لم يُولَدْ “محمد حاجب” إرهابياً في المغرب. ولم يَكُنْ لا سلفيًّا ولا جهاديّاً في مدينة “تطوان”، التي ازداد فيها سنة 1981. ولم يحْمِل على كَتِفَيْهِ الكلاشينكوف في “تيفلت”، المدينة الجميلة المُتاخِمة للعاصمة الرباط، التي قضى فيها سنواتِ طفولتِه وشبابِه.
بلْ ترعْرعَ داخل أسرةٍ متعلمةٍ تتكوَّن من أبٍ عَمِلَ أستاذاً لمادَّةِ اللغة العربية، أيْ اللغة التي تصنع الأدباءَ والمُبدعينَ، ومن أمٍّ موظفةٍ بالمحكمة الابتدائية، أيْ المؤسسة التي تصنع رجالَ القانونِ والقضاء.
بلْ “تربَّى” الطفلُ “حاجب” داخل أسرةٍ سياسيةٍ ومناضلةٍ، فأبوهُ “حمادي حاجب” كان عنصرا نشيطاً ضمن حركة “إلى الأمام” اليسارية، وقضى أكثر من سنة داخل المعتقلات بسببِ نشاطِه السيَّاسي.
اجْتهَدَ الأبوانُ في تعليم ابنِهِما اللّغةَ الألمانية. ومِثْلُها مثلُ كلِّ المغاربة، تأثَّرتْ الأسرةُ بموت الملك الحسن الثاني كثيراً، وكان تأثُّرُ الابنُ “حاجب” أكثرَ، عندما قرر سنة 1999 أن يقطع عشراتِ الكيلومترات رَاجِلاً وباكياً من “تيفلت” إلى “الرباط”، للمشاركةِ في جنازةِ الملك الراحل.
فما الذي تغيَّر حتَّى أصبح هذا الشابُّ المغربيُّ متآمراً ضِدَّ وطنِه؟
مَنْ حوَّل الشابَّ “حاجب” إلى “سلفيٍّ جِهاديٍّ” وإلى آلة تحريضية تعمل بالليل والنهار على تدميرِ بلده الأصليّ؟
مَنْ كانَ وراءَ صناعةِ “العنف” و”الإرهاب” و”الحقد” داخل قلب هذا المواطن المغربي؟
كلُّ شيءٍ كان عادياً في حياة هذا الشاب. إلى أن هاجر “محمد حاجب” إلى ألمانيا لدراسة الاقتصاد. ثمانيُّ سنواتٍ قضاها في هذا البلد الأوروبي كانتْ كافيةً لتحويلِه إلى مِعْوَلٍ هدَّامٍ وإلى إرهابيٍّ خطيرٍ.
كانت ألمانيا، كغيرها من البلدان الأوروبية، مَلاذاً للإسلاميين الفارِّين من الشرق الأوسط، ومَرتَعاً للسلفيِّين المُتَشبِّعين بالفكر الجهاديِّ العابرِ للقارات، الذي وضعَ أُسُسَه زعيمُ تنظيمِ القاعدة “أسامةُ بن لادن”.
هذه الشخصيّة “الجهادية” التي أثَّرت كثيرا في الشابّ “حاجب”، حتى باتَ مثالَه الأكبرَ وقُدوتَه المثالية في الحياة، سواءُ في طريقة الكلام، أو اللِّباس، بلْ حتَّى في كيفيّةِ ربطِ العِمامةِ على الرأس.
بدأ انشاطه الديني يتزايد داخل التراب الألماني، وشرع في تقمُّصِ شخصيةِ “الدَّاعية” داخل الجامعات والمساجد وفي الأماكن العمومية. يعترف “حاحب” عندما كان طالبا بقوله: (عندما كنت في مدينة دوينسبيرغ الألمانية، كنت أتحرك في الدعوة، أدعو الشباب إلى الصلاة، فكان كثير من الشباب يأتون إلى المسجد، ربما يكون ذلك وراء انزعاج السلطات الألمانية مني، ويمكن وجود شيء آخر).
كلُّ هذه التحركاتِ الدينيةِ والنشاطات الدعويةِ المريبة كانت تحدث أمامَ أعينِ أجهزة الأمن الألماني مدة ثماني سنوات متكاملة. ألم تكن ألمانيا على علمٍ بذلك؟؟
تزوَّج الداعيةُ الجديدُ بالإيرلاندية “ماريا كونلن”، وولد معها ثلاثةَ أبناء. وحصَل على الجنسية الألمانية. كما نال كلَّ الوثائقِ التي يحتاجها لاستخراج جوازِ سفرٍ ألمانيٍّ.
اجتمع “حاجب” بثُلَّةٍ من معتنقي الفكر الجهاديّ، وقرَّروا الرحيل إلى أفغانستان عبر بلد ثالث هو باكستان. وكانت الحيلة هي تقَمُّصُهم لشخصيات تشتغل في إطار جماعة “الدعوة والتبليغ”.
لم تَنْطلِ الحيلةُ على أجهزةِ الأمنِ الباكستانيِّ، فتمَّ اعتقالُ “حاجب” لأوّل مرةٍ في حياته، فقضَى أربعةَ أشهرٍ وسبعةَ عشرَ يوماً بمعتقلات “إسلام أباد”، خلال صيف سنة 2009، بتهمة “الدخول إلى الأراضي الباكستانية بطريقة غير شرعية”.
فدولةُ باكستانَ لا تعتقل أبدا رجالَ جماعةِ “الدعوة والتبليغ”، التي يوجد مقرها العام فوق مجالها الترابي، لكنها فَطِنت إلى مناورات “حاجب”، ونواياه الخفية في الالتحاق بأرض “الجهاد”، فأرْجَعَتْه من حيثُ جاءَ.
ألمانيا لم تستقبل “حاجب” بالورود. فعندما حطت طائرته بمطار فرانكفورت في فبراير من عام 2010، رفضت أجهزتها الأمنية السماحَ له بالدخول إلى أراضيها، وطلبت منه إكمال رحلته إلى بلده الأصلي المغرب.
فلو كانت المخابرات الألمانية على علمٍ تامٍّ بانتمائه لجماعة “الدعوة والتبليغ”، ومقتنعةً ببراءته من الغلو والتطرف، لما طردته من ترابها؟؟
بلْ أخضعَهُ مسؤولو الشرطة الجنائية لولاية “هيسن” لتحقيقٍ مُطوَّلٍ بمطار “فرانكفورت” يوم 17 فبراير 2010، وبَاشَرَ نحو 25 موظفا التحقيق الأمني معه، وأخبروه في النهاية بأنه من غير المسموح له الدخول إلى ألمانيا، بل وأبلغوه ساعتها أنهم سيسحبون منه الجنسية الألمانية.
فهل اكتشف الأمن الألماني صدفةً أن “حاجب” هاجر إلى باكستان من أجل “الجهاد”، للانضمام إلى صفوفِ طالبان وتنظيم القاعدة؟؟ ولماذا لم تحاكمه على أراضيها؟ أم كانت خائفة من انتقام تنظيم القاعدة؟
قام أمن مطار “فرانكفورت” بترحيله فورا إلى مدينة الدار البيضاء، بعد ساعات طوال من التحقيق المتواصل، وبعد إشعار السلطات المغربية بموعد الرحلة الجوية.
إذن غادر “حاجب” المغرب، شابا مُسالما، وتلميذا يافعا، وبعد عقد من الزمن يعود إليه من ألمانيا “سلفيا جهاديا”، وشخصا خطيرا ذا سوابق في الاعتقال، فأين تعلم “الفكر الجهادي” وتدرّب عليه؟؟
يوم 18 فبراير 2010 تحُطُّ طائرة حاجب بمدينة الدار البيضاء. كان رجال الأمن في استقباله. لتتمَّ إحالته على الوكيل العام للملك بالرباط، وبعدها على قاضي التحقيق بسلا، وأفضى البحث حسب محاضر الشرطة القضائية إلى اعتراف “محمد حاجب” بأنه “كان في باكستان، ودخل إلى أفغانستان، وأنه تعلم المتفجرات، وأنه تعلم الضرب بالكلاشينكوف”.
وتمَّ الحُكم عليه بعشر سنوات يوم 24 يونيو 2010، وتقدَّم محاميه بنقض للحكم، فاقتنع القضاء المغربي بتاريخ 9 يناير 2011 بتقليص الحكم إلى 5 سنوات.
في سجون المملكة المغربية، برزت عدوانية “حاجب” بشكل مفزعٍ ورهيبٍ. دخل “الجهادي” في إضرابات كثيرة عن الطعام. ودخل في مناوشات وصراعات خطيرة مع إدارات السجون. وتم تنقيله من سجن إلى سجن حتى استقر به المقام أخيرا في سجن “تيفلت”.
المدينة التي يتحدر منها أبواه، والتي تربّى فيها وتعلم فيها القراءة والكتابة، فخرج منها شابا متعلما مسالما، ليعود إليها معتقلا فظّاً غليظاً، وشخصاً خطيراً.
وانطلقت شرارات الربيع العربي سنة 2011، وصادف ذلك تواجد “حاجب” بسجن سلا، فانخرط من داخل السجن في دعم حركة 20 فبراير الشهيرة. وشرع في تسجيل الفيديوهات من داخل المعتقل مناصرةً للثورة، وتحريضاً ضد النظام المغربي. فكان يدعو الشباب إلى العصيان المدني، وإلى التظاهر أمام المؤسسات الأمنية. ويحضُّ السجناء على الثورة والاحتجاج داخل السجون.
“بوشتى الشارف”، معتقل إسلامي سابق، يقدم شهادته في تلك الفترة: “كان حاجب يحرض المعتقلين على إثارة المشاكل داخل السجن، وأنه هدد بحرق نفسه، وهو من تسبب في واقعة سطح سجن سلا، هو لي حرض الإخوة على الصعود والتقاتل مع الموظفين وحرق راية المغرب” (انظر الفيديو).
وهو التمرّد الذي اعترف “حاجب” بأنه كان مهندسه من مرحلة الإعداد والتخطيط إلى مرحلة التنفيذ والإنجاز. وعلى إثر أعمال الشغب بسجن سلا، أُدين “حاجب” بسنتين سجنا نافذا سنة 2011، ليصبح مجموع السنوات المحكوم بها سبعة أعوام.
لم يكف السجن لردع حاجب عن تمرده أو التخفيف من عدوانيته، فدخل في إضرابات مستمرة عن الطعام. وكان يكتب في كل يوم شكاية أو مراسلة. ويسجل الأشرطة التحريضية. ويدفع السجناء إلى الاحتجاج والتمرد.
ولامتصاص هذا الشغب المفرط، ولكبح نشاطه “الدعوي” المستمر والمتزايد، وخوفا من تأثيره على باقي السجناء بفكره “الجهادي”، المستورد من ألمانيا، عملت إدارة السجون على ترحيله من سجن إلى سجن داخل التراب المغربي.
في سجن تيفلت وبتاريخ 24 مايو 2016، أقدم “الجهادي حاجب” على ارتداء اللباس البرتقالي الخاص بمعتقلي غوانتانامو، أسوة بمعتقلي تنظيم القاعدة، فتم منعه من ذلك. فصُنِّف ضمن السجناء الخطرين على أنفسهم وعلى باقي السجناء.
ولم يتوان هذا السجين في استغلال صور أبنائه الثلاثة والزج بهم في صراعاته المريرة داخل السجون، ودفعهم إلى حمل شارة احتجاجية على أذرعهم كما يفعل أبوهم المتمرد داخل السجن.
خرج من السجن يوم 18 فبراير 2017، بعد أن أتم سجنه كاملا، خمس سنوات بسبب نشاطه الإرهابي، وسنتان بسبب احتجاجاته وتمرده داخل سجن سلا.
يستفيد هذا الجهادي الآن من الدعم والإعانات الاجتماعية التي تصرفها الحكومة الألمانية له ولغيره. يقول حاجب بعد مغادرته المغرب: (أنا الآن في ألمانيا، هناك مؤسسة رسمية منعتني من العمل، وتقول إن الخبرة الطبية إن التعذيب الذي تعرضت له وما ترتب عنه أثر كثيرا على نفسيتي، وإنني لا أستطيع القيام بأي عمل خلال الأعوام الثلاثة المقبلة، وتكفلوا برعايتي).
بعد عودته إلى ألمانيا واستقراره مع زوجته وأبنائه وحصوله على الدعم الكافي، يستغل حاجب شبكات التواصل الاجتماعي لمتابعة نشاطه الإرهابي ضد مؤسسات بلده الأصلي المغرب، وليقوم بتصريف غضبه وحقده ضد رموز بلده الدينية والعلمية والثقافية، وليحرِّض على العنف والانتقام ضد الأشخاص والمؤسسات.
كشف تقرير القناة الفرنسية (إم 6)، ضمن برنامج (تحقيق حصري)، عن استقبالٍ بالأحضان لـ”الجهاديين” الفارين من بؤر الصراعات في الشرق الأوسط، ومنحهم ملاذا آمنا في ألمانيا. لتبقى هناك أسئلة معلقة:
ـ كيف قامت ألمانيا بترحيل حاجب سنة 2010 بسبب نشاطه الإرهابي، ثم تستقبله سنة 2017 وتوفر له كل الرعاية والدعم؟
ـ لماذا تراجعت ألمانيا عن سحب الجنسية عن حاجب بعدما حققت معه سنة 2010 وتأكد لديها أن ذهابه إلى باكستان كان بسبب رغبته في ممارسة “الجهاد”؟
ـ محمد حاجب رحل إلى ألمانيا شخصا عاديا، فتعلم فيها التطرف الديني، وتشبع فيها بالفكر الجهادي، وهو الآن ألماني، ويمارس بحرية كاملة نشاطا معاديا ضد المغرب ومصالحه، فبماذا يمكن تفسير هذا التراخي الخطير للسلطات الألمانية؟؟
ـ ولماذا يسكت هذا البلد الأوروبي عن معاداة هذا المواطن الألماني للسامية وتحريضه باستمرار ضد اليهود في العالم؟ وقد أدت ألمانيا ثمنا باهظا بسبب هذا الفكر في فترات حالكة من ترايخها.
المغرب لم يكن أبدا مسؤولا عن انحرافات محمد حاجب، فهل يتم استغلال هذا الجهادي وأمثاله للتآمر على المغرب، وهل هناك أجندة خفيه تُحاك ضده، بعدما حقق نجاحات باهرة على مستوى وحدته الترابية، وبعدما بات رقما صعبا في علاقات إقليمية ودولية تتسم بالاضطراب وبتضارب المصالح؟
دين بريس ـ سعيد الراشيدي
المصدر : https://dinpresse.net/?p=14587