د لحسن السباعي الادريسي
يتطلب النقاش الدائر حاليا حول الطريقة البودشيشية والهجوم الشنيع الذي تتعرض له توضيحا يأٌتي من خضم الطريقة من متشبث بمبادئها وفي لشيوخها وعامل على أن يبقى للتصوف ذلك الحضور القوي الذي ميزه في بلادنا منذ قرون وهو ما أدى إلى تأسيس الدولة المغربية على أساس الشرعية الدينية على يد المولى ادريس رضي الله عنه ثم المرابطين فالموحدين والوطاسيين والمرينيين فالسعديين ثم العلويين.
كثيرة هي المراجع التي وضعت تعريفا للتصوف نحتاج لها اليوم بالنظر للخلط الذي يقع فيه الكثيرون. وهكذا وضع سيدي محمد بن الصديق الغماري رحمه الله التعريف التالي فلتعلم أن الطريقة أسسها الوحي السماوي في جملة ما أسس من الدين المحمدي اذ هي بلا شك مقام الإحسان الذي هو أحد أركان الدين الثلاثة التي جعلها النبي صلى الله عليه وسلم بعد ما بينها واحدا واحدا فقال هذا جبريل جاء يعلمكم دينكم.
وكان التصوف و الزوايا هدفا لمحاولات يائسة لطمس معالمه في عهد الحماية بل إن بعض السلفيين انخرطوا في محاربة أولياء الله باسم الإصلاح الديني متجاهلين ما ورد في الكتاب والسنة، ومنه ما جاء في الحديث الذي رواه سيدنا عمر بن الخطاب أن “من عباد الله أناسا ما هم بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء يوم القيامة لمكانهم من الله، قالوا يا رسول الله خبرنا من هم، قال هم قوم تحابوا بروح الله على غير أرحام بينهم ولا أموال يتعاطونها، فوالله إن وجوههم لنور وإنهم لعلى نورو لا يخافون إذا خاف الناس ولا يحزنون إذا حزن الناس”. وقرأ هذه الآية “ألا إن أولياء الله لا خوف عليهم ولا هم يحزنون”.
لقد كان المغرب بفضل التصوف مصدرا للتدين عبر شيوخ الطرق الصوفية والذي يمكن سرد بعضهم مع الاعتذار من الآخرين الذين تجد بينهم أناسا عاديين لا يعرف سرهم إلا الله والراسخون في العلم. وهكذا انتشر الدين الحنيف في إفريقيا بفضل عمل سيدي أحمد التيجاني رضي الله عنه وانتقل سر مولاي عبد السلام بن مشيش رضي الله عنه على يد مريده أبي الحسن الشاذلي الى تونس ومنها إلى مصر ثم أبلى بعده مولاي سليمان الجزولي صاحب دلائل الخيرات البلاء الحسن والقاضي عياض الذي قيل عنه لولاه ما عرف المغرب وشارك سيدي أبو المحاسن الفاسي رضي الله عنه عمليا في معركة وادي المخازن ومولاي العربي الدرقاوي رضي الله عنه في حرب تطوان.. إلخ.
لقد غيبت عنا الحداثة هذه النماذج وتلك المعاني ولهذا عانقت مثل كثير من أبناء جيلي الأفكار اليسارية بقوة في سبعينات القرن الماضي وشاركت في كثير من الأعمال والمبادرات التي نظمت آنذاك في إطار الحركة الطلابية، لكن قراءاتي المتنوعة دفعتني إلى الاهتمام بالروحانيات وجعلتني اقتنع بضرورة صحبة شيخ، فاجتهدت في البحث عنه حتى وفقني الله في فبراير 1981 إلى لقاء سيدي حمزة القادري البودشيشي.
لو علمت بأنه شيخ طريقة ما كنت لأقصده من فرط التعبئة التي تعرض لها جيلنا، والتي مفادها أن الطرق الصوفية تعاملت مع الاستعمار وخانت قضايا الوطن وهذا ما يفنده دور سيدي المختار جد سيدي حمزة الدي قاد قبائل بني يزناسن لمواجهة التغلغل الاستعماري في التخوم الشرقية لبلادنا، ودور الشيخ ماء العينين في الجنوب ورجال آخرين مثل الحجامي والادريسي والبصير وغيرهم.
في أول لقاء لي مع سيدي حمزة خلته لا ينتمي لزماننا أو كأنني كنت قادما من زمن آخر لم نعد نرى تلك السحنة الربانية وذلك النور الذي يسطع من وجهه من فرط الابتعاد عن الله ولم يسعفني في هذا أصلي ولا سلوك والدي وسمته.
دعاني سيدي حمزة للغذاء وكانت أولى المناسبات للحوار معه حوار كان فيه رضي الله عنه مثالا للشيخ المربي الذي يسمع أكثر مما يتكلم، وحين يتكلم يكون حديثه مركزا هادفا ومدافعا عن موقفه بكل لطف وهدوء. وتوالت بعد ذلك الزيارات لسيدي حمزة واكبتها لقاءات شبه يومية مع الفقراء أي مريدي الطريقة كما كنت دائم الحضور في كل الأنشطة الثقافية والاجتماعية التي تنظمها الطريقة وعلى رأسها الاحتفالات السنوية بعيد المولد النبوي الشريف.
وحيث إنني كنت الناطق الرسمي باسم الطريقة كانت لي مشاركة في التظاهرة الكبيرة المنظمة في إطار الحملة حول الاستفتاء لسنة 2011، ودافعت آنذاك في قناتي التلفزة المغربية وفي الصحافة المكتوبة عن هذا الموقف موضحا أنه موقف يمليه الواجب الوطني والديني والسعي إلى استقرار البلاد. لم يكن هذا موقفا سياسيا كما يحلو للبعض أن يصفه. فالسياسة تشمل كلما يتعلق بالحكم والسلطة والقوانين والعلاقات بين الدول وبالقرارات المتخذة يوميا في هذا الشأن.
أين الطريقة من كل هذا؟ هل سبق أن اتخذت موقفا من التدافع بين مكونات الحقل السياسي؟ هل شاركت في انتخابات حتى تصل الى مجلس من المجالس؟
حضرت مئات الاجتماعات في الطريقة ولم أسمع يوما انتقادا لأحد أو تملقا لآخر وكنا دائمي الدعوة لملك البلاد من منظور شرعي لأنه يمثل الجماعة والدعاء له بالخير لا يمكن إلا أن يصيب الجماعة كذلك.
لكن ومنذ التحاقي بالطريقة لاحظت أننا كنا دائما موضوع مراقبة لصيقة، بل إنني ووالدي استدعينا للاستنطاق من طرف المسمى الخلطي بمخفر الشرطة حيث كانت تعمل الاستعلامات العامة. وقد تلت ذلك مرحلة انفراج كبير مارسنا فيها كل أنشطتنا وهو الأمر الذي بدأ يتلاشى الآن خصوصا بعد وفاة شيخنا سيدي جمال والرغبة في وضع اليد على الزاوية والتعامل معها كما تم التعامل مع القوى السياسية بتعيين شيخ على المقاس.
لقد سبق ان طلب أبناء الشيخ سيدي العربي بن المعطي الشرقاوي تعيين أحدهم شيخا من طرف السلطان مولاي سليمان بعد وفاة والدهم وتلقوا جوابا من السلطان أوضح فيه أن هذه ولاية ليس كسائر الولايات يوليها السلطان بل هي ولاية لدنية يوليها لمن استحقها الرحمان. فالولاية في الزوايا هي سر يمر من شيخ إلى آخر.
السر موجود رغم ما تم الترويج له مؤخرا ممن لم يكرمهم الله بتذوق بعض تجلياته، فقد قال الجنيد رحمه الله: السر ما استودعك الله من علوم غيبية- وتحدث ابن العربي عن سر الأسرار وهو الحضور الإلهي في كل شيء.
وأستغرب ممن يدعي إنه عارف بالتصوف أن يصل الى القول بعدم وجود السر الذي هو ما يجعل المصاحب للشيخ يمر من حال إلى أحوال حيث إنه يغير باطن الإنسان وينمي محبة الله ورسوله والأصل في ذلك هو وظيفة التزكية التي ورثها المشايخ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تلك التزكية التي غيرتهم من قوم غلاظ شداد إلى رجال لا تلهيهم تجارة ولا بيع عن ذكر الله، والتي جعلت من الفاروق رضي الله عنه رجلا شديد البكاء بعد ما كان فظا غليظ القلب في الجاهلية.
السر الصوفي هو جوهر التصوف وهو نور لا يورث ولا يكتسب بمرسوم بل هو هبة ربانية لمن يختاره، وإذا كان شيخ الطريقة يأذن لمن يليه فهذه سنة الله في خلقه وقد تجد غير ذلك في مراحل أخرى وعلى كل حال فالتوارث وارد حتى عند الأنبياء لقوله تعالى – ذرية بعضها من بعض.
رب قائل يقول بأن هذا يهم الأنبياء وحدهم لكن الله ما أرسلهم إلا ليكونوا قدوة للناس والتوارث لا يمكن مقارنته بتوارث ممتلكات الدنيا، ولهذا سمعنا شيخنا المشمول برحمة الله سيدي جمال يشهد الله وملائكته والناس أجمعين على أن وصيته لشيخنا سيدي منير لم تكن بأمره بل بإذن رباني. وما يزكي هذا هو أن الشيخ وحده مؤهل لتسليم المشعل لمن يليه وهو السر الذي يمر من شيخ الى شيخ في سلسلة ذهبية متصلة الى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
لقد عرفنا سيدي منير منذ شبابه وعلمنا غيرته على الطريق ومحبته لدين الله وحرصه على الأذكار الفردية والجماعية دون تفريط في دراسته التي شملت علوم الدين وعلوما حديثة.
كان منذ صغره متحمسا جديا في كل شيء وقد أقام بيننا في الرباط رفقة أخيه سيدي مراد ردحا من الزمن كان فيه نعم المرافق للشباب، حيث قام بتأطيرهم والإشراف على اجتماعات الذكر التي كانوا ينظمونها مع حثهم دائما على الدرس والتحصيل حتى انهم جميعا نجحوا في ذلك وأصبحوا اليوم من الأطر التي يشهد لها الناس بالاستقامة والجدية والإخلاص.
واليوم بعد كل هذا التحامل على الطريقة البودشيشية ماذا تستفيد البلاد من هذا التهجم الذي لا يمكن أن يكون تلقائيا.
إن ذكر الله فيه حفظ للجميع فالنور حين تشعله لا يختار جزءا من المكان بل يشمله بأتمه. والحمد لله أن المغاربة لا زالوا مواظبين على قراءة القرآن الكريم صباحا ومساء، وأن الطرق الصوفية تحث اتباعها على المزيد من الذكر لكن ما يراد تصفيته هو ذكر مأذون تشع أنواره على الجميع.
لقد علمنا شيوخنا ألا نناصب العداء لأحد، أن نحب كل الناس وندعو لهم جميعا بالخير، وانطلاقا من تجربتي في الطريقة وفي الحياة، أخاف على هؤلاء وأولئك من تداعيات كل هذا. نحن لا حول لنا ولا قوة ولكننا نستحضر دائما قوله تعالى: “الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانا، وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل، فانقلبوا بنعمة من الله لم يمسسهم سوء، واتبعوا رضوان الله، والله ذو الفضل العظيم”.