عبد الحميد أبو زرة
في زمنٍ يُغدق علينا كل شيء، من الشاشات إلى الشهوات، ومن التنقل إلى الترفيه، تنفلت إنسانيتنا شيئًا فشيئًا من بين أيدينا. هذه هي أطروحة الفيلسوف الفرنسي رونو إتييه في كتابه:
“الإشباع، عالم لا ينقصه شيء إلا الجوهري“ (Saturation, un monde où il ne manque rien sinon l’essentiel).
فالإنسان المعاصر، كما يصوره المؤلف، يعيش في حالة من التخمة الوجودية. ليس لأنه يملك الكثير، بل لأنه فقد القدرة على التمييز بين الكثرة والعمق، بين اللذة والمعنى، بين الامتلاك والكينونة.
الحداثة المتأخرة، حسب إتييه، ورّطت الإنسان في وفرة مادية لا تُطاق، حتى أصبح يغرق في فائض لا يُشبع. إنها حضارة الوفرة، نعم، لكنها في عمقها حضارة الفراغ الروحي والاغتراب، حيث تُستبدَل الهوية بالاستهلاك، والفطرة بالبرمجة.
ينبه إتييه إلى أن الإنسان تجاوز حدوده من حيث لا يشعر، وبدل أن يتحرر، أصبح كائناً مشوشاً، فاقداً للبوصلة، مستلبًا من ذاته. وهكذا، تتحول الوفرة إلى لعنة.
هذا ما يسميه المفكر زيغمونت باومان بـ”الحداثة السائلة”، حيث تنهار الثوابت، وتذوب المعايير، ويُختزل الإنسان في وظيفته السوقية، بلا جذور ولا رؤى.
وفي هذا السياق، يستوقفنا غياب التفاعل العربي مع هذه النقاشات الفلسفية الحيوية. كما أشار منتصر حمادة، فإن التفاعل في محورنا العربي مع إشكاليات مثل “الإشباع” و”الاغتراب الوجودي” يكاد يكون معدومًا، إلا من بعض المحاولات الفردية المعزولة، أو كتابات تكرّر ما كتب في فرانكفورت دون تأصيل ولا وعي نقدي.
ومدرسة فرانكفورت، التي ظهرت في ثلاثينيات القرن الماضي، قدّمت أدوات نقدية عميقة، اشتغلت على مفاهيم مثل: الصناعة الثقافية، العقل الأداتي، الاستلاب، السيطرة الرمزية. تأثر بها أدورنو، هوركهايمر، ماركوزه، ثم لاحقًا يورغن هابرماس.
وقد تركت هذه المدرسة بصمات على مفكرين عرب أمثال:
محمد عابد الجابري، في مشروعه “نقد العقل العربي”، حيث سعى إلى مساءلة البنى المعرفية الموروثة.
جورج طرابيشي، الذي فكك بنية “التراث النرجسي” وأساطيره.
محمد أركون، حين تحدث عن “العقل الإسلامي المغلق” و”اللامفكر فيه”.
أدونيس، في تتبعه لانهيار الإبداع لصالح قداسة الجماعة والخطاب الموروث.
لكن المأساة أن هذه التأثيرات لم تتحول إلى مشروع فلسفي عربي أصيل. بل ظلّت في دائرة الترجمة والتبعية الفكرية.
الجابري نفسه نَبَّه إلى هذه الهوة حين قال:
“الفكر العربي في واد، والفلاسفة في واد آخر”.
أما طرابيشي فكتب بمرارة:
“النهضة العربية أُجهضت لأنها لم تكن مصحوبة بنقد فلسفي للذات والواقع”.
وكان أركون أكثر وضوحًا حين وصف الفكر العربي بأنه “يعيش بين قمعين: قمع المؤسسة وقمع الذاكرة”، في إشارة إلى استحالة التفكير الحر وسط ثقافة تحاصر العقل من فوق ومن تحت.
وأما أدونيس، فكان جريئًا في قول ما لم يُقَل، حين أشار إلى أن بعض المفكرين مثل أركون وطرابيشي اعترفوا له بأن الخوف منعهم من قول الحقيقة كاملة.
قال”: الفكر العربي لا يخاف من الخطأ بقدر ما يخاف من الحقيقة”.
والحق أن ما زاد في تعقيد المشهد هو صعود الإسلام السياسي، الذي أغلق باب التفكير، وحوّل الدين من مشروع أخلاقي حضاري إلى أداة للصراع. لقد ساهم في ترسيخ ثقافة الطاعة والغوغائية، لا ثقافة النقد والمراجعة.
كما أن الأنظمة السلطوية ساهمت في خنق الفكر الحر، فتكبّلت النخبة، وتحوّل كثير من المثقفين إلى أبواق أو سماسرة ثقافة، يكتبون ما يُطلب منهم، أو يتهربون من الأسئلة الحارقة.
وقد انتقد علي حرب هذا التواطؤ بين النخب والسلطة، حين كتب:
“المثقف العربي مشغول بإعادة إنتاج الأوهام بدل تفكيكها”، داعيًا إلى كسر الصورة النخبوية المغلقة، ومساءلة موقع المثقف نفسه.
أما إدوارد سعيد، فقد ذهب أبعد من ذلك، حين وصف بعض المثقفين بأنهم “مستخدَمون من قبل السلطة”، وتحدث عن المثقف الحقيقي باعتباره “منفيًّا دائمًا، لا يسكن في قصر ولا يسكن في قطيع”.
إننا لا نعيش فقط في زمن الإشباع كما قال إتييه، بل نعيش في زمن الاختناق المعنوي، حيث صار السؤال الفلسفي ترفًا، والمفكر الصادق نادراً، والنخبة مذعورة.
لكن رغم كل شيء، يبقى الأمل في الكلمة الحرة، في فكرة تُكتَب في الظل، أو قلم ينجو من الرقيب، أو عقل يُولد في المنفى.ربما لا نملك اليوم “الفلسفة الكبرى”، لكننا نملك الأسئلة القلقة، وهي بداية كل فكر حيّ، وكل يقظة حقيقية.