محمد إكيج
في العاشر من دجنبر من هذا العام صدر بلاغ عن الديون الملكي أعلن فيه جلالة الملك ـ بكل جرأة وشفافية ووضوح ـ عن جملة من التدابير الاستراتيجية التي تتعلق بقضيتنا الوطنية الأولى وخاصة إعلان الولايات المتحدة الأمريكية اعترافها الرسمي بالسيادة المغربية الكاملة على أراضيه في الصحراء المغربية، ومنها أيضا ما يتعلق بالقضية الفلسطينية قضية العرب والمسلمين الأولى، حيث أكد البلاغ على عزم المغرب اتخاذ الخطوات السيادية التالية:
ـ تسهيل الرحلات الجوية المباشرة لنقل اليهود من أصل مغربي والسياح الإسرائيليين من وإلى المغرب،
ـ استئناف الاتصالات الرسمية الثنائية والعلاقات الديبلوماسية في أقرب الآجال؛
ـ تطوير علاقات مبتكرة في المجالين الاقتصادي والتكنولوجي. ولهذه الغاية، العمل على إعادة فتح مكاتب للاتصال في البلدين، كما كان عليه الشأن سابقا ولسنوات عديدة، إلى غاية 2002.
مع التأكيد في ذات الوقت “بأن هذه التدابير لا تمس بأي حال من الأحوال، الالتزام الدائم والموصول للمغرب في الدفاع عن القضية الفلسطينية العادلة، وانخراطه البناء من أجل إقرار سلام عادل ودائم بمنطقة الشرق الأوسط”.
وعلى إثر هذا البلاغ، أصدر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بيانين منفصلين، الأول بتاريخ 11 دجنبر 2020 جاء فيه أنه “بعد الاتفاق على تطبيع العلاقات بين المغرب والكيان الصهيوني الغاصب، فإنالاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يدين هذه الخطوة، ويؤكد كافة مواقفه الثابتة من التطبيع مع الكيان الصهيوني الذي لا يزال يحتل مسجدنا الأقصى، وقدسنا وأرضنا المباركة، وجولاننا، ويريد ابتلاع البقية”، وأن “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين يعرب عن رفضه وإدانته لهذه الخطوة التي لا تجوز شرعا، ولا تتناسب مع مكانة المغرب الذي يرأس لجنة القدس الشريف، بل وتتنافى مع مواقف الشعب المغربي، المساندة دوما للشعب الفلسطيني، والمناهضة لكل أشكال الاحتلال والاغتصاب والعدوان والإجرام، التي يمارسها ويتمادى فيها الكيان الصهيوني، الذي لا تزيده هذه المبادرات التطبيعية إلا تعنتا واستكبارا وعدوانا”.
وأما الثاني فكان بتاريخ 12 دجنبر 2020، وجاء فيه أن “الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين لم يصدر منه أي تهجم ضد الجزائر بل يكنّ لها منتهى الود والاحترام، ويبارك مواقفها المشرفة حول قضيتنا الأولى. وكل ما صدر عن الاتحاد في هذا المجال هو إدانته لتطبيع المغرب (وغيره) مع المحتلين لقدسنا وأرضنا، وليس فيه أي إشارة للجزائر أو الصحراء، وما سوى ذلك فهو افتراء على الاتحاد”.
وهنا لابد من الوقوف مع هذين البيانين ببعض الاستفهامات الاستنكارية:
ـ هل يجرؤ هذا الاتحاد على إصدار بيان يستنكر فيه ويدين التطبيع القائم بين قطر وإسرائيل؟ حيث يوجد “مكتب تمثيل المصالح الإسرائيلية في الدوحة” منذ سنة 1996 والذي افتتحه شمعون بيريز شخصيا رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك،والذي حظي باستقبال رسمي كامل في مطار الدوحة، إذ تَضمّن التحية العسكرية ورفع العلم الإسرائيلي وعزف الفرقة الموسيقية العسكرية القطرية النشيد الوطني للدولة العبرية “هتكفا”؟ بل ووفق إيلي أفيدار، الذي ترأس البعثة الإسرائيلية بالدوحة من 1999 إلى 2001، عملت البعثة بوصفها سفارة، حتى وإن لم يُسمح لها برفع العلم الإسرائيلي أو وضع لافتة عند مدخل مبناها (انظر كتاب ” قطر وإسرائيل – ملف العلاقات السرية. للدبلوماسي الإسرائيلي سامي ريفيل والمنشور عام 2011). أم أن الاتحاد لا يجرؤ على ذلك لأن العاصمة القطرية هي التي تحتضن المقر الرئيس له، وهي التي تنفق على أنشطته بسخاء تميمي لا حدود له؟ !!
ـ وفي نفس السياق أيضا هل سبق للاتحاد برئاسته السابقة أو الحالية أن أدان تركيا سواء إبان قياداتها السياسية القديمة أو حتى في عهد القيادة الأردوغانية الحالية، رغم أنها تعيش علاقات تطبيعية تامة مع إسرائيل دبلوماسيا وعسكريا وتجاريا وسياحيا؟
ـ كيف يبيح الاتحاد لنفسه أن يصف تطبيع المغرب علاقاته مع إسرائيل بأنها “لا تجوز شرعا”!!؟ هل لديه دليل قطعي الثبوت والدلالة من نص قرآني أو حديثي صحيح يؤكد هذه الفتوى؟ لأن القول بالجواز الشرعي أو عدمه لا يمكن الإقدام عليه إلا بدليل شرعي صريح حتى لا يدخل صاحبه في زمرة الوعيد الإلهي {وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلَالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ}.
ثم إن القول بعدم الجواز الشرعي فيه إيهام لجمهور المسلمين بأن المغرب ملكا وحكومة وشعبا هدم ركنا عظيما من أركان الدين، أو أنه انتهك حُرْمة مَعْلومٍ من الدين بالضرورةانتهاكا لا يغتفر!! والحال أن مثل هذه القرارات إنما تدخل في دائرة السياسة الشرعية التي تجد تأصيلها فيما يسمى بـ”تصرفات الرسول صلى الله عليه وسلم بالإمامة”، أي تصرفاته عليه الصلاة والسلام بوصفه إماما للمسلمين ورئيسا للدولة، يدير شؤونها بما يحقق المصالح ويدرأ المفاسد، ويتخذ الإجراءات والقرارات الضرورية لتحقيق المقاصد الشرعية في المجتمع. فهي تصرفات تشريعية اجتهادية خاصة بزمانها وظروفها، ولذلك يعبر عنها ابن القيم الجوزية بأنها “سياسة جزئية” بحسب المصلحة العامة التي ترتبط ببيئتها وأشخاصها وزمانها وإكراهاتها وفرصها الراجحة أو المرجوحة…
وعليه فإن ما أقدم عليه ملك البلاد بصفته أميرا للمؤمنين ورئيسا للدولة وقائدا أعلى للقوات المسلحة المغربية داخل في مجال تقدير المصالح الاستراتيجية للمملكة وتحديد علاقاتها الداخلية والخارجية؛ ولا شأن لأي دولة أخرى عربية أو إسلامية أو غربية، ولا لأي هيئة علمية أو سياسية كيفما كان لونها وتوجهها،في الحكم على مثل هذه القرارات لا بالجواز ولا بالبطلان.
ـ كيف تعامى بيان الاتحاد عن القول الصريح في البلاغ الملكي أن المغرب: “وعلى الرغم من هذه التدابير المعلن عنها، سيبقى وفيا وملتزما في دفاعه عن القضية الفلسطينية”؟ ألا يدخل هذا في باب الوقوف عند “ويل للمصلين”أثناء قراءة نص البلاغ؟ ألا يمكن تفسير هذا التجاهل بأن الغاية منه هي تقبيح صورة المغرب أمام الرأي العام العربي والإسلامي، وبالتاليتسويغ التحامل عليه بأي شكل من أشكال التحامل الظاهر والخفي وربما حتى العنيف!!؟
ـ بأي حق يلمز ويُعرّض الاتحاد بالمغرب في بيانه الثاني الذي يُغازل فيه الجزائر بقوله إنه “يكنّ لها منتهى الود والاحترام، ويبارك مواقفها المشرفة حول القضية الفلسطينية”؟ بل ويشير فيه إلى “الصحراء” –هكذا مجردة-من غير وصف بالمغربية، أليس في هذا تَبَنِّيًا ضمنيا لموقف الجزائر العدواني تجاه قضيتنا الوطنية، التي تساند الأطروحة الانفصالية وتستهدف وحدة المغرب الترابية وتمزيق لحمته الاجتماعية والسياسية؟ ألم يسبق لهذا الاتحاد أن أصدر بيانات تدين تقسيم السودان وترفض تقسيم أراضي العراق واليمن وسوريا والصومال؟ فلماذا إذن يستثقل رؤساء الاتحاد وأمناؤه إدانة حكام الجزائر الذين لم يتوانوا منذ خمسين عاما خلت من السعي الحثيث لتقسيم الأراضي المغربية؟؟ أو ليست وحدة أراضي المغرب أيضا جديرة أيضا بالغيرة والذود من طرف مؤسستكم التي تحمل اسم “الاتحاد” الذي هو صنو “الوحدة” تركيبا ودلالة؟!!
وأخيرا نذكر مصدري البيانين ـ إن كان لابد من تذكير ـ أن من مبادئ الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين مبدأ “الاستقلالية”، ولا شك أن هذا المبدأ يفرض على هذا الاتحاد الالتزام بالحياد والموضوعية والوقوف على مسافة واحدة تجاه جميع الدول العربية والإسلامية، وألا يحشر أنفه في تقييم مثل هذه المواقف السياسية والسيادية للدول لما يطبعها من التغير والتقلب حسب الأوضاع الجيوسياسية الدولية والإقليمية والوطنية؟؟
المصدر : https://dinpresse.net/?p=12671