محمد عسيلة
رغم الانتشار الواسع للدروس الدينية وازدياد المظاهر التدينية في مجتمعاتنا، إلا أن الأزمات الاجتماعية والأخلاقية والاضطرابات في العلاقات الشخصية والمجتمعية لا تزال في تصاعد. هذا التناقض يدفعنا إلى التساؤل حول طبيعة التدين المعاصر ومدى تأثيره الحقيقي في بناء الإنسان وعلاقاته. فنحن أمام حالة من التدين السطحي الذي يفتقد إلى العمق المعرفي والتأصيل السلوكي، وهو ما يستدعي مراجعة حقيقية لطرق التبليغ الديني الحالية التي تعتمدها المؤسسات الرسمية وعلى رأسها وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية.
تشير الدراسات النفسية والاجتماعية إلى أن التدين الذي لا يترجم إلى سلوك قيمي في العلاقات اليومية يظل مجرد معرفة نظرية غير مؤثرة في تحسين جودة الحياة أو تعزيز الروابط الاجتماعية، حيث يسود تناقض صارخ بين ممارسة التدين وبين أخلاقيات التعامل، فقد يحضر التدين في الشعائر والطقوس لكنه يغيب في احترام الآخر والتسامح والتواضع في السلوك اليومي.
ويتجلى ذلك بشكل أوضح في اهتزاز العلاقات الاجتماعية رغم الحضور المكثف للدروس الدينية، حيث تعاني بعض المجتمعات من ضعف الروابط الاجتماعية وانتشار الفردانية، ما يعكس خللاً عميقاً في تلقي الرسالة الدينية وتحويلها إلى سلوك يومي حي. فالتدين حين ينحصر في المنظومة الشعائرية ويُفصل عن الحياة الاجتماعية، يصبح عاجزاً عن أداء دوره في بناء الأنساق الاجتماعية السليمة.
وقد أكدت النظريات السلوكية أهمية الربط بين المعرفة الدينية والتكرار السلوكي الذي يعزز العادات الأخلاقية عبر الممارسة اليومية، فيما يرى التحليل الاجتماعي أن الخطاب الديني الذي يركز فقط على الجانب الفردي للعقيدة يُهمل البُعد الجماعي والعلائقي الذي يشكل جوهر الرسالة الربانية في تحقيق السلم والتكافل الاجتماعي.
أما النظرية النفسية المعرفية، فتؤكد أن التلقين النظري دون تطبيق عملي يؤدي إلى ما يُسمى بظاهرة التنافر المعرفي، حيث يدرك الشخص القيم لكنه لا يلتزم بها سلوكياً في مواقفه اليومية، مما يخلق فجوة بين الإيمان والسلوك.
من هذا المنطلق، تبدو الحاجة ملحة لإعادة تسديد خطة التبليغ الديني، وهو ما تعمل عليه وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية من خلال مشروع تسديد التبليغ الذي أطلقته بالتعاون مع المندوبيات والمجالس العلمية المحلية والجهوية ومراكز التوثيق والأنشطة الثقافية.
هذه الخطة تهدف إلى تقليص الفجوة بين فضائل الدين وسلوكيات الأفراد، بحيث تصبح القيم الدينية حاضرة في النفوس والسلوك، وتنعكس في المعاملات اليومية سواء في الأسرة أو المجتمع. وتقوم هذه الخطة على تحقيق الحياة الطيبة عبر جعل الإيمان والعبادات أدوات لتحقيق الاستقرار النفسي والاجتماعي للأفراد، والعمل على تقليص الهوة بين القيم والأعمال.
تلعب كل هذه اامؤسسات المذكورة بما فيها المساجد دوراً محورياً في تنزيل هذه الخطة، حيث تعمل على تنظيم دروس وندوات تعليمية وتوعوية لتعزيز فهم القيم الدينية، وتقديم التوجيه والإرشاد حول كيفية تطبيق هذه القيم في الواقع، ما يسهم في إحياء روح المقاصد الشرعية وتحقيق التنمية الأخلاقية والسلوكية.
ومن منظور العلوم النفسية والاجتماعية، فإن التدين الشكلي الذي يركز على المظاهر دون الجوهر قد يؤدي إلى تعزيز الفردانية وغياب الروابط الاجتماعية المتينة، مما يُنتج أفراداً متدينين في الشكل، متنافرين في السلوك، ويخلق حالة من السلبية والاعتمادية تعيق بناء المجتمعات المتماسكة.
ولذلك، فإن تعزيز التدين الجوهري الذي يربط بين الإيمان والعمل يصبح ضرورة، ويتطلب تكاملاً بين المؤسسات الدينية والاجتماعية، مع ضرورة تبني برامج توعوية تستند إلى العلوم النفسية والاجتماعية لفهم أعمق للدين وتطبيقه في الحياة اليومية.
فبهذا التصور، تُصبح خطة تسديد التبليغ خطوة حيوية نحو تجديد الخطاب الديني وتحقيق الأثر الإيجابي المرجو في سلوك الأفراد وبناء مجتمع أكثر تماسكاً وتوازناً نفسياً واجتماعياً.