدارة والإدارة ضحية الوزارة، والإسلام ضحية الغرب والمرأة ضحية الرجل… الكل يتقدم إلى المجال العام بأشكال جديدة وكأنه ضحية.
4.الظاهرة الرابعة: تتمثل في الدور الحاسم لوسائط الاتصال الجديدة وعلى رأسها التلفزيون والانترنيت، إذ من وسائط الاتصال تحولت أكثر فأكثر إلى أسلحة في حروب التموقع والتأثير إلى وسائط من خلالها بدأت أشكال جديدة تعبر عن ذاتها للسلطة.
إزاء هذه الشروط، هل الحديث عن القيم يبرز كلما شعر المرء بالتباس ما في الفهم أو أن الأمر يتعلق بصراع تأويلات أم بشعور بهشاشات الالتزام بهذا الذي نسميه بالقيم، التي يعتبرها البعض قيما كبرى تعرضت بما يمكن تسميته بالارتجاج والاهتزاز.
يفرض علينا الحديث عن القيم اليوم كثيرا من الحذر ومن التواضع، فهو حديث إشكالي وغير بريء ويترجم حالات كثيرة من الحيرة و القلق، ويتطلب يقظة خاصة في مواجهة مختلف أشكال اللايقين والتعقد التي تنتجها الحركية الجارية للعالم، كما أنه يزج بينا في حالات من الخوف التي تعترينا في هذا الوقت والصعوبات التي تعترض الكبار أو غير الكبار في العالم على توقع أو تخيل المستقبل.
إذن ينتاب المرء في غالب الأحيان أمام هذا الموضوع شعور بقدرية صعبة التفسير، إذ كلما تبرم من “اليقينيات القديمة”وجد نفسه في مواجهة الشك والقلق وهي حالات ليست دائما غير مفيدة في استنهاض العقل والتفكير والتواصل إلا أن ما يثير الانتباه في مقاربة سؤال القيم يتمثل في غلبة نوع من الغمة أو من الحداد على القناعات الماضية، أو فقدان قيم تبقى عند استدعائها راهنة وذات جدارة.
لكن حركة الاقتصاد وسطوة الإعلام واتساع أنماط التواصل الافتراضية والأشكال الجديدة للعنف تدفع بالمرء إما إلى تحويل الشك إلى نظام واختيار أو السقوط في فخ الأنماط القديمة أو الجديدة من الدوغمائيات أو بعض الموافق لحد ما متجددة.
وقد يكون من الأليق التذكير بأن العمل التحرري الطويل للفرد وهو ما يسمى عموما “الحداثة” أو المجتمعات الحديثة، هذا العمل التحرري عمل مكلف جدا بحيث أن كل واحد وكل مجتمع يؤدي الثمن حسب طبيعة قوى الفاعلين فيه.
ومازال العالم العربي يتصاعد ويؤدي الثمن، وبقدر ما يمكن اعتبار الكلفة التي يتعين تقديمها من أجل الحرية، فإن ذلك لا يمنع من الإقرار ببعدها المفارق بوصفها ثقل ومسؤولية ليست هينة، لا يكفي القول رفع شعار الحرية وإنما هي مسؤولية ثقيلة جدا لدرجة أنها قد تبدو استعباد من نوع جديد، فالفرد وهو يتحرر من سطوة الجماعة يعرض نفسه في نفس الآن إلى حالات من الضعف والوحدة والهشاشة وهذا ما أدل به المفكر الفرنسي “جيل ليبوفتسكي Gilles Lipovestky” إلى القول “بأن انهيار الأشكال التقليدية للتأطير والتنشئة ليس دليلا إلى الوصول إلى ما سماه بدرجة الصفر من القيم بل يستدعي هذا الانهيار الفرد لتحرر من الوصاية المطمئنة والضاغطة للواجب للانخراط بما يسميه بالأخلاق المسؤولية”.
فالإنسان اليوم وفي كثير من بلدان الغرب أو تلك التي تعرضت لتأثير الغرب مثل بلدنا المغرب، يجد نفسه أمام نوعين من السلوكات، الأول يمكن تسميته “سلوك صبياني” أو طفولي يسعفه على ممارسة حريته وكأنها نزوة أو هواء عابر، والسلوك الثاني يتقدم به صاحبه بوصفه ضحية، تعرض لظلم أصلي أو تاريخي وينظر إلى ذاته باعتباره كذاك مهم حصل من جبر الضرر أو توصل إلى مكتسبات.
إذن كيف العيش في عالم من دون بوصلة؟ هناك من يرى بأن العيش في هذا العالم التائه المستلب لكل أنواع الاستهلاك الغارق فيما يسميه المرحوم عابد الجابري “بثقافة الإدراك” قياسا لثقافة الوعي واليقظة، كيف يمكن أن نعيش في هذا العالم التائه،أو أن العيش في هذا العالم التائه ممكن، لكن ليس بتخيل قيم جديدة، وإنما ابتداع نمط جديد من الوفاء لتك التي تركها لنا تاريخ الإنسانية، أو تلك التي أنتجها لنا التاريخ الخاص لكل مجتمع، مع الانتباه إلى ما يفرزه العالم الذي يتشكل أمامنا مظاهر التسلط والاغتراب والقلق، ولكن هذه القيم قد تبدو لنا تجريدية وعامة ولكن في صلب هذا الموضوع.
هذه القيم هي تلك التي تبقى وفية للأصول أو للمبادئ الأربعة للأخلاق، أولا تلك التي تسير في اتجاه الحياة، ثانيا تلك التي تسير في اتجاه المجتمع ومصالحه، ثالثا تلك التي تتجه في اتجاه العقل أو ما هو كوني في العقل، وأخيرا تلك التي تسير في اتجاه المحبة ذلك أن التفاعل الحي بين هاته الاتجاهات هو ما يؤسس للوفاء باعتبار أن متطلبات الحياة تقف عند حدود متطلبات المجتمع، والتي تقف بدورها عند حدود العقل الذي يتحدد ويستكمل بالمحبة.
وهكذا فإن الانتقال الذي نعيشه اليوم على صعيد القيم ليس انتقالا من سلم للقيم إلى سلم آخر. سنكون واهمين إذا تصورنا بأن ما يجري في العالم الآن من ارتجاجات ومن تحولات هي عملية انتقالية من سلم إلى آخر، وإنما هو انتقال من التشبث المتشدد بإيمان ما إلى الوفاء للقيم النبيلة، باعتبار أن الوفاء هو ما يبقى من الإيمان حين نحسب أننا ضيعناه.
فالرهان الحقيقي لبيداغوجية ولسؤال القيم ليس سهل ويبدو أنه رهان صعب في زمن تزداد فيه ما نسميه أصولية السوق، بل أصبحت تفرض نفسها بكثير من التجبر والغطرسة، لا تترك لثقافات أخرى أي هامش آخر لتعبير عن اختلافها سوى الارتكاز إلى أصولها العتيقة والعودة إلى ما يشكل ذاتيتها الدفينة، ويظهر على أنه رغم هذا الذي يبدو شكل من أشكال الاحتقان الثقافي وهو موجود أحيانا، فإن التفكير فيما هو إنساني حاجة وجودية وانفتاح ممكن بدون سلب دراماتيكي لذات أو التماهي الوهمي مع الآخر، وأيضا بدون استجداء ثقافي أو رفض عصابي للآخر.
وسأختم بسؤال أخير كيف يمكن ترجمة الوفاء للقيم التي نعتبرها نبيلة في سياق اجتماعي متموج، أحيانا يصعب علينا القبض عليه على مستوى الفهم وعلى مستوى التمكن فيه، وأحيانا غامض في سياق تعليمي تربوي بدأت تسيطر عليه كل ما هو مضاد لما هو نبيل، من قبيل المتاجرة بالمعرفة وابتزاز زبناء المعرفة أو التلاميذ والآباء، ومختلف أشكال التعصب سواء باسم الدين واللغة على حساب قيم الاجتهاد والعمل وقيم تشجيع الذكاء، ربما وجب التأكيد أنه لا مناص من استدعاء الإرادة السياسية لمحاربة هذه الانحرافات.
* “مقتطف من الندوة العلمية التي نظمتها الرابطة المحمدية للعلماء بالدار البيضاء يوم 25 ماي 2011.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=7539