دين بريس ـ سعيد الزياني
أظهرت زيارة البابا فرنسيس إلى كورسيكا، منتصف الشهر الجاري، مرة أخرى علاقته المعقدة مع مفهوم العلمانية، وخصوصا العلمانية الفرنسية التي تُعرف بفصلها الصارم بين الدين والدولة لضمان حرية المعتقد.
في خطابه خلال هذه الزيارة، انتقد البابا العلمانية الفرنسية، معتبرا إياها متأثرة بشكل مفرط بعصر التنوير، مما يؤدي، حسب رأيه، إلى تصوير الأديان كـ”ثقافة فرعية” بدلا من اعتبارها عنصرا أساسيا في النسيج الاجتماعي، وهي ملاحظة تسعى إلى إعادة صياغة العلاقة بين الدين والدولة في سياق يتجاوز النموذج الفرنسي التقليدي.
ويرى البابا علمانية فرنسا عقيدة جامدة تعيق التفاعل بين الدين والمجتمع، وقدم نموذجا بديلا لما سماه “العلمانية الديناميكية”، التي تقوم على التعاون المستمر بين السلطات المدنية والدينية مع احترام الحدود بينهما، لكنه في الوقت ذاته، طرح تساؤلات حول قابلية هذا النموذج للتطبيق في فرنسا، حيث تلعب العلمانية دورا حاسما في الهوية الوطنية.
لم يكن اختيار البابا كورسيكا، الجزيرة ذات الأغلبية الكاثوليكية التي تتميز بتدين نشط ومترابط مع الحياة اليومية، مجرد صدفة، فقد وجد فيها مثالا واقعيا للتدين الشعبي الذي يتناغم مع رؤيته لعلاقة متوازنة بين الإيمان والمجتمع. هذه الزيارة، التي شملت خطابات وفعاليات دينية وثقافية، شكلت فرصة للبابا لتعزيز مفهومه البديل للعلمانية، بوصفها إطارا للتعايش بدلا من أداة للفصل الحاد بين الدين والدولة.
ورغم الرسائل الإيجابية التي حملتها زيارة كورسيكا، إلا أنها أثارت جدلا بسبب التناقضات التي تحيط بمواقف البابا نفسه، فتصريحاته الأخيرة حول الإجهاض، حيث شبه الأطباء الذين يجرونه بـ”القتلة المأجورين”، أثارت استياء واسعا حتى بين الكاثوليك، كذلك، وصفه المرأة بأنها “الاستقبال المثمر والرعاية والتفاني الحيوي”، يُظهر رؤية تقليدية لدورها، مما يعزز النقد الموجه للكنيسة بشأن استبعاد النساء من المناصب القيادية.
إضافة إلى ذلك، لا يزال صمت الفاتيكان عن قضايا العنف الجنسي داخل الكنيسة وعدم اتخاذ خطوات شفافة لمعالجتها يثير أسئلة جدية حول مدى استعداد الكنيسة لتبني الإصلاحات التي تدعو إليها.
كل هذه التناقضات وغيرها تسلط الضوء على تحديات تواجه البابا فرنسيس شخصيا والكنيسة الكاثوليكية بشكل عام، ففي الوقت الذي يدعو فيه إلى نموذج أكثر مرونة للعلمانية، يُنظر إلى الكنيسة على أنها كيان يعاني من الجمود في التعامل مع قضايا داخلية تتعلق بالشفافية والمساواة والعدالة، لذلك، فإن نقد البابا للعلمانية الفرنسية، على الرغم من كونه مبررا في بعض الجوانب، يواجه صعوبة في اكتساب المصداقية بسبب هذه التحديات الداخلية.
لذلك، فإن رؤية البابا للعلمانية بكونها “ديناميكية ومتطورة”، رغم جاذبيتها من حيث المبدأ، تبدو صعبة التحقق في سياق فرنسي يرى العلمانية كحصن يحمي التعددية الدينية والفكرية.
ومن جهة أخرى، تحمل دعوة البابا لعلمانية جديدة بُعدا عالميا، حيث تسعى إلى تجاوز النموذج الفرنسي التقليدي نحو صياغة مفهوم أكثر شمولية يتناسب مع مجتمعات ذات أغلبيات دينية واضحة أو تلك التي لا يزال الدين فيها جزء من الهوية الوطنية، هذه الرؤية تتماشى مع جهوده لتعزيز التدين الشعبي كوسيلة لتعميق الإيمان وتقوية الروابط الاجتماعية، وهو ما يظهر جليا في كورسيكا، حيث يشكل التدين جزء من الحياة اليومية.
في نظرنا يبدو أن تحقيق هذه الرؤية يتطلب من الكنيسة الكاثوليكية أن تكون مثالا للتغيير الذي تدعو إليه، فإذا كانت العلمانية، من منظور البابا، بحاجة إلى أن تكون ديناميكية ومتطورة، فإن الكنيسة بدورها بحاجة إلى أن تكون أكثر انفتاحا على النقد الذاتي والإصلاح.
إن معالجة القضايا المتعلقة بدور المرأة، ومواجهة العنف الجنسي داخل الكنيسة بشفافية، والابتعاد عن الخطاب الذي يبدو متناقضا مع قيم العصر، كلها خطوات ضرورية لتقديم نموذج أكثر انسجاما مع متطلبات العالم الحديث.
وفي النهاية، يبدو أن البابا فرنسيس يسعى لإعادة تعريف العلمانية كإطار ديناميكي يتيح التعايش والتعاون بين الدين والدولة، هذه الرؤية، رغم صعوبتها في سياقات مثل فرنسا، تقدم بُعدا جديدا للنقاش حول العلمانية ودورها في المجتمعات الحديثة.
غير أن نجاح هذه الرؤية يعتمد على قدرة الكنيسة الكاثوليكية على أن تكون شريكا فاعلا ومصلحا، بحيث لا يقتصر النقد على الآخرين، بل يمتد إلى الداخل أيضا، وبذلك، يمكن للبابا أن يحقق رؤيته لعلاقة أكثر توازنا بين الإيمان والمجتمع، تُثري التجربة الإنسانية بدلا من أن تعيقها.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=22147