لماذا نكتب عن التصوف؟

دينبريس
آراء ومواقف
دينبريس15 نوفمبر 2024آخر تحديث : الجمعة 15 نوفمبر 2024 - 12:22 مساءً
لماذا نكتب عن التصوف؟

خالد محمد عبده ـ باحث مصري
انشغلتُ قبل فترة طويلة بحضور التصوّف والمعارف الصوفيّة في بلداننا العربيّة، ومسّ روحي شيءٌ منها، وتملّكني شغفٌ كبيرٌ، فمضيت أتابع ما يُكتبُ عن التصوّف وما أُلّف فيه، وما تجسّد واقعًا في حياة من حالفني الحظّ بالتعرّف عليهم، ثمّ انتقلتُ من المتابعة إلى المشاركة في هذا الحقل المعرفيّ، ومخاطبة من لا يعرف عن هذا العالم شيئًا، نظرًا لاهتمامٍ القرّاء العرب بالتصوّف اليوم، وعطشهم لكل ما يخاطب الإنسان برحمة ورأفة وتكريم.

ومهما قيل عن زيفِ أو حقيقةِ هذا العطش اليوم، أو أنَّ الاهتمام بالتصوّف سطحيٌّ وقشرةٌ تغلّف الخروج عن الدين أو تطوي تحتها قلقًا عقديًا، رأيت من الواجب أن تقدّم المعارف للقارئ لا ليهلك من هلك عن بينة، فالهمّ الأكبر هو الحياة في وقت لا يعرف الناس ولا يظهر في عالمهم إلّا الهلاك!

ومن هنا جاءت فكرة إنشاء موقع معرفيّ يُعنى بالتصوّف ودراسته، فأطلقت قبل عامٍ موقع طواسين، استكتبت فيه كثيرًا من المهتمين بدراسة التصوّف في عالمنا العربيّ وقدّم كثيرٌ من الباحثين والباحثات موادًّا مفيدة ما بين مقال وبحث وترجمات وتعريف بأعلام التصوّف وتجاربهم، ولا يزال الموقع يؤدّي رسالته.

بعض المواد التي نشرتها على الرغم من تبسيط كتّابها للأفكار كانت عصية على فهم القرّاء، فطلب إليّ من يراسلني من القرّاء أن نبسّط أكثر لأنّ أبجدية التصوّف الإسلاميّ ليست معلومة بالنسبة لكثير من المتابعين، وقد أدهشني حقًّا أن أجد رسالة بعد عامين من متابعة صديق لما أكتبه ويكتبه غيري، يسألني فيها عن معنى التصوّف والفرق بين الصوفية والمسلمين! وهو الذي يعرّف نفسه بأنه محبّ للتصوّف والصوفيّة!

تبدَّدت الدهشة حينما رأيت سيل الأسئلة بعد ذلك عبر صفحة الموقع على هذه الشاكلة، ورأيت أنّه من الواجب على الكتّاب أن يبسّطوا المعارف أكثر، فإذا كان بعض الأساتذة وأهل الاختصاص يكتبون للخاصّة، فلا بدّ أن يكون هناك من يكتب للعامّة ويصل إلى هذا الجمهور الذي يقع في أغلب الأحيان فريسة لخطاب نتاجُهُ العنفُ والإقصاءُ وتدميرُ الإنسان.

لماذا نكتب عن التصوّف اليوم؟
ما من لحظة تمرّ علينا إلّا ونشهد أحداثًا جسامًا في مجتمعنا العربيّ، هنا تفجير واغتيال وتعذيب، وهناك هدم وتدمير، لا يمرّ وقت قصيرٌ دون حدث لا يمكن لعاقل تغافلُه أو تجنّب الاهتمام به، ومهما ضرب الإنسان صفحًا عن الانشغال بما يحدث، تُلاحقه الحوادث أينما كان، وتشغلُه لأنّها تمسّ أمنه وحياته ومستقبل أبنائه.

أوَّلُ ما يقابلنا من تصاريح وبيانات، الشجب والتنديد، وإعلان البراءة من الانتماء إلى أفكارِ من يهدم الإنسان ويشوّه ما تبقى من آدميّته، وتكثر المناقشات حول ما إذا كان أرباب هذا الفكر ينهلون من تراث الإسلام ويعتمدون على أصوله (القرآن أو السّنة)، أو كانوا أصحاب فهم خاطئ وضمير ميّت وولاء لكلّ ما هو بعيد عن الإنسانيّة وقيمها.

ويتجدد النقاش، إذ نحن منتجون أكثر في (عالم الكلام) ومحطُّ أنظار الجميع نظرًا لما نُحدثه اليوم ونبرع فيه، ولا يبزّنا أحد فيما نقدّم.

هل نحتاج بالفعل إلى تجديد لخطابنا الدينيّ؟ وهل حينما نكتب في التصوّف ونختار جانبًا معينًا نتغافل وننصرف عما يدور حولنا ونسكّن الجراح والآلام للحظات، ونخدّر الناس بإبراز وجه جماليّ وإخفاء وجه بشعٍ، يلاحقنا رغمًا عنّا، ويعلن عن نفسه حتى وإن صمتنا أو أكثرنا من استخدام مصطلحات (فقه القلوب، والعشق، والجمال، واللطف، والخيريّة)؟

ما أراه أنّ فكرة تجديد الخطاب الدينيّ، التي لا تقل في أهميّتها عما نعيشه من أحداث أصبحت لُعبة في يد العجزة وأهل السلطة والإعلام والمنتسبين زورًا إلى الفكر والثقافة والعلم، فكلّ ترقيع أو تجديد لا يدرك فيه المشتغلُ به ما تأصَّلَ في الأذهان، ولا يلتفت إلى الواقع ويشارك فيه، لا يعوَّلُ عليه، وإن صمد للحظة تبدّد بعد لحظات.

فبعضُ الكُتّاب (يُكلَّف) بالتجديد وكأنّنا في سوق، هذا لا بدّ أن يبيع تمرًا وهذا لا بدّ أن يأتي بالعنب، وبالطبع يعقب (التكليفَ) بذلٌ وعطاءُ، غالبًا ما يكون إدانةً لفكرٍ ما واستخفافًا بأعلام معيّنين لا ينبغي الاستخفاف بهم، ونحن نعيش مع كثيرين يؤمنون ويعتقدون في أقوالهم، ولن يتزحزحوا عن إيمانهم قيد أنملة بشتم من يدينون لهم بالتبجيل والتعظيم.

وفضلاً عن ذلك، نجد بعض المشتغلين صورةً بالتجديد من أهل (الفكر) أو من (علماء الدين) غير مطالعين بشكل جيّد لتراث هؤلاء الأعلام، فما لديهم من معارف لا يؤهلهم لإبداء رأي، ناهيك عن نقد وبناء جديد.

ما نؤمن به منذ وقت بعيد أنَّ الانشغال بالآخرين انشغالٌ عن الذّات وغيابٌ يؤدي إلى زيادة الأمراض المجتمعيّة ويساعد على الموات. فما الفائدة المرتجاة من انشغال السلفيّ بالصوفيّ والصوفيّ بالسلفيّ؟ وما الفائدة من القتال حول جلوس الله على عرشه بهيئة معيّنة أو أنَّ يده تعبّر عن القدرة أو أنَّ ساقه ساق حقيقية؟ أو أن التوسّل جائزٌ أو مكروه أو أنّ الله معطٍ والنبيّ قاسم؟ أو أنّ الكرامات مستمرة أو أنّ الذكر الجماعيّ بدعة أو مباحٌ؟!

ما الفائدة في الانشغال بما إذا كان فكر العنف يعود إلى ابن حنبل أو ابن القيّم أو ابن تيمية أو ابن عبد الوهاب؟ ويتقاتل هؤلاء وأولئك في استخراج نصوص تدين أو تؤيّد من تراث هذا العالم أو ذاك؟! هل هذا يساهم في تغيير الأوضاع؟ هل أنتج هؤلاء العرب الكرام ما غيّر واقعَهم؟ أم ظلّوا في دائرة الكلام يتصارعون، والعالم يتشكّل كما هو مكتوب لهم أو عليهم؟

حينما يشتغل الأعجميّ بتراث الإسلام، يُخرج لنا من حدائقه ما نعجز نحن المؤمنون عن استخراجه، فـابن تيمية الذي يُسب ويشتم من الصّوفية ومن أهل الإعلام اليوم، صورته في دراسات الأعاجم غيرُ هذه الصورة التي نرى، ومن يطالع من كتابات المنتسبين إلى الإسلام أو العروبة من الدارسين في الخارج سيرى مصداق ذلك. ونذكر على سبيل المثال هنا ما كتبه جورج مقدسيّ وما كتبه فضل الرحمان. على أنّ هذه الصورة تختلف عن تناول السلفيّ المعاصر لابن تيمية، كما يختلف تقديم أبي يعرب المروزقيّ له عن تقديم مشايخ السلفيّة اليوم.

إنّ عنوانا كـتصوّف الحنابلة، يبدو مثيرًا للاستغراب والدهشة عند غير المتخصصين في هذا اللون من الدراسات، ويبدو مضحكًا عند من يتابع الإعلام ويعتنق ما يُبثّ إليه عبره من أفكار، لكنّه عنوان عن دراسات أُنجزت من قِبل المدققين والمحققين في تراثنا الإسلاميّ، سواء من انتسبوا إليه أو رأوا فيه حقلاً بكرًا لم يدرس بعد.

عرف الحنابلة التصوّف وكان منهم الصوفيّة، بل وآزروا شخصيات صوفيّة قلقة، ودعموا خطابهم، ووقفوا ضد الحاكم معهم، ومن يتابع مسيرة الحلاّج وإدانته وصلبه كما حقّقها ماسنيون سيعرف ذلك.

كتب الحنابلة في التّصوف رسائل وكتبًا، ورغم تحقيقها وطبعها في الدوريّات والمجلات لا يطالعها العرب، ويكتفي المتبنّي للفكر الصوفيّ أو المتابع للتصوّف الطّرقيّ بالتقاط أخبار من كتب التراجم والتواريخ عن فلان من الحنابلة الذي تبرّك أو توسّل أو أثبت الكرامات للأولياء، أو قال بيتًا من الشعر توافق مع أحد الصوفيّة من الأشاعرة، أو أُثر عنه التردّد على مجالس فلان من مشايخ التصوّف والاعتراف بفضله. أمّا المطالعة الحقيقيّة والتحقق من تراثنا المطوي والمخفي بأيدينا فهو عزيزٌ ونادرٌ.

للشيعة* جهد مشكورٌ في تحقيق جملة من التراث الصوفيّ، إلّا أنّ الشيعة عندنا مهما برعوا في علمٍ أو قدّموا من معارف فهم محلّ للشكّ والإدانة، ولا ينظر إليهم من عموم المسلمين إلّا نظرةً دونية لا تليق بمسلم يصدّر رسالته بـ “أوتيت مكارم الأخلاق”. أو “ليس المؤمن سبّابًا أو لعّانا”. فضلا عن صدور هذه النظرة من إنسان هذا العصر. فهل طالع المشتغلون بالتصوّف إنتاج الشيعة في تحقيق هذا التراث ودراسته ونقل ما كُتب عنه في اللغات الأعجميّة؟ وهل يستفيد الصوفيّ الطرقيّ من هذا الإنتاج، أم يظل متابعًا لمسائل التصوّف التي ورثها مع طريقته ويوَرِّثُها مشايخُه له حتى يومنا هذا؟

عندما نكتب عن التصوّف اليوم ونخصّص له ركنًا -يستحق أفضل منه- لا ننشغل بالتمييز بين السلفيّة والصوفيّة والشيعة وغيرهم من فرق الإسلام. ولكننا ننشغل بالمعرفة ونحاول الابتعاد عن التحيّز والعصبية والعنصرية الممقوتة التي قتلتنا وأنهكت صغارنا وأرهقت الكبار، ولوّثت الأجواء من حولنا. إنّ انشغالنا بهذا اللون المعرفيّ يأتي من خلال متابعتنا لما يُكتب عنه أو يُقدّم من مواد مُعتمدًا على بعض أفكاره، أو مستغلّا لمفاهيمه في الأحداث الجارية!

نكتب عن التصوّف لأنّنا لا نرى في التصوّف خنوعًا أو تبعية لحاكم أو تأمينًا على أفعال أهل السلطة أو حضًّا لهم على الاستبداد وسفك دماء البشر ظالمين أو مظلومين!

نكتب عن التصوّف لأنّه ليس انمحاء للأنا وإفناء لها على أعتاب شيخ أو قدّيس تظهر من عباءته روائح عبادة الدنيا بكلّ ما فيها من متعٍ مادّيّة ومعنويّة، ولا يقدّم لأتباعه إلّا حديث الجواز والكراهة واشتقاق الكلمة من مصدر ثابت لا حركة له ولا فعل!

نكتب عن التصوّف لأنّه لا يتلخّص في مسبحة تدور حول العنق أو تزيّن اليد أو تعلّق على الحائط! إنّ التفاتنا إلى الحصى والحبّات حجب عنا الالتفات إلى ما في الكون من آيات، وأعظم آية يغيب عنها المتزيّن بالصورة هي ذاتُه وذواتُ الآخرين، التي أنهكتها التبعية ودمّرها التقليد دون إعلان ولو لمرّة عما تريده هي.

نكتب عن التصوّف لأنّه مبنيّ على السفر من الله في الله إلى الله، ويستمد رؤاه الجماليّة منه، ويستمدّ سعته منه، واحتماله للخلائق كافة على اختلافها، ولأنّ التصوّف لا يغلق لأحد بابًا -مهما كان ما يحمله ويعتقده من آراء- ففي التصوّف “إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلاقِيهِ”[الانشقاق:6] وفيه من سعة “وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا” [العنكبوت:69] و”وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا” [السجدة:13].

نكتب عن التصوّف ليس من باب عبادة الأجداد كما يُقال، أو إعادة تمجيد تصوّف التاريخ وإحياء مشاكله بحرفيّة مفرطة، فنمجّد الأحياء وندين المصلوبين وننسج على منوال حِكم ابن عطاء ونتصارع من أجل شرح الشروح، ونقد الشطّاحين القدماء. إننا لم نعد نشهد تصوّفًا كما شهد السابقون –إلّا فيما ندر- حتى نُدين الشطح. فالأولى بنا نقد ما نظنّه تصوّفًا وتحرير معنى التصوّف في عقولنا وقلوبنا، حتّى لا نعاني من أفعال المنتسبين إلى التصوّف.

نكتب عن التصوّف لأنّه المساحة الباقية التي تفتح لنا بابًا على ما لا ينتهي ولا يميت.

نكتبُ عن التصوّف لأنّ التصوّف -كما قال الهجويريّ قبل قرون- هو الحرّية.
ـــــــــــــــــ
*هامش:
غير خافٍ على كاتب هذه السطور استغلال بعض المبشّرين والدعاة من الشيعة للتراث الصوفيّ ومحاولة نشر مذهبهم من خلال خلط المفاهيم الصوفيّة بالأفكار المذهبيّة، وبث ذلك من خلال تقديمهم لبرامج مرئيّة أو نشرهم لمجلات يُستكتب فيها الكتّاب العرب الشباب. وعندما نشير إلى جهود الكتّاب الشيعة في نشر التراث الصوفيّ لا نقصد بطبيعة الحال هؤلاء المبشّرين من الشيعة أو المتشيّعين الجدد الذي لم يدركوا بعد بناء العالم الصوفيّ كما لم يستفيدوا من أفكاره.
رابط صفحة الكاتب على فيسبوك
https://www.facebook.com/alhallaj

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.