محمد زاوي
يبشّر الإسلام بجنتين؛ الأولى نموذج ينشده في الأرض، أما الثانية فمنزلة يقينية في الآخرة “فيها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر” (رواه البخاري، عن أبي هريرة رضي الله عنه).
تتحقق الأولى بالشريعة، والثانية عتق ونجاة وفوز لمن أحسن التطبيق. مدار الخلاف حول هذا التطبيق، وحول مدى إحسانه عند هذه الطائفة أو تلك. ولعل الكمال المفقود في الإنسان هو ما يجعله حبيس طوباه، فكانت “الجنة” هي الطوبى في الأرض، وطوبى “الطوبَات” في السماء. لا يفقد الإنسان ارتباطه بالغيب لأن الأرض قد ملأتها الأكدار، وضيقت خناقها الأقدار. العمل ل”طوبى الأرض” تمهيد ل”طوبى السماء”، تعلق بها وطلب لكمالها في محل النقص.
*الجنة الأولى: نموذج في الأرض
هي “الخلافة” في وعي مسلمين تفككت صورتها في حضرتهم وبين أيديهم، أو لعلهم توارثوا طوباها جيلا عن جيل. هي أمّة العدل التي لا يُظلم فيها أحد: “ياعبادي إني حرمت الظلم على نفسي وجعلته بينكم محرما فلا تظالموا” (حديث قدسي أخرجه مسلم، رواية أبي ذر الغفاري رضي الله عنه)، ويتحقق فيها العيش الكريم: “ولقد كرمنا بني آدم” (سورة الإسراة، الآية 70، فلا يحق لأحد المس بهذا التكريم)، وتتحقق الملكيات على قدر العمل: “للرجال نصيب مما اكتسبوا وللنساء نصيب مما اكتسبن”(سورة النساء، الآية 32).
فيها يحرم الاحتكار: “كي لا يكون دولة بين الأغنياء منكم” (سورة الحشر، الآية 7)، والإسراف: “كلوا واشربوا ولا تسرفوا إنه لا يحب المسرفين” (سورة الأعراف، الآية 31)، والتبذير: “ولا تبذر تبذيرا إن المبذرين كانوا إخوان الشياطين وكان الشيطان لربه كفورا” (سورة الإسراء، الآية 27)، والغش: “من غشنا فليس منا” (أخرجه مسلم، رواية أبي هريرة رضي الله عنه)/ “وأوفوا الكيل والميزان بالقسط” (سورة الأنعام، الآية 152)، والسرقة والنهب: “والسارق والسارقة فاقطعوا أيديهما” (سورة المائدة، الآية 38)، وأكل أموال المستضعفين: “ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده” (سورة الأنعام، الآية 152)، وأكل المال بالباطل: “ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل” (سورة البقرة، الآية 188)، والربا: “وأحل الله البيع وحرم الربا” (سورة البقرة، الآية 275).
وفي جنة الأرض تنتظم الأجور: “قال اللَّه تعالى: ثلاثة أنا خصمهم يوم القيامة: (منهم) رجل استأجر أجيرا فاستوفى منه، ولم يعطه أجره” (رواه البخاري عن أبي هريرة رضي الله عنه)، وتتحسن ظروف العمل: “لا يكلف الله نفسا إلا وسعها” (سورة البقرة، الآية 286)، وتجب الزكوات “خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها وصلّ عليهم إن صلواتك سكن لهم” (سورة التوبة، الآية 103)، وتُندَب الصدقات: “والصدقة تطفئ الخطيئة كما يطفئ الماء النار” (رواه الترمذي عن معاذ بن جبل رضي الله عنه)، ويتحقق التعاون والتكافل بين الناس: “وتعاونوا على البر والتقوى ولا تعاونوا على الإثم والعدوان” (سورة المائدة، الآية 2)، وتحفظ حقوق القلة: “ألا من ظلم معاهدا وانتقصه وكلفه فوق طاقته أو أخذ منه شيئا بغير طيب نفس منه فأنا حجيجه يوم القيامة” (أخرجه أبو داود).
*الجنة الآخرة: منزلة في السماء
-القيامة الأولى:
لما كان زمن التفاوت زمن أكدار وأقدار لا تسر المنهكة أجسامهم وأنفسهم بعذابات العمل والكدح، كان الموت قيامة تحول بين المرء وبين عذابات الدنيا. ورغم تلك الحيلولة، فلا يحن معظم الناس، أولئك الذين لم يفنوا فناء معنويا قبل الفناء الطبيعي؛ قلت: لا يحن معظم الناس إلى “هادم اللذات ومفرق الجماعات” (قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أكثروا ذكرَ هادم اللذات”/ رواه الترمذي والنسائي وصححه ابن حبان).
إنهم بشقائهم يلتذون، يمنون النفس بالأمل في واقع المأساة التي أنتجها التفاوت والاستغلال. “من مات قامت قيامته”، فذلك خروجه من عالم التفاوت إلى عالم يستوي فيه الجميع “منها خلقناكم وفيها نعيدكم ومنها نخرجكم تارة أخرى” (سورة طه، الآية 55).
-أشراط القيامة الآخرة:
لا خروج من عالم التفاوت إلى عالم “الجنة” إلا بهول، فلا حدث يستجد نوعيا في تاريخ الناس إلا بعذاب وألم هما من صميم عملية الانتقال. ومثال ذلك من الطبيعة الولادة، فلا ولادة بغير مخاض، ومخاض “الجنة” أشراط الساعة، خاصة الكبرى منها حيث:
**تشرق الشمس من مغربها: “لا تقوم الساعة حتى تطلع الشمس من مغربها ، فإذا طلعت ورآها الناس آمن من عليها ، فذاك حين لا ينفع نفسا إيمانها لم تكن آمنت من قبل أو كسبت في إيمانها خيرا” (حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أخرج أبو داود). فلما أبى الإنسان إصلاح أحواله خاضعا في ذلك لضرورة اجتماعية أفرزتها “ممارسته في التاريخ”، فسدت الطبيعة واختل ميزانها. وإذا أصبح القانون غير الذي كان، فلا مجال للعودة إلى الخلف. الخروج من نظام الكون يعني بداية الدخول في نظام جديد. لا توبة بعد ذلك، إذ لا قدرة على المراجعة. كل توبة مشروطة بنظام قديم، وهذا ارتفع “بطلوع الشمس من مغربها”.
**وتخرج الدابة للناس: “وإذا وقع القول عليهم أخرجنا لهم دابة من الأرض تكلمهم أن الناس كانوا بآياتنا لا يوقنون” (سورة النمل، الآية 82). وهذه من السابقة، اختلال في نظام الكون، تحول نوعي بعد أمد طويل من التراكمات الكمية. تتكلم الدابة وتكشف سبب الاختلال، “كانوا بآياتنا لا يوقنون”. هجر الناس اليقين، اغتربوا عن حقيقتهم، فكان الفساد، وتراكم ليختل بفعله نظام الكون. ولا نفي لشرط قديم إلا بأخر جديد، ولا يحدث الانتقال إلى “عالم البصر الحديد” إلا بقانون جديد.
**ويعيث فيهم ياجوج وماجوج: “حتى إذا فتحت ياجوج وماجوج وهم من كل حدب ينسلون” (سورة الأنبياء، الآية 96) / “لا إله إلا الله، ويل للعرب من شر قد اقترب، فتِح اليوم من ردم ياجوج” (أخرجه مسلم، حديث زينب بنت جحش رضي الله عنها). الفتنة في الفساد أصيلة، هي نقطة النهاية في تناقض قائم. يعسر الخروج من عالم فاسد (“تقوم الساعة على شرار الخلق”)، فيحل الخراب والدمار والتعفن والتهتك.
**ويفتنهم الدجال: “ما بعِث نبي إلا أنذر أمته الأعور الكذاب/ أي الدجال” (رواه البخاري، حديث أنس رضي الله عنه). ومن الفتنة أن يشق التمييز بين الحق والباطل، والظلم والعدل، والخير والشر. فيصيب الزيف ثنائية “الخير/ الشر”، ويتبع الناس زيفها ويحسبون أنهم يحسنون صنعا. من ساد ب”رجله وخيله” ساد بخيره وشره، فلا شر إلا شره ولا خير إلا خيره.
**ويظهر فيهم المهدي المنتظر: “يخرج في آخر أمتي المهدي” (رواه الحاكم، حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه). وإذا ضاق الحال بالناس ظهر نور في جوّ من الظلمة، وفتِحت أبواب السماء وقد كثر الفساد وساد الشر في الأرض، واقتربت انعطافة التاريخ وظهور نظام جديد.
**وينقذهم عيسى عليه السلام: “والذي نفسي بيده ليوشكنّ أن ينزل فيكم ابن مريم حكما مقسطا” (رواه الترمذي، حديث أبي هريرة رضي الله عنه). يشتد التناقض فينفجر ب”فعل في الزمن”، يُخرج الجديد من رحم القديم، و”يخرج الحي من الميت”. إنه “الفعل الثوري” في “نهاية التاريخ”، “القطرة التي تفيض ماء الكأس” وتسيله إلى ما لا نهاية، الانعطافة الأخيرة التي لا انعطافة بعدها.
**ويجتمعون بالساهرة: “فإذا هم بالساهرة” (سورة النازعات، الآية 14). حيث تتاميز الصفوف ب”دنو الشمس ونزول العرق”، وحيث ينظر الناس في مصائرهم نظرة أولى. “الحشر” وقوف على الحقيقة، إذ “لا بقاء لما كان على ما كان”، و”لا براءة أصلية” لطارئ في الزمن. يعيش من بقي على “البراءة” أو اقترب منها بعد تطهير، ومن هجرها وأنكرها ف”بصره اليوم حديد”.
**وينصب لهم الميزان والصراط: “ونضع الموازين القسط ليوم القيامة، فلا تُظلم نفس شيئا” (سورة الأنبياء، الآية 47)/ “وكلهم آتيه يوم القيامة فردا” (سورة مريم، الآية 95). “الجنة” لا تقبل الخارجين عن نظامها حتى يطّهروا، وأول التطهير الميزان والصراط. لا تقبل “الجنة” الإفساد، فمن خالف نظامها لا يدخلها ولا يراها ولا يعرف نزرا من نعيمها. “الجنة” نظام جديد، لا يقبل النفوس الفاسدة القديمة، ولا يقبل نظم الاستغلال.
**فيفوز بالجنة خيارهم: “إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات لهم جنات تجري من تحتها الأنهار، ذلك الفوز الكبير”. (سورة البروج، الآية 11). ذلك الفوز الخالد، تصير فيه المنافع والمتع مشاعا بين الناس، لا حاجة فيه للتملك والاحتكار والاستغلال. “الذين آمنوا وعملوا الصالحات”، المهيؤون لنظامه وحدهم ينالونه. نقيضهم عنه بعيد، يطّهر فيجد وينال. “ذلك الفوز الكبير”، يصله الخلق بعد مشقة وعناء مرير.
يكثر الحديث عن هذه الأهوال والأشراط، يبكي من هولها البعض، وينكرها آخرون تسرعا وبغير حكمة. الوجهة الغائبة في قراءتها أن تُقرَأ في شمولية الزمن، أن يَرى فيها دارسو التاريخ نهايته، أن يرى فيها أصحاب الرسالات النبيلة خاتمة مطلبهم، وأن يُبحث فيها عن انعطاف الزمن بتظافر الطبيعة والتاريخ وبتدخل أصل أصولها ومسبِّب أسبابها. في أشراط الساعة لا نرى مصيرنا الأكبر فحسب، بل ماضينا الأصغر أيضا. نكتشف في أهوالها الكبيرة مخاضات الانتقال الصغيرة، تُعلّمنا درسا مهما من دروس التاريخ، أنّ التحولات النوعية “انفجار عظيم في التاريخ”.
-“مشاعية” الجنة الآخرة:
فيها يجد الإنسان حلا لمفارقته المزمنة: تفاقم في الخيرات ومعه تفاقم في المعاناة. ينعم فيها بكامل زمنه، يجد فيها ما تشتهيه نفسه من مآكل ومشارب ومساكن وملابس، يعود فيها إلى أصله حيث الطبيعة وجمال الكون، يقضي فيها وطره الجنسي كاملا من غير نقصان (يحقق الشبق/ “الأورجازم”)، يطمئن فيها ويأمن مخاوف النفس ووساوسها وأمراضها، يصبح فيها للإبداع والرقي والتسامي معاني لا حدود لها، ينعم بها أهل التوحيد وحدهم.
لا تمييز فيها بين الوالجين إلا ما كان من المنازل والغرف، وفي كل منها ما ينسي نعيم الغير ويحقق السرور الخالد. تنتفي في “الجنة الآخرة” أكدار الفاقة، وأمراض الصراع، وأزمات التنازع في الملكيات. وإنما هي نعيم مطلق، يفنى فيها المنعّم فلا يكاد يرى غيره. تحدث الآلام بالفاقة، وتنتج عن تفاوت العيش والكسب. وفي الجنة لا فاقة ولا تفاوت، فلا آلام ولا أكدار للفائزين بها.
**”مشاعية” المنافع: “يطوف عليهم ولدان مخلدون بأكواب وأباريق وكأس من معين، لا يصدعون عنها ولا ينزفون، وفاكهة مما يتخيرون، ولحم طير مما يشتهون” (سورة الرحمان، الآيات من 17 إلى 21)/ “يُطاف عليهم بصحاف من ذهب وأكواب وفيها ما تشتهيه الأنفس وتلذّ الأعين وأنتم فيها خالدون” (سورة الزخرف، الآية 71).
**”مشاعية” المتع: “وحور عين، كأمثال اللؤلؤ المكنون، جزاء بما كانوا يعملون” (سورة الواقعة، الآيات 22 و23 و24)/ “وكواعب أترابا” (سورة النبأ، الآية 33)/ “لو أن امرأة من نساء أهل الجنة اطلعت إلى الأرض لأضاءت ما بينهما، ولملأت ما بينهما ريحا” (رواه البخاري، حديث أنس رضي الله عنه).
**”مشاعية” الطبيعة: “إن المتقين في جنات وعيون” (سورة الحجر، الآية 45)/ “وظل ممدود وماء مسكوب” (سورة الواقعة، الآية 30)/ “لهم جنات تجري من تحتها الأنهار” (سورة البروج، الآية 11).
**مشاعية “الطمأنينة”: “لا يسمعون فيها لغوا ولا تأثيما إلا قيلا سلاما سلاما” (سورة الواقعة، الآية 25)/ “يدعون فيها بكل فاكهة آمنين” (سورة الدخان، الآية 55).
**”مشاعية” الخلود: “خالدين فيها حسنت مستقرا ومقاما” (سورة الفرقان، الآية 76)/ “خالدين فيها أبدا” (سورة النساء، الآية 57).
الملكيات كلها مشاعة، عامة تحت تصرف الله المطلق. خيراتها تمنع “المِلك الخاص”، نظامها الخاص لا يسمح به. قانونها مِن مطلق ملكها، فلما تحرر الملك انتفت الحاجة إلى احتكاره، ولم تعد هناك حاجة لطلبه وانتزاعه من محتكريه. لا تنافس في المِلك مهما سمى، كل الملك مشاع، في الطبيعة والنفس والمتع والمنافع، وحتى الخلود. لا تفاضل في الأقدار، ولا تفاضل في الأعمار. مشاعة خالدة تتوِّج مسار الإنسان، وتختم رحلته إلى “الجنة”، إلى أصله. النهاية هنا أشبه بانتقال عبر زمن “المتاع والغرور”، من “اهبطوا منها جميعا” (سورة البقرة، الآية 38) إلى “ادخلوها بسلام آمنين” (سورة الحجر، الآية 46).