18 يوليو 2025 / 17:48

مقاربة نقدية في أطروحة “فقه الدولة”: قراءة فلسفية وتاريخية

عبد الحي السملالي

 

في سياق التفاعل العلمي مع مقال الدكتور محمد البشاري

تمهيد منهجي

تأتي هذه المساهمة في إطار الحوار المعرفي المسؤول، الذي يَثريه الاختلاف ولا يُفسده، ويستند إلى علاقات فكرية وإنسانية راسخة مع الدكتور محمد البشاري. فمقاله المعنون بـ “فقه الدولة لا الجماعة: تصحيح البوصلة”، المنشور في صحيفة الاتحاد الإماراتية، يشكّل فرصة لتحريك الأسئلة الكبرى حول علاقة الدين بالدولة، بعيدًا عن منطق المنازعة أو التأييد المطلق.

الرؤية الإصلاحية التي يتبناها المقال جديرة بالنقاش، لكنها تفتح الباب أيضًا لمساءلة مفاهيمها وتوسيع أفقها، في ضوء التعقيدات التاريخية والفلسفية والسياسية التي تحكم المجال الإسلامي الحديث.

على صعيد آخر، لا يهدف هذا المقال إلى تقييم الخلفية الأيديولوجية للجماعات الإسلامية، بل يركز حصريًا على الجانب العلمي لتحليل المفاهيم والعلاقات بين الدولة والجماعة.

 

مراجعة أولية للمفاهيم والمنطلقات

  • اختزال العلاقة بين الجماعة والدولة في ثنائية متعارضة دون استكشاف إمكانيات التداخل أو التكامل.
  • غياب تفكيك فلسفي للمفاهيم الأساسية كالدولة والشريعة والمواطنة.
  • تجاوز السياقات التاريخية العميقة التي تشكلت فيها الدولة الوطنية وتطوّر فيها الفقه السياسي الإسلامي.
  • توظيف الشريعة في خدمة نموذج الدولة دون مساءلة بنيوية لمنطق الدولة ذاته.

 

 

إشكالات منطقية تستدعي التوضيح: ثنائية مغلقة بين الجماعة والدولة

يفترض المقال وجود تعارض جوهري بين “فقه الجماعة” و”فقه الدولة”، دون الاعتراف بالمرونة المفاهيمية الممكنة، خاصة أن التاريخ الإسلامي المعاصر يحتوي تجارب مزجية ومركّبة، مثل تجربة النهضة التونسية أو نماذج الحكم المحلي ذات المرجعية الإسلامية.

وهنا تجدر الإشارة إلى أن تناول تجربة النهضة لا ينطوي على تقييم لمسارها السياسي أو لمنظومتها الأيديولوجية، بل يقتصر على تحليل مكوّنها المفهومي بما يُثري النقاش العلمي ويُسهم في فك التداخلات المعرفية في سياق الدولة والجماعة.

 

الاستدلال الدائري: انغلاق المفهوم داخل ذاته

يعتمد المقال في بعض مواضعه على ما يُعرف بـ الاستدلال الدائري، وهو شكل من أشكال الحجاج المنطقي تُفترض فيه النتيجة مسبقًا داخل المقدمة، ثم تُستخدم المقدمة لتبرير النتيجة، مما يؤدي إلى انغلاق المفهوم داخل ذاته ويمنع مساءلته النقدية.

ففي هذا السياق، يتم افتراض أن الدولة الوطنية هي الإطار الطبيعي لتطبيق الشريعة دون تأصيل فلسفي أو تاريخي داعم، ثم تُستخدم هذه الفرضية لتبرير مركزية الشريعة، في حركة دائرية تُعيد إنتاج نفس التصور دون مساءلة مفهومية مستقلة. هذا الانغلاق يُضعف إمكانية تفكيك العلاقة بين الدولة والشريعة، ويجعل من الصعب التمييز بين ما هو توصيف واقعي وما هو تصور معياري مفترض.

 

تعميم غير مدعوم

القول بأن “تدين الجماعات لم يؤسس مشروعًا حضاريًا جامعًا” يعكس حكمًا واسعًا لا يسنده تحليل مقارن أو نماذج دقيقة، مما يحجب التنوع في تجارب الجماعات الإسلامية، ويختزل تاريخًا متشعّبًا في أطروحة أحادية لا تحتمل التعقيد.

ففي الواقع، أسهمت جماعات إسلامية عديدة في بناء تصوّرات حضارية أو مؤسساتية على المستوى المحلي أو الثقافي.

مثلًا، لعبت جمعية العلماء في الهند خلال الحقبة الاستعمارية دورًا محوريًا في نشر التعليم الديني وتطوير أساليب التفسير والتأويل، بما عزّز الهوية الإسلامية ضمن إطار متعدد الثقافات، دون أن تنخرط بالضرورة في صدام مع سلطة الدولة أو تسعى إلى احتكار الشرعية الدينية.

هذه التجربة، وغيرها، تظهر أن الجماعة ليست بالضرورة نقيضًا للمشروع الحضاري، بل يمكن أن تكون رافعة معرفية وأخلاقية تُغني المجال العمومي وتفتح أفقًا للتعدد والتجديد.

 

قراءة تاريخية وسياقية

  • يتجاهل المقال الخلفية الاستعمارية لنشأة الدولة الوطنية العربية، وهو تجاهل يُضعف مقاربته التاريخية.
  • لا يراعي تطور الفقه السياسي الإسلامي وتنوعه عبر العصور، مما يحدّ من إمكاناته التركيبية.
  • يغيب عن النص تحليل مرحلة ما بعد الدولة الوطنية، حيث تعدد الفاعلين وتحوّل بنية السيادة والديناميات السياسية.

 

تأملات فلسفية مفصلية

  • لا يقدم المقال تصورًا واضحًا لمفهوم المواطنة: هل هي ليبرالية فردانية أم تأويلية نابعة من قيم إسلامية؟ وهل يمكن الجمع بينهما؟
  • في نقده لتسييس الدين من طرف الجماعات، يبدو المقال متسامحًا مع توظيف الشريعة في خدمة الدولة، دون مساءلة منطق الدولة ذاته.
  • يغيب تحديد دقيق لمفهوم “الفقه المؤسسي”، مما يترك المفهوم غامضًا من الناحية النظرية.

 

إضاءات على التأسيس السياسي

  • يتغافل المقال عن طبيعة السلطة داخل الدولة الوطنية، وعن أدوات إنتاج الشرعية السياسية وتفاعلها مع المرجعيات الدينية والشعبية.
  • لا يتطرق إلى التعددية الدينية والسياسية، ويبدو متبنيًا تصورًا وحيدًا للشريعة كمصدر حصري للشرعية.

 

تأملات مفتوحة

إن قراءة مقال الدكتور محمد البشاري تستدعي قدرًا من التقدير لما يتضمنه من حرص على تجديد العلاقة بين المرجعية الدينية والبنية السياسية.

ومع ذلك، فإن محدودية التحليل المفهومي وغياب التعدد التاريخي والسياسي تحوّلان الطرح من مشروع إصلاحي إلى تصور معياري أحادي لا يُراكم في وعي الدولة ولا يُسائل بنيتها.

فالمقاربة المتبناة، رغم حيويتها، تميل إلى الحسم القيمي بدل الانفتاح المفهومي، مما يفرض علينا التفكير مجددًا في بنية “الفقه السياسي الإسلامي المعاصر”:

هل نحتاج إلى إعادة تعريف المفاهيم أم إلى مساءلة منطق السلطة الذي يصوغها؟ وهل يمكن بناء تصور مؤسسي للشريعة دون إعادة تفكيك الدولة ذاتها؟