محمد ابن الأزرق الأنجري
يكون النصّ الشرعي – الآيةُ أو الحديثُ – قطعيَّ الدّلالة عند الفقهاء والأصوليين إذا كان تركيبه اللغوي والنحوي لا يحتمل إلاّ معنى واحدا بحيث يتفق كلّ العارفين باللّغة العربية على فهم حكم واحد لا ثاني له.
قال عبد الوهاب خلاف في “علم أصول الفقه وخلاصة تاريخ التشريع” (ص: 36) : وأما نصوص القرآن من جهة دلالتها على ما تضمنته من الأحكام فتنقسم إلى قسمين: نص قطعي الدلالة على حكمه. ونص ظني الدلالة على حكمه. فالنص القطعي الدلالة هو ما دل على معنى متعين فهمه منه، ولا يحتمل تأويلا ولا مجال لفهم معنى غيره منه، مثل (…) وأما النص الظني الدلالة فهو ما دل على معنى، ولكن يحتمل أن يُؤوَّل ويُصرَفَ هذا المعنى ويُرادُ منه معنى غيرُه هـ
مثلا: قوله تعالى: (فاغسلوا وجوهكم وأيديَكم إلى المرافق)، قطعي في أن حكم الوجه واليدين هو الغَسل، لذلك لم تختلف المذاهب والطوائف المسلمة في ذلك، كما لم تتنازع في أن حكم الرأس هو المسح لأن قوله سبحانه: (وامسحوا برءوسكم) قطعية الدلالة في جهةِ الحكم.
فهل حكم الرّجلين: (وأرجلكم إلى الكعبين) هو الغَسل، وأن دلالة الآية عليه قطعية مانعة من الاختلاف، وأنه حكم مُجمع عليه كما يزعم الشيخ مولود السريري؟
وهل يمكن استنباط مسح الرجلين من الآية، وهو الوجه الذي نفاه الفقيه السريري عن القرآن؟
وهل تدلّ الآية ولو بطريق ضعيف على مشروعية المسح على ملبوس القدمين كالخفين والجوربين والنعلين، الشيء الذي قطع الأستاذ السريري بنفيه؟
وهل هناك إجماع بين أهل السنة والجماعة على أن غسل الرجلين دلالة قطعية في الآية؟
وهل المسح منسوخ أم ناسخ؟
نص آية الوضوء من سورة المائدة:
قال الله تعالى: (يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُم إِلَى الصَّلَاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُم إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ).
وكل شخص ملمّ بمبادئ اللّغة العربية يدرك من دون تأمّل أن قوله تعالى: (… وأرجلَكم إلى الكعبين) يحتمل هذين المعنيين المقدّرين:
المعنى الأول: (وامسحوا برءوسكم، وامسحوا أرجلَكم)، وقد فهمه جماعة من سلف أهل السنة وخلفهم كذلك، وهو اختيار الشيعة والخوارج وفيهم البارعون في العربية كغيرهم، وليس سواهم بأحرص على الدين والحق منهم، فلا يُتصوَّر تواردهم على الجحود والعناد كما لم يتوارد أهل السنة عليهما فأقرّ بعضهم بأنه المعنى الظاهر المتبادر.
المعنى الثاني: (وامسحوا برؤوسكم واغسلوا أرجلَكم) عطفا متأخرا على الوجه واليدين، وهو فقه الجمهور.
ومن ينكر إمكان عطف الرجلين على الرأس في المسح، فهو معاند مكابر أو جاهل بالعربية.
فثبت أن قوله تعالى: (وأرجلَكم) محتمل لمعنيين مقدّرين على الأقل، وأن ترجيح أحدهما تأويل، فسقطت دعوى الشيخ السريري قطعية دلالة الآية على حكم الغسل، ويظهر أنه جزَم دون أدنى تأمّل أو بحث في التفاسير وكتب الفقه، إذ أن كثيرا من سلف أهل السنة وخلفهم اختاروا المسحَ في الرجلين دون الغسل، أو أقروا بعدم قطعية الآية واعترفوا باحتمالها الوجهين معا، بل صرّح بعضهم أن المسح هو ظاهر الآية ومقتضى العربية وأن الغسل وارد في السنة وليس القرآن.
سلف وعلماء أهل السنة المقرّون بأن المسح هو حكم الرّجلين في الآية:
فمن الصحابة والتابعين الكبار: علي بن أبي طالب، وابن عباس، وأنس بن مالك، وابن عمر، والبراء، والحسن البصري، وعامر الشعبي، وقتادة، وعكرمة مولى ابن عباس، ومجاهد بن جبر، والضحاك بن مزاحم… وسوف نورد النقول عنهم في حينها، ولا نعلم في الصحابة أحدا نفى دلالة الآية على مسح القدمين وإن كان الغَسل مشهورا عنهم استصحابا للسنة النبوية قبل آية المائدة.
قال ابن حزم في المحلى بالآثار (1/301): وَهَكَذَا جَاءَ عَنْ ابْنِ عَبَّاسٍ: نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالْمَسْحِ – يَعْنِي فِي الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ – وَقَدْ قَالَ بِالْمَسْحِ عَلَى الرِّجْلَيْنِ جَمَاعَةٌ مِنْ السَّلَفِ، مِنْهُمْ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ وَابْنُ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنُ وَعِكْرِمَةُ وَالشَّعْبِيُّ وَجَمَاعَةٌ غَيْرُهُمْ، وَهُوَ قَوْلُ الطَّبَرِيِّ، وَرُوِيَتْ فِي ذَلِكَ آثَارٌ.
ومن أصحاب القراءات المتواترة: ابن كثير وحمزة وأبو عمرو وأبو جعفر وخلف وعاصم في إحدى الروايتين عنه، حيث قرأ كل واحد منهم الآية بالخفض (وأرجلِكم) عطفا على (وامسحوا برؤوسكم)، وكان مذهبهم المسح وليس الغسل.
وقرأ بها: ابن عباس وأنس وابن عمر والحسن البصري والشعبي ومجاهد وقتادة والضحاك والأعمش وعلقمة ومُحَمَّد بْن عَلِيٍّ أبو جعفر الباقر عليهم السلام، وَجَابِرِ بْنِ زَيْدٍ.
راجع: تفسير الطبري-سورة المائدة، وأحكام القرآن للطحاوي (1/81)، والسبعة في القراءات لابن مجاهد (ص: 242)، والناسخ والمنسوخ للنحاس (ص: 377)، والمبسوط في القراءات العشر لأبي بكر النيسابوري (ص: 184)، وحجة القراءات لابن زنجلة (ص: 223)، ومشكل إعراب القرآن لمكي القيسي (1/219)، والتيسير في القراءات السبع للداني (ص: 98)، وتفسير البغوي وتفسير ابن كثير.
وفي الطهور للقاسم بن سلام (ص: 392): وَمَنْ قَرَأَهَا بِالْخَفْضِ أَرَادَ الْمَسْحَ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ عَنْ أَنَسٍ وَالْحَسَنِ، وَقَدْ ذَكَرْنَا ذَلِكَ فِي كِتَابِ الْقِرَاءَاتِ.
وفي تفسير الطبري بتحقيق شاكر (10/52 إلى 57): القول في تأويل قوله عز ذكره: {وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ}: اختلفت القَرأَة في قراءة ذلك. فقرأه جماعة من قرأة الحجاز والعراق: (وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ) ، نصبًا. ثم قال: وقرأ ذلك آخرون من قُرّاء الحجاز والعراق: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ) بخفض”الأرجل”. وتأوّل قارئوا ذلك كذلك: أنّ الله إنما أمر عباده بمسح الأرجل في الوضوء دون غسلها، وجعلوا”الأرجل” عطفا على”الرأس”، فخفضوها لذلك.
وقال الطحاوي في الأحكام: فَقِرَاءَةُ بَعْضِهِمْ: ” وَأَرْجُلِكُمْ ” بِالْكَسْرِ وَرَدُّوهُ إِلَى قَوْلِهِ: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ}، وَذَهَبُوا إِلَى أَنَّ اللَّازِمَ فِي الرِّجْلَيْنِ هُوَ الْمَسْحُ عَلَيْهِمَا لَاغَسْلُهُمَا، فَمِمَّنْ ذَهَبَ إِلَى هَذَا الْمَعْنَى الْحَسَنُ الْبَصْرِيُّ، وَالشَّعْبِيُّ، وَمُجَاهِدٌ.
وقال في شرح معاني الآثار (1/39): فَأَضَافَهُ قَوْمٌ إِلَى قَوْلِهِ تَعَالَى { «وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ» } قَصْرًا عَلَى مَعْنَى «وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ» … وَقَدِ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ أَصْحَابُ رَسُولِ اللهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ دُونَهُمْ. هـ
وانظر مثل هذا الإقرار عند مكي القيسي المالكي في “مشكل إعراب القرآن”، وزاد المسير في علم التفسير لابن الجوزي (1/521)، وتفسير ابن كثير.
ومن المفسرين والفقهاء السنة الكبار الذين أقروا أن الآية تفيد مسح القدمين:
1-ابن جرير الطبري (ت310): قال في تفسير آية الوضوء بعد استعراض اختلاف القراء والسلف بخصوصها: والصواب من القول عندنا في ذلك، أن الله عزّ ذكره أمر بعموم مسح الرجلين بالماء في الوضوء، كما أمر بعموم مسح الوجه بالتراب في التيمم. وإذا فعل ذلك بهما المتوضئ، كان مستحقًّا اسم”ماسحٍ غاسلٍ”، لأن”غسلهما” إمرار الماء عليهما أو إصابتهما بالماء. و”مسحهما”، إمرار اليد أو ما قام مقام اليد عليهما. فإذا فعل ذلك بهما فاعل فهو”غاسل ماسح”.
ثم رجّح الطبري قراءة الخفض عطفا على (رؤوسكم): (فأعجب القراءتين إليّ أن أقرأها، قراءة من قرأ ذلك خفضًا، لما وصفت من جمع”المسح” المعنيين اللذين وصفت، ولأنه بعد قوله:”وامسحوا برءوسكم” فالعطف به على”الرءوس” مع قربه منه، أولى من العطف به على”الأيدي”، وقد حيل بينه وبينها بقوله:”وامسحوا برءوسكم”).
2-ابن حزم الأندلسي الظاهري (ت456): قال في المحلى بالآثار (1/301): مَسْأَلَةٌ: وَأَمَّا قَوْلُنَا فِي الرِّجْلَيْنِ فَإِنَّ الْقُرْآنَ نَزَلَ بِالْمَسْحِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ} [المائدة: 6] وَسَوَاءٌ قُرِئَ بِخَفْضِ اللَّامِ أَوْ بِفَتْحِهَا هِيَ عَلَى كُلِّ حَالٍ عَطْفٌ عَلَى الرُّءُوسِ: إمَّا عَلَى اللَّفْظِ وَإِمَّا عَلَى الْمَوْضِعِ، لَا يَجُوزُ غَيْرُ ذَلِكَ. لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُحَالَ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ بِقَضِيَّةٍ مُبْتَدَأَةٍ.
ثم سرد الآثار والأحاديث المقوّية لقراءة الخفض المفيدة للمسح، لكنه أخطأ حيث زعم أن الآية منسوخة بحديث: “وَيْلٌ لِلْأَعْقَابِ مِنْ النَّارِ، أَسْبِغُوا الْوُضُوءَ» وَأَيْضًا فَالرِّجْلَانِ مَذْكُورَانِ مَعَ الرَّأْسِ، فَكَانَ حَمْلُهُمَا عَلَى مَا ذُكِرَا مَعَهُ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِمَا عَلَى مَا لَمْ يُذْكَرَا مَعَهُ.
ثم عاد وقال: فَالرَّأْسُ طَرَفٌ وَالرِّجْلَانِ طَرَفٌ، فَكَانَ قِيَاسُ الطَّرَفِ عَلَى الطَّرَفِ أَوْلَى مِنْ قِيَاسِ الطَّرَفِ عَلَى الْوَسَطِ، وَأَيْضًا فَإِنَّهُمْ يَقُولُونَ بِالْمَسْحِ عَلَى الْخُفَّيْنِ، فَكَانَ تَعْوِيضُ الْمَسْحِ مِنْ الْمَسْحِ أَوْلَى مِنْ تَعْوِيضِ الْمَسْحِ مِنْ الْغُسْلِ. هـ
3-أبو بكر الرازي الشافعي (ت606): قال في مفاتيح الغيب أو التفسير الكبير (11/305): اخْتَلَفَ النَّاسُ فِي مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ وَفِي غَسْلِهِمَا… أَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالْجَرِّ فَهِيَ تَقْتَضِي كَوْنَ الْأَرْجُلِ معطوفة على الرؤوس، فَكَمَا وَجَبَ الْمَسْحُ فِي الرَّأْسِ فَكَذَلِكَ فِي الْأَرْجُلِ.
ثم ردّ ناقش الجمهور في دعوى الخفض على الجوار، وقال: ظَهَرَ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ عَامِلُ النَّصْبِ فِي قَوْلِهِ (وَأَرْجُلَكُمْ) هُوَ قَوْلَهُ (وَامْسَحُوا) وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ هُوَ قَوْلَهُ (فَاغْسِلُوا) لَكِنِ الْعَامِلَانِ إِذَا اجْتَمَعَا عَلَى مَعْمُولٍ وَاحِدٍ كَانَ إِعْمَالُ الْأَقْرَبِ أَوْلَى، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ عَامِلُ النَّصْبِ فِي قَوْلِهِ (وَأَرْجُلَكُمْ) هُوَ قَوْلَهُ (وَامْسَحُوا) فَثَبَتَ أَنَّ قِرَاءَةَ وَأَرْجُلَكُمْ بِنَصْبِ اللَّامِ تُوجِبُ الْمَسْحَ أَيْضًا.
4-سيف الدين الآمُدي الأصولي الحنبلي ثم الشافعي (ت631): قال في “الإحكام في أصول الأحكام” (3/ 62-63): الْمَسْأَلَةُ الثَّامِنَةُ: وَمِنْ أَبْعَدِ التَّأْوِيلَاتِ مَا يَقُولُهُ الْقَائِلُونَ بِوُجُوبِ غَسْلِ الرِّجْلَيْنِ فِي الْوُضُوءِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ} مِنْ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْغَسْلُ، وَهُوَ فِي غَايَةِ الْبُعْدِ لِمَا فِيهِ مِنْ تَرْكِ الْعَمَلِ بِمَا اقْتَضَاهُ ظَاهِرُ الْعَطْفِ مِنَ التَّشْرِيكِ بَيْنَ الرُّءُوسِ وَالْأَرْجُلِ فِي الْمَسْحِ مِنْ غَيْرِ ضَرُورَةٍ.
ثم ردّ على مرجّحات جمهور طائفته، وقال: وَأَمَّا الْقِرَاءَةُ بِالنَّصْبِ، فَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ عَطْفًا عَلَى الْمَوْضِعِ، وَذَلِكَ لِأَنَّ الرُّءُوسَ فِي مَوْضِعِ النَّصْبِ بِوُقُوعِ الْفِعْلِ عَلَيْهَا، غَيْرَ أَنَّهُ لَمَّا دَخَلَ الْخَافِضُ عَلَى الرُّءُوسِ، أَوْجَبَ الْكَسْرَ.
ثم عاد لإبطال قول الجمهور، وختم بقوله: وَبِالْجُمْلَةِ، فَالْمُتَّبَعُ فِي ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ نَظَرُ الْمُجْتَهِدِ فِي كُلِّ مَسْأَلَةٍ فَعَلَيْهِ اتِّبَاعُ مَا أَوْجَبَهُ ظَنُّهُ. هـ
5-أبو حيان الأندلسي المفسر النحوي المالكي (ت745): قال في البحر المحيط في التفسير: وَالظَّاهِرُ مِنْ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ انْدِرَاجُ الْأَرْجُلِ فِي الْمَسْحِ مَعَ الرَّأْسِ. وَرُوِيَ وُجُوبُ مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ… وَهُوَ مَذْهَبُ الْإِمَامِيَّةِ مِنَ الشِّيعَةِ.
ثم ضعّف مذهب الجمهور بقواعد النحو حيث قال: وَمَنْ أَوْجَبَ الْغَسْلَ تَأَوَّلَ أَنَّ الْجَرَّ هُوَ خَفْضٌ عَلَى الْجَوَازِ، وَهُوَ تَأْوِيلٌ ضَعِيفٌ جِدًّا، وَلَمْ يَرِدْ إِلَّا فِي النَّعْتِ، حَيْثُ لَا يَلْبَسُ عَلَى خِلَافٍ فِيهِ قَدْ قُرِّرَ فِي عِلْمِ الْعَرَبِيَّةِ، أَوْ تَأَوَّلَ عَلَى أَنَّ الْأَرْجُلَ مَجْرُورَةٌ بِفِعْلٍ مَحْذُوفٍ يَتَعَدَّى بِالْبَاءِ أَيْ: وَافْعَلُوا بِأَرْجُلِكُمُ الْغَسْلَ، وَحُذِفَ الْفِعْلُ وَحَرْفُ الْجَرِّ، وَهَذَا تَأْوِيلٌ فِي غَايَةِ الضَّعْفِ. أَوْ تَأَوَّلَ عَلَى أَنَّ الْأَرْجُلَ مِنْ بَيْنِ الْأَعْضَاءِ الثَّلَاثَةِ الْمَغْسُولَةِ مَظِنَّةُ الْإِسْرَافِ الْمَذْمُومِ الْمَنْهِيِّ عَنْهُ، فَعَطَفَ عَلَى الرَّابِعِ الْمَمْسُوحَ لَا لِيُمْسَحَ، وَلَكِنْ لِيُنَبِّهَ عَلَى وُجُوبِ الِاقْتِصَادِ فِي صَبِّ الْمَاءِ عَلَيْهَا. وَقِيلَ: إِلَى الْكَعْبَيْنِ، فَجِيءَ بِالْغَايَةِ إِمَاطَةً لِظَنِّ ظَانٍّ يَحْسَبُهَا مَمْسُوحَةً، لِأَنَّ الْمَسْحَ لَمْ يُضْرَبْ لَهُ غَايَةٌ انْتَهَى هَذَا التَّأْوِيلُ. وَهُوَ كَمَا تَرَى فِي غَايَةِ التَّلْفِيقِ وَتَعْمِيَةٌ فِي الْأَحْكَامِ.
ثم قال: وَقَرَأَ نَافِعٌ، وَالْكِسَائِيُّ، وَابْنُ عَامِرٍ، وَحَفْصٌ: وَأَرْجُلَكُمْ بِالنَّصْبِ. وَاخْتَلَفُوا فِي تَخْرِيجِ هَذِهِ الْقِرَاءَةِ، فَقِيلَ: هُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى قَوْلِهِ: (وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ)، وَفِيهِ الْفَصْلُ بَيْنَ الْمُتَعَاطِفَيْنِ بِجُمْلَةٍ لَيْسَتْ بِاعْتِرَاضٍ، بَلْ هِيَ مُنْشِئَةٌ حُكْمًا. وَقَالَ أَبُو الْبَقَاءِ: هَذَا جَائِزٌ بِلَا خِلَافٍ. وَقَالَ الْأُسْتَاذُ أَبُو الْحَسَنِ بْنُ عُصْفُورٍ: وَقَدْ ذَكَرَ الْفَصْلِ بَيْنَ الْمَعْطُوفِ وَالْمَعْطُوفِ عَلَيْهِ، قَالَ: وَأَقْبَحُ مَا يَكُونُ ذَلِكَ بِالْجُمَلِ، فَدَلَّ قَوْلُهُ هَذَا عَلَى أَنَّهُ يُنَزِّهَ كِتَابَ اللَّهِ عَنْ هَذَا التَّخْرِيجِ. وَهَذَا تَخْرِيجُ مَنْ يَرَى أَنَّ فَرْضَ الرِّجْلَيْنِ هُوَ الْغَسْلُ، وَأَمَّا مَنْ يَرَى الْمَسْحَ فَيَجْعَلُهُ معطوفا على موضع برؤوسكم، وَيَجْعَلُ قِرَاءَةَ النَّصْبِ كَقِرَاءَةِ الْجَرِّ دَالَّةً عَلَى الْمَسْحِ. هـ
6-الطاهر ابن عاشور المالكي النحوي البلاغي: قال في التحرير والتنوير: وَلِلْعُلَمَاءِ فِي هَذِهِ الْقِرَاءَةِ تَأْوِيلَاتٌ: مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَ بِظَاهِرِهَا فَجَعَلَ حُكْمَ الرِّجْلَيْنِ الْمَسْحَ دُونَ الْغَسْلِ، وَرُوِيَ هَذَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنَسِ بْنِ مَالِكٍ… وَرُوِيَتْ عَنْ أَنَسٍ رِوَايَةٌ أُخْرَى: قَالَ نَزَلَ الْقُرْآنُ بِالْمَسْحِ وَالسُّنَّةُ بِالْغَسْلِ، وَهَذَا أَحْسَنُ تَأْوِيلٍ لِهَذِهِ الْقِرَاءَةِ فَيَكُونُ مَسْحُ الرِّجْلَيْنِ مَنْسُوخًا بِالسُّنَّةِ… وَمن الَّذين قرأوا- بِالْخَفْضِ- مَنْ تَأَوَّلَ الْمَسْحَ فِي الرِّجْلَيْنِ بِمَعْنَى الْغَسْلِ، وَزَعَمُوا أَنَّ الْعَرَبَ تُسَمِّي الْغَسْلَ الْخَفِيفَ مَسْحًا وَهَذَا الْإِطْلَاقُ إِنْ صَحَّ لَا يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا هُنَا لِأَنَّ الْقُرْآنَ فَرَّقَ فِي التَّعْبِيرِ بَيْنَ الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ. هـ
هؤلاء الستة وقبلهم جماعة من الصحابة والقرّاء والتابعين معدودون في سلف أهل السنة والجماعة، وقد تجاهل الشيخ مولود السريري أو جهِل ترجيحهم أن حكم الرجلين في آية الوضوء هو المسح وليس الغسل.
سلف وعلماء أهل السنة المقرّون بعدم قطعية الآية في الغسل:
وهناك فقهاء ومفسرون اعترفوا بأن الآية غير قطعية في الغسل وأنها ظنية تحتمل معنى المسح والغسل، على الرّغم من ترجيحهم الغسل، ومنهم:
1- أبو بكر الجصاص الحنفي (ت370) : قال في أحكام القرآن (3/349): وَهَاتَانِ الْقِرَاءَتَانِ قَدْ نَزَلَ بِهِمَا الْقُرْآنُ جَمِيعًا، وَنَقَلَتْهُمَا الْأُمَّةُ تَلَقِّيًا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْقِرَاءَتَيْنِ مُحْتَمِلَةٌ لِلْمَسْحِ بِعَطْفِهَا عَلَى الرَّأْسِ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ بِهَا الْغَسْلُ بِعَطْفِهَا عَلَى الْمَغْسُولِ مِنْ الْأَعْضَاءِ. هـ
وانظر قوله: (وَلَا يَخْتَلِفُ أَهْلُ اللُّغَةِ أَنَّ كُلَّ وَاحِدَةٍ مِنْ الْقِرَاءَتَيْنِ مُحْتَمِلَةٌ)، تدرك ما قلناه أول الكلام من أن الإلمام بمبادئ العربية يمنع دعوى قطعية الآية في الغَسل.
2-تاج القراء أبو القاسم الكرماني (نحو505): في غرائب التفسير وعجائب التأويل (1/321): وقرئ: “وَأَرْجُلَكُمْ” بالنصب والجر، والظاهر في النصب العطف على الوجوه والأيدي، ويحتمل العطف على محل الجار والمجرور في قوله:(بِرُءُوسِكُمْ)، والظاهر في الجر أنه معطوف على (بِرُءُوسِكُمْ)… فصارت الآية من المُجمَل الذي بيانه إلى رسول الله – صلى الله عليه وسلم – وقد بينه “ويل للعراقيب من النار”. هـ
قارن قوله بأن الآية مجملة ومحتملة مع جزم السريري بقطعيتها.
3-ابن العربي المالكي (ت543): قال في “المحصول” (ص: 96) وهو كتاب في الأصول يُفترض على الشيخ السريري أن يكون قد راجعه: فقرأها نَافِع رَحمَه الله (وأرجلُكم) بِرَفْع اللَّام، وَرُوِيَ عَنهُ فِي الْمَشْهُور أَنه قَرَأَهَا بِفَتْح اللَّام كَغَيْرِهِ من الْجَمَاعَة، وقُرئت أَيْضا (وأرجلِكم) بالخفض. فَهِيَ ثَلَاثَة صور فِي ثَلَاثَة لُغَات لَا يُمكن سواهَا. فَأَما الرّفْع وَالنّصب فباب التَّأْوِيل فِيهِ مفتتح ومنهجه متضح… وَلَو لم تتظافر السّنة فِي الأرجل لحُكم بِمَا اقتضته الْآيَة بِقِرَاءَة الْجَرّ، على أَن بعض عُلَمَائِنَا قَالَ: إِن آيَة الْجَرّ مفيدة حكم الْمسْح على الْخُفَّيْنِ، وَقِرَاءَة النصب وَالرَّفْع مفيدة حكم غسل الرجلَيْن، وَهَذِه الْأَوْجه أقوى فِي الدَّلِيل وَأولى فِي التَّأْوِيل. هـ
فالمسألة مؤسسة على التأويل والترجيح بالأحاديث لظنية الآية باللغة الأصولية.
4-ابن رشد المالكي ت595: في بداية المجتهد ونهاية المقتصد (1/21) الذي يجب أن يكون الشيخ السريري هاضما له: فَقَالَ قَوْمٌ: طَهَارَتُهُمَا الْغَسْلُ، وَهُمُ الْجُمْهُورُ، وَقَالَ قَوْمٌ: فَرْضُهُمَا الْمَسْحُ، وَقَالَ قَوْمٌ: بَلْ طَهَارَتُهُمَا تَجُوزُ بِالنَّوْعَيْنِ: الْغَسْلِ وَالْمَسْحِ، وَأَنَّ ذَلِكَ رَاجِعٌ إِلَى اخْتِيَارِ الْمُكَلَّفِ، وَسَبَبُ اخْتِلَافِهِمُ الْقِرَاءَتَانِ الْمَشْهُورَتَانِ فِي آيَةِ الْوُضُوءِ: أَعْنِي قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ (وَأَرْجُلَكُمْ) بِالنَّصْبِ عَطْفًا عَلَى الْمَغْسُولِ، وَقِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ: (وَأَرْجُلِكُمْ) بِالْخَفْضِ عَطْفًا عَلَى الْمَمْسُوحِ، وَذَلِكَ أَنَّ قِرَاءَةَ النَّصْبِ ظَاهِرَةٌ فِي الْغَسْلِ، وَقِرَاءَةَ الْخَفْضِ ظَاهِرَةٌ فِي الْمَسْحِ كَظُهُورِ تِلْكَ فِي الْغَسْلِ. هـ
5-علاء الدين البخاري الحنفي (ت730): كشف الأسرار شرح أصول البزدوي (3/93): الْخَفْضُ مَعْطُوفٌ عَلَى الرَّأْسِ فَيَقْتَضِي وُجُوبَ مَسْحِ الرِّجْلِ لَا غَيْرُ كَمَا هُوَ مَذْهَبُ الرَّوَافِضِ، وَالنَّصْبُ مَعْطُوفٌ عَلَى الْوَجْهِ فَيُوجِبُ وُجُوبَ الْغَسْلِ وَعَدَمَ جَوَازِ الِاكْتِفَاءِ بِالْمَسْحِ، فَيَتَعَارَضَانِ ظَاهِرًا.
6-الشوكاني (ت1250): قال في فتح القدير: وَقِرَاءَةُ النَّصْبِ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجِبُ غَسْلُ الرجلين، لأنها معطوفة على الوجه، وإلى هذا ذَهَبَ جُمْهُورُ الْعُلَمَاءِ. وَقِرَاءَةُ الْجَرِّ تَدُلُّ عَلَى أَنَّهُ يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَى مَسْحِ الرِّجْلَيْنِ لِأَنَّهَا مَعْطُوفَةٌ عَلَى الرَّأْسِ وَإِلَيْهِ ذَهَبَ ابْنُ جَرِيرٍ الطَّبَرِيُّ وَهُوَ مَرْوِيٌّ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
فهؤلاء ستة من الفقهاء الأصوليين السّنّة، وفيهم اثنان من مراجع مذهب الشيخ السريري المالكي، يعترفون أن الآية ظنية الدلالة تفيد معنيين هما: وجوب المسح أو الغسل.
ولم أجد بالمقابل صرّح وادّعى أن الآية قطعية.
وما قصدنا استيعاب كلّ الذين اعترفوا بالحقيقة البدهية عند كل العارفين بمبادئ العربية وأساليبها، فهناك جماعة أكبر.
فهل نصدّق هذا الذين وجدناه في واقع تراثنا؟
أم نلقي التحية للشيخ السريري حفظه الله وهو يدعي قطعية الآية في إفادة وجوب الَغَسل ويختلق إجماعا على ذلك؟
لست أدري هل يبحث شيوخنا قبل الإفتاء، وهل يفهمون ما يقرءون في مصادر التفسير والفقه والحديث.
بقي علينا استعراضُ المرجّحات الدّالة على أن مسح القدمين هو ظاهر الآية سواء قرأنا (وأرجلكم) بالنصب أو الخفض، ومناقشة مراتب المسح.
وهو موضوع الجزء القادم بحول الله
المصدر : https://dinpresse.net/?p=13838