منع التعدد بالشرط: قراءة فقهية وقانونية في ضوء مدونة الأسرة المغربية

دينبريس
آراء ومواقف
دينبريس8 يناير 2025آخر تحديث : الأربعاء 8 يناير 2025 - 9:39 مساءً
منع التعدد بالشرط: قراءة فقهية وقانونية في ضوء مدونة الأسرة المغربية

الدكتور محمد بشاري
مسألة منع التعدد بالشرط تعد من أبرز القضايا الفقهية المعاصرة التي تمثل تداخلًا بين النصوص الشرعية ومقاصد التشريع الإسلامي وتطبيقات الواقع الاجتماعي. الشرط في العقود، وفقًا للشريعة الإسلامية، يتمتع بمشروعية تامة بشرط عدم مخالفته لنصوصها القطعية أو مقاصدها العامة. وقد أرسى النبي صلى الله عليه وسلم قاعدة أصيلة بقوله: “المسلمون عند شروطهم إلا شرطًا حرم حلالًا أو أحل حرامًا”، مما يتيح للأطراف في العقود الاشتراط بما يحقق مصالحهم ضمن الإطار الشرعي، ومن ذلك اشتراط المرأة في عقد الزواج عدم التعدد عليها.

إباحة التعدد في القرآن الكريم جاءت واضحة في قوله تعالى: {فَانْكِحُوا مَا طَابَ لَكُمْ مِنَ النِّسَاءِ مَثْنَى وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ}، ولكنها إباحة مقيدة بشرط العدل. فإذا خيف عدم تحقق العدل، فإن التعدد يصبح ممنوعًا شرعًا، كما ورد في الآية ذاتها: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَوَاحِدَةً}. من هنا يأتي دور الشرط في العقود، حيث يتيح للمرأة تنظيم هذه الإباحة الشرعية بما يتلاءم مع حقوقها وظروفها الشخصية.

الخلاف الفقهي حول اشتراط عدم التعدد واسع، وهو ما يجعل المسألة خلافية بامتياز. فالحنابلة، على سبيل المثال، يعتبرون هذا الشرط ملزمًا ويترتب على الإخلال به حق الزوجة في فسخ العقد، استنادًا إلى الحديث الشريف: “إن أحق ما أوفيتم به من الشروط ما استحللتم به الفروج”. أما جمهور الفقهاء من المالكية والشافعية والحنفية، فقد اعتبروا الشرط باطلًا لأنه يناقض مقتضى عقد الزواج، وإن لم يبطل العقد نفسه.

في السياق المغربي، شكلت مدونة الأسرة الصادرة عام 2004 نموذجًا للتوفيق بين الشرع والقانون، حيث نصت المادة 40 على منع التعدد إذا خيف عدم العدل، أو إذا اشترطت الزوجة في عقد الزواج عدم التعدد. كما ألزمت المادة 42 الراغب في التعدد بتقديم طلب إلى المحكمة مرفق بأسباب موضوعية وإثباتات مادية واجتماعية. هذا الإطار يعكس نهجًا واضحًا لتقييد الإباحة لا بإلغائها، وإنما بتنظيمها بما يحقق المصلحة العامة ويحمي الأسرة من التفكك.

التعديلات الأخيرة المقترحة على مدونة الأسرة أثارت ردود فعل متباينة، بين تحفظات تدعو إلى مراجعتها، واعتراضات ترى فيها تضييقًا على حقوق الرجل في الإباحة الشرعية. لكن هذه المواقف المتباينة تعود، في جانب كبير منها، إلى غياب الشرح الواضح للمقاصد الشرعية والقانونية التي تستند إليها هذه التعديلات. ومع ذلك، فإن حق ولي الأمر في التشريع بما يحقق المصلحة العامة يُعتبر قاعدة شرعية أصيلة، شريطة أن يظل في إطار ما لا يحرم حلالًا أو يحل حرامًا.

الملك محمد السادس، بصفته أمير المؤمنين ورئيس المجلس العلمي الأعلى، حرص على تسييج هذه التعديلات ضمن الإطار الشرعي، حيث أُحيلت إلى المجلس العلمي الأعلى لدراستها وإبداء الرأي الفقهي فيها. وقد أكد جلالته في هذا السياق على مبدأ أساسي بقوله: “إنني لا أحرم حلالًا، ولا أحلل حرامًا”. هذه العبارة تختصر فلسفة التشريع المغربي الذي يوازن بين التمسك بثوابت الشريعة وتحقيق مصلحة المجتمع.

المقاربة المغربية لهذه القضية لا تهدف إلى إلغاء إباحة التعدد، بل إلى تنظيمها بما يضمن تحقيق العدل ومنع الجور، وهي شروط نصت عليها الشريعة نفسها. الشرط في العقد، سواء من المرأة أو الرجل، لا ينفي أصل الإباحة، وإنما يضع ضوابط تُراعي المصلحة الخاصة والعامة، وهو ما ينسجم مع مقاصد التشريع الإسلامي.

مع ذلك، لا يمكن إغفال الآثار الاجتماعية المحتملة لهذه التعديلات. فالحد من التعدد دون توفير بدائل قد يؤدي إلى ظواهر غير مرغوبة مثل انتشار الزنا أو التحايل على القانون من خلال عقود زواج غير موثقة، أو حتى ارتفاع نسب الطلاق للتخلص من شروط العقد. لذا، فإن التشريع يجب أن يكون مصحوبًا بجهود توعوية تسعى إلى رفع اللبس عن مقاصده وإيضاح أهدافه.

التعديلات المقترحة على مدونة الأسرة المغربية تعكس اجتهادًا فقهيًا وقانونيًا يعزز من مكانة المرأة ويحمي الأسرة، مع الحفاظ على الثوابت الدينية والقيم الاجتماعية. ومن خلال الرجوع إلى المجلس العلمي الأعلى، تؤكد الدولة على التزامها بمبادئ الشريعة الإسلامية وتكريس روح الاجتهاد في خدمة المصلحة العامة.

هذا النهج المغربي يمثل نموذجًا يُحتذى في التوفيق بين النصوص الشرعية ومتطلبات العصر. ففي ظل قيادة الملك محمد السادس، الذي يوازن بحكمة بين التقاليد الإسلامية والتطورات المجتمعية، يمكن أن تسهم هذه التعديلات في دعم استقرار الأسرة المغربية وتعزيز العدالة الاجتماعية، مع ضمان استمرار الحوار حول القضايا الخلافية لرفع أي لبس قد يعتري هذه المسائل الحيوية.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.