منتصر الخطيب/ تطوان
النظام الاقتصادي الإسلامي أو السياسة المالية في الإسلام تعد جزءا من نظام الإسلام الشامل، ولذلك فهي تخضع للتصور الإسلامي المتكامل للعناصر المكونة لها عن الوجود والحياة والإنسان، والحرية الاقتصادية في كل أشكالها تنطلق من الأسس العقدية والخلقية التي أقرّها الإسلام نظاما ومقياسا للتعامل.
وقد بيّنت مصادره أحكام العلاقات المالية والاقتصادية من طرق الكسب والإنفاق من البيع والشراء والإجارة والشركة وأحكام الملكية وموارد بيت المال ومراقبة الدولة للنشاط الاقتصادي كما هو مفصل في كتب الفقه الاسلامي في باب البيوع والمعاملات المالية.
وأهم هذه الأسس والمنطلقات؛ الاعتقاد بأن الله سبحانه وتعالى هو المالك الحقيقي للمال، حيث قال سبحانه: (ولله ملك السموات والأرض)[آل عمران/189]، وأن ملكية الإنسان لهذا المال إنما هي ملكية وكالة واستخلاف مصداقا لقوله عز وجل: (وأنفقوا مما جعلكم مستخلفين فيه) [الحديد/7]، ولهذا فإن تصرف الإنسان في هذا المال كسبا أو إنتاجا أو إنفاقا أو توظيفا محكوم بإرادة المالك الأصلي، لئلا تقترن معاملات الفرد المالية أو المؤسسات الاقتصادية بالشطط، بل تكون قائمة وفق الضوابط الشرعية التي أقرتها تشريعاته.
وانطلاقا من هذه الأصول العقائدية يكون السعي في طلب الرزق واستثمار ما خلق الله في الكون والانتفاع به أمرا مستحسنا، بل امتثالا لأمر الله واستفادة من نعمه.
ويكون الإعراض عنه شذوذا وانحرافا: (قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق) [الأعراف/30]. ويترتب عن هذا السعي مسؤولية الفرد والمؤسسات في تحمل نتيجة عمله ونشاطه؛ مسؤولية دنيوية بالنسبة إلى نفسه وغيره من الناس، ومسؤولية أخروية أمام الله إذا حاد بنشاطه عن القسط والعدل اللذين أمر الله بهما: (قل أمر ربي بالقسط) [الأعراف/28]، (وأقيموا الوزن بالقسط) [الرحمن/7]، (وأقسطوا إن الله يحب المقسطين) [الحجرات/9].
وهكذا ففي حالة تنمية الأموال أو توظيفها، فإن الفرد يكون حرا في تصرفه إن هو التزم بعدم مخالفة الأحكام الشرعية ولم يتعدى فيها إلى الإضرار بالمصالح الجماعية. فإذا ظهر استغلاله لهذه الحرية وأضر بالجماعة فعندئذ تتدخل الدولة لتقويم هذه المخالفات. وقد ذكر الفقهاء أنه يجب على الدولة أن تتدخل في بعض المعاملات التجارية إذا أدت حرية الأفراد إلى الإخلال بمصالح الجماعة.
وبناء على هذا تكون وظيفة الدولة تجاه التصرفات المالية: مراقبتها وتتبع تصرفاتها لمحاسبة من تتمادى نفسه إلى التطاول على أرزاق الناس ومعيشتهم، ولهذا السبب وجدت وظيفة الحسبة كإجراء للتدخل العاجل منعا من انتشار الظلم بين الناس. فيُكلَّف المحتسِب بالنزول إلى الأسواق ومراقبة التجار، وبث المراقبين الذين ينقلون إليه ما يحدث بين الناس من تصرفات ومعاملات مالية مخلة بما أقرته أحكام السوق من الغش والتدليس في السلع والزيادة في الأسعار والاحتكار، ويمنع حدوث هذه المعاملات المضرة بالناس، تحقيقا للمصلحة العامة، ولو أدى ذلك على إلحاق الضرر بالمنتفعين من تعاملهم هذا، فالمحتسب إذن هو ممثّل الدولة في مراقبة الأسواق، ويتخذ من الإجراءات ما يراه كفيلا لمنع مثل هذه التصرفات.
وهكذا يكون دور الدولة في التدخل في النشاط الاقتصادي، لتأمين العدل وكفاية الناس ومنع الظلم عنهم ومنه:
– محاربة أنواع التجارة المحرمة حكما وقانونا؛ كبيع الخمر والمخدرات والمتاجرة فيهما، وكل ما يضر بمصلحة الناس.
– تحديد أجور وأسعار المنافع العامة والخدمات وفق ضوابط معقولة، حتى لا يُترك الناس تحت رحمة المضاربين.
– حذف الوسطاء أو ما يصطلح عليه في كتب الفقه (بتلقي الركبان). ويدخل فيه اليوم ما يعرف (بالشنّاقة) داخل أسواق الجملة (أسواق الخضر وأسواق الماشية وأسواق السمك)، فهؤلاء السماسرة يضاربون في أسعار هذه الأسواق بما يحقق لهم ربحا فاحشا تجب مراقبته.
– الإجبار على البيع أو التأجير إذا أدت الضرورة إلى ذلك؛ كبيع الطعام ممن احتكره إذا كان بالناس مجاعة أو قلَّت الأقوات في الأسواق، والرجوع إلى ثمن المثل في حال تمت تلك المعاملة.
– إجبار البعض على عمل ما لا يستطيع غيرهم القيام به من أنواع الصناعات والحرف لسد حاجات الناس منها وفق ما تتطلبه مصلحة الجماعة..
وكمثال فقط للإجراءات التي يمكن للمحتسب القيام بها لردع تصرف من هذا القبيل، نورد نصا لابن قيم الجوزية كتطبيق عملي ينهجه المحتسب مع من يريد ظلم الناس بتصرفه، ويتعلق الأمر ببيع أموال المحتكرين، يقول ابن القيم: (إن المحتكر الذي يعمد إلى شراء ما يحتاج إليه الناس من الطعام، فيحبسه عنهم ويريد إغلاءه عليهم، هو ظالم لعموم الناس.
ولهذا كان لولي الأمر أن يُكرِه المحتكرين على بيع ما عندهم بقيمة المثل عند ضرورة الناس إليه؛ مثل من عنده طعام لا يحتاج إليه والناس في مخمصة، أو سلاح لا يحتاج إليه والناس يحتاجون إليه للجهاد أو غير ذلك، فإن من اضطر إلى طعام غيره أخذه منه بغير اختيار بقيمة المثل، ولو امتنع من بيعه إلا بأكثر من سعره فأخذه منه بما طلب لم يجب عليه إلا قيمة المثل) [الطرق الحكمية/222].
وخلاصة القول أن الحسبة في النظام المالي هي الطريق الأمثل لمراقبة الأسواق والكشف عن المعاملات الضارة بالاقتصاد، والحدّ من تصرفات الذين يتلاعبون بمصالح الناس طمعا في الربح دون رادع من دين أو خلق، فتكون الحسبة بذلك هي السلطة التي تقوم بدور الرقيب، وتمكّن المحتسب من سلطة تمكنه من مراقبة الأسواق والتجار أولا، والأخذ على أيدي المتلاعبين ممن يتعاطون للمعاملات التجارية المخلة بالنظام الاقتصادي العام ثانيا.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=14421