منتصر حمادة
رغم أن هذا الكتاب صدر قبل صعود نجم أحمد الشرع، القيادي الجهادي السابق، على رأس السلطة السياسية في سوريا، منذ ثلاثة أشهر ونيف، إلا أنه يتضمن بعض المفاتيح التي نزعم أنها تساعدنا في قراءة تطورات الفتنة السورية، والتي تهدد عدة دول في المنطقة.
ليس هذا وحسب، بالرغم من أن العمل ألفته كاتبة صحفية، تشتغل بعيداً عن المجال البحثي، إلا أن مضامينه مفيدة في السياق البحثي، إن لم تكن أفضل مقارنة مع نسبة معينة من الأعمال البحثية في الساحة، وبيان ذلك أنه غالباً ما تكشف التحقيقات الصحفية الميدانية عن مفاتيح لقراءة وقائع الساحة بشكل يُضاهي أو يتجاوز أحياناً ما تكشف عنه الدراسات والأبحاث، وهذا ما ينطبق بشكل أو بآخر، على كتاب ألفته ليلى مينيانو، ويشتغل على واقع مدنية تدمر السورية، ومصيرها التراجيدي، وعنوانه: “التضحية بتدمر.. تحقيق استثنائي في قلب العرب السوري”.
لم تؤلف الكاتبة شيئاً من خيال أو أوهامها الشخصية، كما لَمَّح أحد النقاد في منبر إعلامي مسيحي المرجعية، وإنما مُجمل مضامين العمل عبارة عن تأكيدات توصلت إليها، ومؤسسة على شهادات استقتها بشكل مباشر من لدن اللاجئين (وخاصة في الفترة بين 2015 و2016)، ومن هنا أهمية العمل.
والواقع أن أصل العمل، كان مرتبطاً بتحقيق حول تهريب الآثار، وقد تمت أغلب التحقيقات في مقاهي تركية، بحكم الجوار الجغرافي والتاريخي بين البلدين، سوريا وتركيا، في لقاءات وحوارات واستفسارات وجهت إلى العديد من ساكنة تدمر، من الشباب والكهول، ذكرتهم المؤلفة جميعاً، لكن بأسماء مستعارة، (ص 22): القاسم المشترك لهؤلاء أنهم فروا من القمع السياسي للسلطات السورية ومن الرعب الديني لتنظيم “داعش”. (ص 18)
جاء الكتاب موزعاً على بابين بعنوان: الغزو؛ تدمر، مشهد الدولة الإسلامية، ويتضمن كل باب خمسة فصول، مع مقدمة بعنوان “علي بابا والأربعون حرامي”، وخاتمة بعنوان: “تدمر، تاريخ المنتصرين”، وجاءت عناوين الفصول كالتالي: الهجوم المفاجئ؛ الإخلاء السري؛ ذعر الجيش النظامي؛ الفخ يتعاظم؛ خيار التضحية؛ التطهير؛ سجن الصحراء: مملكة الموت؛ تدمر الشهيدة؛ التحف: تهريب في الذروة؛ ترتيبات صغيرة بين الأعداء.
من مُميزات العمل أيضاً أن خلاصته كانت أكثر تعقيداً، لأن المشهد كذلك، رغم أن مؤلفته اشتغلت على تسجيل شهادات، والسفر إلى عدة دول (تركيا ودمشق وفرنسا وسويسرا)، إضافة إلى متابعة تحليلات خبراء عسكريين من المنطقة ومن الغرب (أوروبا وأمريكا)، والتدقيق في صور التقطت عبر الأقمار الاصطناعية، وجلسات مع أعيان تدمر، مقربون من السلطات المركزية في دمشق. وقد اختتمت الكاتبة مقدمة العمل بشهادة جامعة صادرة عن محلل عسكري سوري، جاء فيها أن “التناقض في ذروته عندما نتحدث عن الوضع في تدمر: فرغم المتابعة الإعلامية الكبيرة التي حظيها بها هذه الأحداث، ولكن يبقى الجهل سيد الساحة، وما هو مؤكد أننا إزاء حرب قذرة، ولا تخضع لأي قواعد، وعليه، سوف ننتظر سنوات عدة حتى تخرج الجثث من الخزانات”. (ص 20)
“علي بابا والأربعون حرامي”، هو عنوان المقدمة العامة للكتاب، وتتوقف فيها المؤلفة عند تبعات دخول “تنظيم داعش” إلى تدمر، مشيرة إلى هذا الغزو تسبب في استرجاع ذكريات أليمة سابقة حول مصير مآثر تاريخية طالت بعض البقاع الإسلامية بسبب غزو “الجهاديين”، لعل أشهرها واقعة تدمير تماثيل باميان في أفغانستان في 2001، أو الدمار الذي طال متحف الموصل في فبراير 2015. يحدث ذلك في زمن حوّلت فيه الحرب الأهلية السورية أربع مدن إلى خراب طيلة أربع سنوات، وهي حلب، حمص، الرقة ثم تدمر. والنتيجة، أن التضحية بالشعب السوري طالت التاريخ السوري العريق نفسه، ووصل الأمر مع تهريب الآثار، إلى تغذية مصالح المستفيدين من التهريب: في أمريكا وأوروبا وإسرائيل وحتى في بعض دول الخليج العربي. (ص 26)
عنوان المقدمة سالف الذكر، مرتبط بتعرّف الكاتبة على أحد أشهر المُهربين في المدينة، من الذين يتاجرون في كل شيء: السجائر، جوازات السفر، المخدرات، وبالطبع، بعض القطع الأثرية، ولذلك كانت الساكنة تلقبهم بجماعة “علي باب والأربعون حرامي”. (ص 27)، وتضمنت المقدمة مزيداً من الأسئلة المُحيرة والصادرة هذه المرة عن الشاهد عصام [إسم مستعار]، بخصوص التطورات التي سبقت الغزو “الداعشي”، وفي مقدمتها سؤال حيّر ساكنة تدمر: لماذا رفض النظام الدفاع عن المدينة حتى آخر رمق؟ مضيفة أن الساكنة كانت تعاين بتذمر كبير التناقض بين في حالة السخط الذي كان واضحاً في المتابعات الإعلامية، وواقع الحال، لأن ذلك السخط لم يتجاوز سقف الأقوال، بمقتضى غياب قصور الجميع في الدفاع عن ساكنة المدينة، سواء تعلق الأمر بالثوار، أو قوات التحالف الدولي، وبالنتيجة، لا أحد تصدى للخراب الذي طال تدمر.
افتتحت المؤلفة جميع فصول الكتاب بجُملة استهلالية، وفي الجملة المفتاحية الخاصة بالفصل الثاني، نقرأ تصريحاً صادراً عن محافظ مدينة حمص، طلال البرازي مفاده أن “الهدوء والاستقرار يسودان في داخل المدينة”، وقد تعمدت المؤلفة الاستشهاد بهذه الجملة، والتي ستتوقف عندها بالنقد والتفصيل لاحقاً، من باب استحضار ما كان يصدر عن وزير الداخلية العراقي الأسبق محمد سعيد الصحاف، أثناء الغزو الأمريكي للعراق.
خُصّص هذا الفصل لاستعراض شهادة الشاب عصام الذي كان فيما مضى من قاطني المدينة، ولكنه يُدلي بهذه الشهادة اليوم في إحدى مقاهي مرسين، بتركيا، حيث يعيش اليوم على بعد 800 كلم من مسقط رأسه، مُعرباً عن حسرة كبيرة على مصير مدين أثرية كان عدد السائحين الذين يحجون إليها يتراوح بين 150 و200 ألف سائح سنوياً، قبل سبتمبر 2011، لتصبح في زمن الحرب مدينة مغايرة كلياً للزمن الذي مضى.
أوردت ليلى مينيانو شهادات بعض ساكنة المدينة، مباشرة بعد اندلاع أولى الاشتباكات بين السلطات الأمنية السورية وأتباع تنظيم “داعش”، وتصب أغلب هذه الشهادات في أن الساكنة عاشت رعباً حقيقياً من “حرب قائمة بين جبهتين تهاجمنا: ففي حال غزو “تنظيم الدولة” المدينة، كنا نخشى أن يتهموننا بأننا ساندنا النظام وبالتالي نُصبح عرضة للانتقام، والذي غالباً ما يتم عبر المشانق؛ أما في حالة إحكام الأمن السوري القبضة على المدينة، فقد يُعاقبنا لأننا أيدنا أو تعاطفنا مع “تنظيم الدولة”. وبالنتيجة، تضيف المؤلفة، لم تتمكن ساكنة تدمر من الفرار، وطال الأمر نفسه الآلاف من اللاجئين الذين حطوا بتدمر هرباً من أهوال الحرب في مدن أخرى. (ص 54)
خلُصَت المؤلفة إلى أن النظام لم يستعد بما يكفي لحماية تدمر من الغزو الداعشي المحتمل، أما ساكنة المدينة، فكانت خارج التغطية، ولم يتم إخبارها بالمستجدات الأمنية التي تهدد مستقبلها القريب مع اقتراب الخطر “الجهادي”، ولكن ما وقع قبيل غزو التنظيم، يُفيد أنه كانت للنظام حسابات أخرى، حيث تم إخلاء السجون، كما تم إخلاء أهم الإدارات العمومية، وخاصة محكمة المدنية ومعها المؤسسات البنكية، مع سحب الأرشيف والوثائق الإدارية، وإرسالها إلى حمص أو إلى مدن أخرى. وقد تمّ الأمر نفسه مع إخلاء متحف المدينة، والذي يُعتبر من أهم متاحف المنطقة، حيث اتضح أن عملية الإخلاء هذه، تمت أسابيع قبل دخول تنظيم “داعش” للمدينة (ص 67). ولخصت المؤلفة المشهد في خاتمة الفصل الثالث، مُعتبرة أن السلطات المركزية أعطت الأوامر للضباط وعائلاتهم والقوات الخاصة بإخلاء المدينة، مقابل عدم الاهتمام بمصير ساكنة المدينة التي كانت خارج الحسابات، بما يُفسر الحسرة التي صدرت عن بعض الشهادات، بخصوص إصرار محافظ حمص، من أن الوضع تحت السيطرة، وأن كله على أحسن ما يرام، والحال أن إخبار الساكنة بحقيقة الوضع، كان حينها، فرصة لمساعدتها على الفرار قبل قدوم تنظيم الدولة. (ص 75).
المشهد مفارق كلياً: ليست الحرب السورية التي سلطت الأضواء على سقوط تدمر، وإنما هذا الأخير هو الذي سيُكثف من تسليط الضوء على الحرب في سوريا، إلى درجة معاينة حملات رقمية دولية، تم تتويجها مع التفاعل الكبير الذي طال متابعة “هاشتاج [#تدمر أوPalmyre#]، وبالرغم من حملات التنديد الدولية، فإنها لم تدفع الجيش السوري أو قوات التحالف الدولي للدفاع عن ساكنة المدينة، فيما يُشبه الإعلان الأمني عن “التضحية بتدمر” (ص 97)، ومن هنا عنوان الفصل الخامس: “خيار التضحية”، وأوردت المؤلفة لائحة من المُحددات التي تفسر اتخاذ هذا القرار، وتتطلب هذه المحددات الأخذ بعين الاعتبار الوضع السياسي والأمني والمجتمعي في سوريا المنهكة بهذه الحرب الدموية، وفي مقدمة تلك المحددات الإنهاك الذي طال الجيش السوري من كثرة الجبهات العسكرية المفتوحة، ومن النتائج المباشرة لذلك، أن عدد الجنود والعسكريين والضباط تقلص من 250 ألف إلى 125 ألف، وذلك بالرغم من انخراط ميلشيات عراقية مرت من تدريبات أشرفت عليها قوات إيرانية.
من المُحددات أيضاً، أن التضحية بتدمر تندرج في سياق تطبيق قاعدة “سوريا النافعة”، وهي استراتيجية بلورتها دمشق في سياق التفاعل مع التطور التراجيدي للوضع بعد اندلاع الحروب وفتح الجبهات العسكرية هنا وهناك، مع تركيز بالتحديد على محيط درعة ودمشق وحمص، بمعنى أن النظام ارتأى الدفاع عن المناطق الأكثر إنتاجية من الناحية الاقتصادية، وحيث توجد حوالي 65 في المائة من الساكنة، وهنا بالذات، كانت تدمر خارج الحسابات. (ص 100)، وهذا خيار واجهته المؤلفة بعدة استفسارات، منها: إذا افترضنا أن النظام السوري لم تكن لديه قوات كافية للدفاع عن تدمر، ما الذي أعاق القيام بضربات جوية على تنظيم “داعش” في طريقه إلى المدينة؟ (ص 101)، والاستفسار الثاني: بما أن النظام كان متيقناً من الغزو “الداعشي” للمدينة، لماذا لم يُخبر الساكنة بذلك، على الأقل، لتأخذ احتياطاتها من هول ما هو قادم، وفي مقدمة تلك الاحتياطات، الخروج من تدمر.
مضامين الفصل الثامن من العمل كانت عبارة عن مقام من مقامات الاعتراف في حق خالد الأسد (81 سنة)، وهو أحد رموز المتاحف والآثار في سوريا، ولو أن اسمه ارتبط بمتحف تدمر دون سواه، حيث كان يسهر على تدبير شؤون المتحف والمناطق الأثرية في المنطقة منذ أربعة عقود، ويعود له الفضل بشكل كبير في الإشعاع الأثري للمدنية إقليميا ودولياً، لأنه كان مرشد رجالات الدولة أو مشاهير عالميين في الفن والتجارة، أثناء زيارتهم للمتحف والمناطق الأثرية.
لم يشفع هذا المسار الإداري والنضالي لخالد الأسد، حتى يهرب من حكم بالردة صادر عن تنظيم “داعش”، وكان مقدمة لإعدامه، بعد رفضه إعلان البيعة لأبي بكر البغدادي (ص 148)، حيث تم فصل الرأس عن الجسد، في ساحة عمومية، مع إبقاء الجثة في الساحة، لمدة ناهزت ثلاثة أيام، في حدث أسال بعض مداد وسائل الإعلام الدولية، ومعه مواقف بعض المسؤولين الغربين، أوردت منهم المؤلفة تفاعل المديرة العامة لليونسكو، إرينابوكوفا، أو تصريح حافل بالتناقضات، لوزير الخارجية الفرنسي السابق، لوران فابيوس، مفاده أننا إزاء “قتل بربري لرجل معرفة” (ص 146).
خُصّص الفصل الموالي للموضوع الذي بسببه حرّرت المؤلف الكتاب، لأن الأصل في التحقيق، لم يخرج عن الاشتغال الميداني على واقع الآثار في تدمر بعد اندلاع الحرب السورية، إلا أن تطورات الأحداث، وفداحة الوقائع، دفعت المؤلفة، للاشتغال على الخراب الذي طال المدينة، مع إفراد فصل للموضوع الأصلي، وكانت أهم خلاصاته، أن التهريب تورط فيه الجميع: في الداخل (الدولة وتنظيم “داعش”) والخارج (إسرائيل وأمريكا وأوروبا وبعض دول الخليج العربي).
من يقرأ عنوان الفصل العشر والأخير، وجاء كالتالي: “ترتيبات صغيرة بين الأعداء”، يعتقد أن الفصل مُخصّص لتسليط الضوء على بعض الترتيبات أو المفاوضات التي طالت المعنيين بالصراع، محلياً وإقليمياً، والحال أنه بالكاد تطرقت المؤلفة لهذه الجزئية في خاتمة الفصل، عندما أشارت إلى أن أطراف النزاع في تدمر، انتصروا للعقل البراغماتي، فمن جهة، ساهمت الشعارات الكبيرة التي رُوجت حول “الحرب على الإرهاب”، في تغذية خزائن تنظيم “داعش” مع تواطؤ لرجال أعمال، مع أن التنظيم هو المُستهدف الأول من هذه الحرب؛ ومن جهة ثانية، تواطؤ بعض الطهرانيين “الجهاديين” في تنظيم الأمن ببعض أحياء المدينة، مقابل تلقي أجوراً من دمشق، مع أنهم يزعمون قتال الجهاد ضد النظام. (ص 190).
من المفاتيح المفاهيمية التي جاءت في هذا الفصل الهام، تأكيد ما خلُصت إليه عديد دراسات ومقالات تطرقت لموضوع الاستقطاب “الجهادي”، حيث أكد عبد الله، أن التنظيم راهن بشكل كبير على الاستقطاب الرقمي، بما في ذلك استقطاب الشباب الأوروبي المسلم، ومما صدر عن المعاملة الداعشية أيضاً، نقرأ تورط القيادات في بيع نساء وشابات يزيديات، تحت شعار “العبودية”، ويحفل الفصل ببعض الأرقام ذات الصلة بهذا الملف الحقوقي المؤرق، من قبيل أن عددهن ناهز 3144 أسيرة، وأن ثمن “بيعهن” كان يتراوح بين 800 و900 دولار. (ص 180).
جاءت خاتمة الكتاب بلغة درامية وتغلب عليها نزعة تشاؤمية صريحة، من هول ما عاينته وخلُصت إليها المؤلفة، مُنتقدة بسخرية لاذعة، الدعاية والدعاية المضادة بين بث تنظيم “داعش” مشهد إعدام الجنود في مسرح تدمر الروماني، وبث قوات التحالف حفل موسيقى كلاسيكية لإحدى أشهر الفرق الكلاسيكية الروسية، والتي صاحبتها إشادة رسمية صادرة عن أعلى سلطة سياسية في روسيا: فلادمير بوتين (ص 199)، حيث توقفت المؤلفة عند الدور الروسي المفصلي في التحولات التي طالت الأوضاع في سوريا، سواء تعلق الأمر بالوضع في تدمر، أو الوضع في سوريا ككل، وهو الأمر الذي لم يتكرّر كما هو معلوم في نهاية 2024، وكانت إحدى نتائجه المباشرة، سقوط النظام السوري وصعود نظام سياسي بقيادي زعيم “جهادي”، ضمن ترتيبات استراتيجية، تتطلب الكثير من الكد البحثي والتأمل النظري.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=24034