الدكتور منير بوحوت
باستلهام كتابات برنارد لويس وصامويل هونتينتغ و فوكوياما، تبنى يوما بعد يوم أسوار من الجفاء والقطيعة بل والصراع الهوياتي بين الإسلام والغرب، دون أن يستثنى من هذه الروح القبلية في فهم هوياتنا المعاصرة مسلمو الغرب الذين يوصفون بعدم قدرتهم على الإندماج في المجتمعات الغربية ولا إثبات مواطنتهم، لأن دينهم الذي يختلف عن المفهوم الغربي (العلماني) للدين، يثبطهم ويعيقهم للعيش وفق قيم الحداثة والديمقراطية.
يحدث هذا في الوقت الذي يرفع فيه بعض الباحثين الغربيين سقف التطلعات من حوار الثقافات إلى تفكيك الثقافات، كما نجد مع الباحث الدكتور حاجي خليفة في كتابه: Islam-Occident : décloisonnons nos cultures.
إن هذا الفكر الإستعدائي الصدامي الذي نعيش تبعاته إلى يومنا هذا كمواطنين بالغرب، وهذه الروح القبلية في التعبير عن هوياتنا المعاصرة (أمين معلوف: الهويات القاتلة: قراءات في الإنتماء والعولمة)، هو ما يحول البشر في العالم إلى قتلة، وهذا يمتح بدون شك من تلك الصور القاتمة التي ميزت تاريخ الحوار والجوار الإسلامي المسيحي، وما أحداث نيوزيلاندا الإرهابية التي استلهمها منفذها من قائد الحملة الصليبية البابا أوربان الثاني 1136م منا ببعيد.
وعلى الضفة الأخرى المقابلة نجد في الغرب من المسلمين جماعات تغذي وتكرس هذا الفكر الصدامي مستلهمة فقها إنتهت صلاحيته وأصبح جزءا من التاريخ، فلا ترى في الغرب إلا داركفر ولا في الغربيين إلا أعداءا أزليين.
وبين الفريقين نجد إعلاميين وسياسيين يتبنون خطابا شعبويا ينحو منحى التعميم ويسلك مسلك التنميط، وأقل ما يقال عن هؤلاء المسلمين أنهم غير مندمجين وفاشلين إجتماعيا، كأنه لا وجود للون الرمادي الذي يشكل مساحة معتبرة ويعكس شريحة هامة من المسلمين المتعايشين المندمجين، تعليما وعملا ومشاركة في تدبير الشأن العام.
مواطنة المسلمين بالغرب: توصيف الوضع
بعد أن كان يعيش إسلامه كانتماء عرقي، مؤثرا الإنعزال على الإندماج، مهووسا ب”أسطورة العودة إلى البلد الأم”، شبت الأجيال المتعاقبة عن هذا الطوق، إذ لم تتردد أبدا في إرساء لبنات المواطنة والإندماج ولو باحتشام وتلقائية وتردد مع الجيل الثاني وبكل جرأة وإقدام مع الجيل الثالث، لا سيما بعد أن توطد العزم بأن وجوده بالغرب أصبح وجودا دائما، وإقامته إقامة غير عارضة.
لكن مالذي يجعل من مواطنة المسلمين بالغرب إلى يومنا هذا تقبع في منطقة الظل في واقع من الريبة و الإستشكال، وتتحول إلى مادة دسمة تتناولها بعض أقلام الغربيين من الساسة وأهل الإعلام على حد سواء بأوصاف منمطة ملؤها القدح والدونية ؟
لعل مما يثور التأكيد عليه لفك طلاسم هذه الإشكالية، هو أن واقع العلاقات الإسلامية (وضمنه المسلمون بالغرب) بالغرب المسيحي/ العلماني يحركه رصيد حافل من الصراع والصدام الذي لا يزال جاثما بكلكله على صدر الإرث التاريخي والذاكرة الجماعية للضفتين.
فكما لا يخفى فلقد كان الجزء الجنوبي من شبه الجزيرة الأيبيرية تحت الحكم الإسلامي بين عامي 711 و 1492. وتوسعت الإمبراطورية العثمانية في أوروبا وحاصرت فيينا في 1529 و 1683.
وفي الوقت الحاضر يشهد الغرب ارتفاعا لمعدلات الهجرة و وتصاعدا ملحوظا للسكان المسلمين الذين يؤمون إليه يوما بعد يوم، مع فارق في ثقافة الإنجاب ومعدلات الإخصاب، مما يجعل من ال Eurabia ظاهرة تتحول من “دائرة الوهم” الذي يسكن المخيال الجمعي للغرب إلى “سيناريو واقعي”، حيث يدق ناقوس الخطر في أكثر من بلد، من سياسيين وأكاديميين، بأن سكان الغرب في صيرورة حتمية ليتحولوا إلى حالة “الذمية” بعد أن يصبحوا أقلية في العقود المقبلة.
ويتعزز هذا الخوف خاصة بعد أحداث ال11 سبتمبر، ثم الهجمات الإرهابية اللاحقة وسفر الجهاديين الأوروبيين إلى سوريا للقتال مع الدولة الإسلامية.
وفي هذا السياق يأتي كتاب Renaud Camus باسم Le Grand Remplacement ليكون بمثابة الملهم لكثير من الأدبيات السياسية لحزب اليمين المتطرف ومن سار على شاكلته من الأحزاب لتتحدث عن استبدال كبير للسكان الأوروبيين، و”غزو إسلامي جديد” بأسلوب القوة المرنة Soft-Wear.
وتتأزم مواطنة المسلمين بالغرب كلما علمنا أن صناعة رهاب الإسلام (الإسلاموفوبيا) لم تصبح حكرا على اليمين المتطرف، بل أصبحت مركبا ذلولا لمعظم الأحزاب أو قاب قوسين من ذلك وإن كانت أحيانا تصدر بمسمى آخر هو “انتقاد الإسلام”.
و تزداد هذه الأزمة تعقيدا حسب Olivier مع جماعات من الشباب المعولم المزداد بالغرب، المولع بالثقافة الرقمية وتقنياتها Neo-Fundamentalist، هؤلاء الذين تضخم لديهم سؤال “أين وطني” و”أي تدين أجد فيه ضالتي” بما يومئ إلى “أزمة انتماء واعتقاد” في الآن ذاته، ليعوضوا هذا الخلل بالإنتساب إلى “أمة عالمية” بموجب عقد “مواطنة عابرة للحدود” تكسبه “هوية لاسياقية” لاتمت بصلة لا إلى السياق الثقافي لبلاد آبائهم ولا للبلد الذي ولدوا فيه، وغالبا ما تنتهي بهم هذه الأزمة الهوياتية إلى الإلتحاق بقوافل العدمية الإنتحارية التي هي وبال على الأوطان والإنسان.
وبعيدا عن نظرية المؤامرة، وسعيا منا الى شيئ من جلد الذات، نؤكد أن المسلمين بالغرب ليسوا كتلة واحدة، ولا نزعم أن كل أطيافهم تبارك فكرة الإندماج والمواطنة في بلاد الغرب… فهناك جماعات تحتكر النطق باسم السماء و تروج لخطاب إسلامي مزيف يدعو إلى الكراهية والجفاء بل والعداء للغرب وقيمه، تنزيل عقيدة الولاء والبراء والحاكمية، والنهل من فقه العزلة واعتبار الغرب دار حرب، وتحريم الجنسية (فتوى علماء الجزائر بتحريم الجنسية زمن الإستعمار) من غير تحقيق لمناط ولا مراعاة لسياق، حجتهم في ذلك كلام فقهي أكسبه التداول التاريخي شرعية الإتباع والأصل فيه أنه مجاف لروح القرآن والسنة..وأظلم ما يكون للإنسانية..
وسط ركامات من البناء العشوائي والتشكلات الكاذبة (شبنكلر) في الخطاب الديني بالغرب، وفي ظل غرب يقبل بانتهاء التاريخ في عهده، ويجعل من الصراع منطقا له ويبشر بالصدام والصراع بين الحضارات؟ نتسائل:
هل لا تزال تسعف المعالجات الفقهية (فقه الأقليات) للإجابة عن التحديات الكبرى والإشكاليات الفكرية المستجدة التي يواجهها الوجود المسلم بالغرب بعد أن لم يعد أقلية؟
إلى أي حد يمكن للمسلمين بالغرب أن يحققوا مواطنة متساوية في ظل مركزية غربية متغلبة، تدعي كونية قيمها في الوقت الذي تقوم ب”مصادرة إقطاعية” لحقهم في التعدد الهوياتي داخل المشهد الثقافي الغربي؟
المصدر : https://dinpresse.net/?p=5989