سعيد الكحل
تتوالى مناورات حزب العدالة والتنمية منذ بدأ الحديث عن تغيير القاسم الانتخابي وحذف العتبة لمنح الفرصة للأحزاب الصغيرة للمشاركة في تدبير الشأن العام من داخل المؤسسات المنتخبة. مناوراته تمثلت في تهديد عدد من قيادييه بمقاطعة الانتخابات أو باللجوء إلى المحكمة الدولية فضلا عن ارتفاع أصوات أعضاء من مجلسه الوطني مطالبة بالانسحاب من البرلمان.
وإمعانا في السعي إلى ابتزاز الدولة والضغط عليها ، لجأ إلى عقد المجلس الوطني (برلمان الحزب) لأكثر من مرة، وإن حول قضايا مختلفة الجامع بينها هو تهديد الدولة وابتزازها حتى تعدل عن تغيير القاسم الانتخابي. وبعد أن خاب مسعاه باللجوء إلى المحكمة الدستورية التي أقرت بدستورية تغيير القاسم الانتخابي باعتماد المسجلين في اللوائح وليس فقط المصوتين، صار يتباكى على الديمقراطية وعلى نجاعة المؤسسات المنتخبة ومصداقيتها.
إن قيادة البيجيدي التي تتباكي اليوم عن الخيار الديمقراطي وتتهم الدولة وباقي الأحزاب باتخاذها قرارا “يمس بمصداقية المؤسسات المنتخبة ويجعلها غير قادرة على التعبير الحقيقي عن الإرادة العامة للأمة”؛ ومن ثم يحملها مسؤولية “التراجعات الماسة بالمكتسبات الديمقراطية لبلادنا”، هي التي تصدت ، بكل شراسة إلى كل محاولات تحديث الدولة ودمقرطتها منذ رفعت النساء مطلب تعديل مدونة الأحوال الشخصية سنة 1992 وإلى حدود اليوم.
وبيان الأمانة العامة للحزب الصادر في هذا الشأن يستدعي الملاحظات التالية:
1 ــ إن البيان يثبت عدم احترام الحزب للمؤسسات الدستورية ، وأنه يخضع لقراراتها اضطرارا وليس اختيارا واقتناعا. ففي الوقت الذي تؤكد فيه الأمانة العامة للحزب “على المكانة المركزية التي تضطلع بها المحكمة الدستورية في المنظومة المؤسساتية وكذا دورها الأساسي في استقرار البنية الدستورية والقانونية لبلادنا”، نجدها “تجدد تأكيد مواقفها ومواقف المجلس الوطني للحزب من اعتماد القاسم الانتخابي على أساس قاعدة المقيدين في اللوائح الانتخابية”. فأمانة الحزب ترفض القرار وتتهم كل الأطراف المؤيدة له ( الدولة، الأحزاب ، المحكمة الدستورية) بالتراجع عن المكتسبات الدستورية ، و” تمييع عمل المؤسسات ويجعلها غير قادرة على الاضطلاع بأدوارها الدستورية والقانونية وخاصة قيامها بوظيفتها التنموية”واتخاذ قرار” يمس بمصداقية المؤسسات المنتخبة”، “فضلا عن كونه شاردا ديمقراطيا وناشزا عن التجربة العالمية المقارنة”. فمنطوق البيان ومضمونه يؤكدان الموقف الحقيقي للحزب من المحكمة الدستورية ؛ وبهذا يؤسس للاستخفاف بدور هذه المؤسسة الدستورية وعدم احترامها بدليل رفضه للقرار وجملة الاتهامات التي كالها لكل الأطراف المؤيدة له. ولو أن الحزب يملك من القوة ما يسمح له بالخروج للاحتجاج والتعبير عن العصيان لما تردد لحظة . لقد أفلت حركة 20 فبراير التي استغلها البيجيدي مرارا في ابتزاز الدولة ،فلم يبق أمامه غير التسليم بالأمر الواقع.
2 ــ إن البيان يفوح بالنفاق السياسي والاجتماعي حين يزعم “أن مواقف حزب العدالة والتنمية من الاستحقاقات المقبلة تندرج من منطلق حرصه أساسا على الحفاظ والدفاع عن ثوابت الأمة، ومواصلته النضال والتدافع والترافع من أجل تكريس الإرادة الشعبية وتوطيد الاختيار الديمقراطي ببلادنا”.هذا نفاق بواح تفضحه مواقف الحزب من عدد من القضايا التي تشكل جوهر الديمقراطية ومبادئها الأساسية، وفي مقدمتها: الحريات الفردية ، حرية الاعتقاد ، حقوق المرأة وحقوق الطفل الخ.. فسبق لمحمد الطوزي، أحد أعضاء اللجنة الملكية لمراجعة الدستور ، أن قال بأن “العمل على مشروع الدستور الجديد كان قد طال موضوع الدولة المدنية” وأن “الضغوطات التي مارستها حركة التوحيد والإصلاح، وتهديدات بنكيران الأمين العام لحزب العدالة والتنمية أدت للتراجع عنها”. كما أدت ضغوط البيجيدي وحركة التوحيد والإصلاح إلى التراجع عن دسترة حرية الاعتقاد التي تضمنتها مسودة الدستور كالتالي “الدولة تضمن حرية المعتقد بما لا يتعارض مع القانون والنظام العام”، فتم سحب هذه الجملة من الدستور. لقد ناهض البيجيدي الأسس الديمقراطية لبناء الدولة المدنية الحديثة وضغط من أجل كبح الانتقال الديمقراطي الحقيقي بكل الوسائل بما فيها الكذب لتهييج الوجدان الشعب ضد التيار الحداثي والديمقراطي والتحريض ضد المطالبين بحرية الاعتقاد .وفي هذا الإطار التحريضي يأتي تصريح بنكيران “ماذا تعني حرية العقيدة؟ السماح بالإفطار علنا خلال شهر رمضان؟ إشاعة الحرية الجنسية والشذوذ الجنسي بين عامة الناس؟”.
3 ــ الديمقراطية هي كل لا يتجزأ وليست مجرد آلية انتخابية. فمنذ نشأة الحزب وإلى اليوم وسيظل ثابتا على العقائد التي تأسس عليها والمستمدة من الإطار الإيديولوجي الذي وضعه البنا وقطب ، ظل يعلن مناهضته للقيم الديمقراطية وحقوق الإنسان في بعده الكوني. لهذا ناهض مشروع خطة إدماج المرأة في التنمية الذي يضمن لها حق الولاية على نفسها في الزواج ويحررها من ولاية الذكور. كما يضمن لها حق تطليق نفسها بعدما كان الزوج يحتكر قرار الطلاق. ولا يزال الحزب يصر على تزويج القاصرات وحرمانهن من الحق في التعليم. فالحزب الذي يتباكى اليوم على “الاختيار الديمقراطي” وعلى “خرق” الدستور ، هو أكبر عرقلة في وجههما ، وهو الذي لا يكتفي بخرق الدستور وإنما بتعطيله.
4 ــ إن البيجيدي تهمه المناصب والمكاسب التي تضمن لأعضائه الريع السياسي الدائم والمتواصل. أمْر لم يُخْفِه بنكيران حين صرح في أتباعه “أنهم جاو باش يديرو لاباس”. فالغضب على القاسم الانتخابي الذي عبر عنه بيان الحزب إنما مصدره توقع فقدان عشرات المقاعد البرلمانية ومعها المناصب والمكاسب.
لا يمكن أبدا لمن يلبس جبة الشيخ أو المرشد ويطالب بجعل الشريعة المصدر الأسمى للتشريع وإلغاء ما يراه متعارضا معها من حقوق ومبادئ وقيم وتشريعات، ويناهض حقوق الإنسان ويكرس الظلم والاستغلال في حق المرأة والطفل ويأتي بمشروع قانون يشرعن جرائم الشرف ويبرئ مرتكبيها ، ويكفّر المخالفين وأتباع الديانات والملل غير أعضاء جماعته ، ويحرض على الكراهية ضد اليهود والمسيحيين ، ويطالب بنصب المشانق تطبيقا “لحد الردّة” في القرن الواحد والعشرين.. لا يمكن لحزب هذه عقيدته ومطالبه وينشد إقامة دولة الخلافة على أنقاض الدولة المدنية قاعدتها الولاء والبراء وليس قيم وحقوق المواطنة، أن يطالب بالديمقراطية أو يتباكى عليها. فأعداء الديمقراطية لا يمكن أن يطالبوا بها.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=14169