ذ. محمد جناي
يمثل تدريس مهارات التفكير النقدي تحديًا بالغ الأهمية في عصرنا، وذلك وفق خُلاصةٍ لتقرير أعدَّه الكاتب ” بول راتنر” ونشره موقع «بيج ثينك»الأمريكي، ويستعرض فيه الكاتب ست مراحل للتفكير النقدي تساعد على التفكير وتحليل الأمور بفاعلية.
ويستهل الكاتب تقريره بالإشارة إلى أن فيروس كورونا المستجد لم يفتك بالسكان حول العالم فحسب، بل إن انتشاره هاجم أيضًا طبيعة الحقيقة ذاتها وأثار توترات متأصلة بين مجموعات مختلفة من الناس، على المستويين المحلي والدولي، وبسبب تفشي نظريات المؤامرة وسياسات التشويش التي مارستها الحكومات، كان الفيروس أيضًا دليلًا حيًّا على الحاجة الماسة إلى تعليم مهارات التفكير النقدي الضرورية للبقاء على قيد الحياة في القرن الحادي والعشرين.
هكذا يُمكن لنظافة منزلك والبيئة حولك أن يؤثرا في صحتك العقلية، ويمكن لنظرية «مستويات تطور الفكر النقدي (The Stage Theory)»التي ابتكرها عالِما النفس «ليندا إيلدر» و«ريتشارد بول» أن تساعدنا في قياس مدى تعقيد مناهجنا العقلية الحالية، وتقديم خارطةَ طريقٍ لتفكير الآخرين.
وقد حدد الباحثان ست مستوياتٍ يمكن التنبؤ بها من المفكرين النقديين، بدءًا من المستويات الأقل عمقًا وجهدًا وصولًا إلى المستويات المتقدمة للنوابغ وأسَاطِين التفكير، الذين يسبقون غيرهم دائمًا بخطوات.
يقترح الباحثون ستة مستويات للمفكرِين النقديين: المفكرين النمطيين، والمفكرين المتحدِّين، والمفكرين المبتدئين، والمفكرين الممارسين، والمفكرين المتقدمين، والمفكرين النابغين.
وكما كتب العلماء، فإن الارتقاء في الهرم الفكري الذي نحن بصدده «يعتمد على مستوًى ضروريٍّ من الالتزام من جانب الفرد لتطويره ليكون مفكرًا ناقدًا»، ذلك أن استخدام العقل بفعاليةٍ أكبر ليس أمرًا تلقائيًّا و«من غير المرجح أن يحدث دونَ وعي»، وبعبارة أخرى يتعين على الشخص أن يبذل جهدًا ويستمر في ذلك، وإلا سيفقد تلك المَلَكَة.
وينتقل الكاتب إلى استعراض مراحل التطور الفكري:
أولا: المفكر النمطي
يوضح الكاتب أن المفكرين النمطيين لا يكترثون بالتفكير وتأثيره على حياتهم؛ وعلى هذا النحو، فإنهم يشكِّلون آراءهم ويتخذون قراراتهم بناءً على الأحكام المسبقة والمفاهيم الخاطئة، في الوقت الذي يتجمَّد فيه تفكيرهم ولا يتطور.
ويفتقر المفكرون الخاملون إلى المهارات الحاسمة التي تسمح لهم بتحليل أنماط تفكيرهم، كما أنهم لا يطبقون معايير مثل الدقة والملاءمة والوضوح والاتساق المنطقي.
وفيما يخص عدد هؤلاء المفكرين النمطيين، يقول الكاتب إن بالإمكان تخمين عددهم بناءً على تعليقات وسائل التواصل الاجتماعي، وكما كتب إيلدر وبولس «من الممكن جدًّا أن يتخرج الطلاب من المدرسة الثانوية، أو حتى من الجامعة، ويظل تفكيرهم جامدًا عند مرحلة التفكير النمطي إلى حد كبير».
ثانيا: المفكر المتحدِّي
يلفت الكاتب إلى أن هذا المستوى من المفكرين يعي أهمية التفكير في وجودهم ويدرك أن أوجه القصور في التفكير يمكن أن تسفر عن مشاكل كبرى، وكما يوضح علماء النفس، يُعد الإقرار بوجود مشكلة ما بمثابة البداية الصحيحة لحل تلك المشكلة.
يبدأ الناس في هذه المرحلة الفكرية في إدراك أن «التفكير العالي الجودة يتطلب تفكيرًا تأمليًّا متأنيًا بشأن التفكير»، ويمكنهم الاعتراف بأن عملياتهم العقلية يعتريها كثير من أوجه القصور، ومع ذلك، فقد لا يتمكنون من تحديد جميع أوجه القصور هذه.
وقد يشعر المفكر المتحدِّي بأن التفكير الحصيف ينطوي على الإبحار في عالم الافتراضات والاستنتاجات ووجهات النظر، ولكن على المستوى الأولي فحسب، وقد يكون باستطاعتهم أيضًا اكتشاف بعض حالات خداعهم الذاتي، وأوضح الباحثون أن الصعوبة الحقيقية التي يواجهها مفكرو هذه الفئة تتمثل في عدم «الاعتقاد بأن تفكيرهم أفضل مما هو عليه في الواقع؛ مما يزيد من صعوبة التعرف على المشاكل الكامنة في التفكير العقيم».
ثالثا: المفكر المبتدئ
ينوَّه الكاتب إلى أن المفكرين في هذا المستوى يمكنهم تجاوز التواضع الفكري الناشئ، والتطلع بنشاطٍ لامتلاك زمام تفكيرهم في مختلف مجالات حياتهم، وهم يدركون أن تفكيرهم تغيب عنه بعض الأمور ومشاكل أخرى، ومن ثم يتخذون خطواتٍ لمعالجتها، ولكن بقدرة محدودة.
يضع المفكرون المبتدئون قيمة أكبر للعقل، الأمر الذي يجعلهم واعين بذواتهم في أفكارهم، وقد يكون بإمكانهم أيضًا البدء في النظر في المفاهيم والأحكام المسبقة الكامنة وراء أفكارهم،وفضلًا عن ذلك، يطور هؤلاء المفكرون معايير داخلية أرقى فيما يتعلق بالوضوح والدقة والمنطق، مدركين أن ذواتهم تلعب دورًا رئيسًا في قراراتهم.
ويضيف الكاتب أن هناك جانبًا كبيرًا آخر يميز هذا المستوى الأعلى من التفكير، وهو القدرة الجزئية على تقبل النقد لطريقتهم في التفكير، على الرغم من أنه لا يزال أمامهم عمل للقيام به، وقد يفتقرون إلى الحلول الواضحة الكافية للقضايا التي يستكشفونَها.
رابعا: المفكر الممارس
وألمح الكاتب إلى أن هذا النوع من المفكرين الأكثر خبرة لا يقدِّرون أوجه القصور الخاصة بهم فحسب، لكن لديهم مهارات للتعامل معها، ذلك أن المفكر في هذا المستوى يمارس عادات تفكير أفضل ويحلل عملياته العقلية على نحو منتظم.
وفي حين أن المفكرين الممارسين قد يكونون قادرين على التعبير عن نقاطِ قوةِ عقلهم ونقاط ضعفه، إلا أنهم قد يفتقدون طريقة منهجية لامتلاك نظرةٍ ثاقبةٍ لأفكارهم، وقد يقعون فريسةً للتفكير الأنانيِّ والخداع الذاتي.
وفي الإجابة على السؤال المطروح حول كيفية الوصول إلى هذه المرحلة، يجيب علماء النفس بالقول إن «المثابرة الفكرية» تُعد إحدى السمات المهمة اللازم اكتسابها، وهذه السمة يمكن أن توفر «الدافع لتطوير خطةٍ واقعيةٍ للممارسة المنهجية (بهدف التحكم أكثر في تفكير المرء)».
ويكتب الباحثان: «يتعين علينا أن ندرس على النحو الذي يجعل الطلاب يفهمون القوة الكامنة في معرفة أنه عندما يفكر البشر، فليس أمامهم خيار سوى استخدام هياكل فكرية معينة يمكن التنبؤ بها: إن التفكير مدفوع لا محالة بالأسئلة، وبأننا نبحث عن إجابات على الأسئلة لغرض ما، ونحتاج إلى معلومات للإجابة على الأسئلة، ولاستخدام تلك المعلومات يجب علينا تفسيرها (أي من خلال استنتاجاتِنا)، وأن استنتاجاتِنا تستند بدورها إلى افتراضات، ولها تداعيات، تنطوي جميعها على أفكار أو مفاهيم في إطار وجهة نظر ما».
خامسا: المفكر المتقدم
يتابع التقرير: لا يصل الشخص عادةً إلى هذه المرحلة حتى التخرج من جامعته وما بعدها حسب تقدير العلماء. ويمتلك هذا المفكر الرفيع المستوى عاداتٍ قويةً تمكِّنه من تحليل تفكيره على بصيرةٍ في مختلف مجالات الحياة، وسيكونون منصفين وقادرين على استجلاء الجوانب المتحيِّزة في وجهات نظر الآخرين وفهمهم.
وفي حين أنهم يملكون القدرة على التعامل الجيد مع الدور الذي تلعبه ذواتهم في تدفق الأفكار، فإنه لم يزل هؤلاء المفكرون غير قادرين على فهم جميع التأثيرات التي تؤثر على عقليتهم.
ويشعر المفكر المتقدم بالارتياح إزاء النقد الذاتي، ويفعل ذلك على نحو منهجي وهو يتطلع إلى التحسن والتطور، ومن بين السمات الأساسية المطلوبة لهذا المستوى «البصيرة الفكرية» لتطوير عادات فكرية جديدة، و«النزاهة الفكرية» للتعرف على مجالات التباين والتناقض في حياة المرء، و«التعاطف الفكري» لوضع نفسه مكان الآخرين من أجل تحقيق أكبر قدر من الفهم العميق لهم، و«الشجاعة الفكرية» لمواجهة الأفكار والمعتقدات التي لا يؤمنون بها بالضرورة والتي تتملكهم مشاعر سلبية تجاهها.
وأخيرا: المفكر النابغة
ويصل التقرير إلى محطته الأخيرة حيث المفكر الخارق، الذي يتحكم تمامًا في كيفية معالجة المعلومات واتخاذ القرارات؛ إذ يسعى هؤلاء الأشخاص باستمرار إلى تحسين مهارات تفكيرهم، ومن خلال التجربة «يَسْمُون بتفكيرهم بانتظام إلى مستوى الإدراك الواعي».
ويحقق المفكر النابغة رؤًى عظيمة في المستويات الذهنية العميقة، ويلتزم بشدة بالعدالة والتحكم في نزعته الأنانية. ويُظهر مثل هذا المفكر الرفيع المستوى أيضًا معرفة عملية فائقة ورؤية ثاقبة، ويُعيد دائمًا فحص افتراضاته للوقوف على نقاط الضعف والمنطق والتحيزات.
وبطبيعة الحال لا ينزعج المفكر النابغة من المواجهة الفكرية ويُمضي وقتًا طويلًا في تحليل ردود أفعاله.
وفي الختام ،ووفقًا لما كتبه الباحثون لتوضيح سبب أهمية تلك الدراسة، يقولون «لأن العقل البشري، في حال تُرِك وشأنه، فسوف يعمد إلى السهل المباشر والمريح، وما يخدم مصالحه الأنانية، وفي الوقت نفسه يقاوم مقاومة فطرية ما يصعب فهمه وما ينطوي على تعقيدات، وكذلك ما يتطلب الدخول في تفكير الآخرين ومَآزِقهم».
إذًا كيف تصبح مفكرًا نابغة؟ يعتقد علماء النفس أن معظم الطلاب لن يصلوا إلى هذا المستوى، ولكن الممارسة الطويلة لأفضل السمات الفكرية يمكن أن تساعدك في الوصول إلى تلك النقطة التي عندها «يبحث الأشخاص ذوو الحس السليم عن كبار المفكرين، لأنهم يدركون ويقدرون قدرة المفكرين النابغين على التفكير في القضايا المعقدة بحكمة وعلى بصيرة».
ويختم الكاتب بقوله: لا يمكن المبالغة في تقدير أهمية التفكير النقدي في حياتنا اليومية، خاصة في ظل هذه الأوقات المُربكة، التي تَعُج بالمعلومات السريعة والمضللة في كثير من الأحيان، ذلك أن القرارات التي نتخذها اليوم يمكن أن تكون حقًا مسألة حياة أو موت غدًا.
المصدر: How to think effectively: Six stages of critical thinking
المصدر : https://dinpresse.net/?p=16190