مصطفى يعقوب
بهذه المقالة الأولية، سوف أشرح نقد ابن تيمية للمنطق الأرسطي الصوري أو الشكلاني، وبيان كيف كثيرين أساؤوا فهم هذا النقد واعتبروا إنه ضد المنطق نفسه، وبالتالي ضد العقل، وهذا كلام غير سوي قط.
ابن تيمية أبداً ما كان ضد المنطق كأداة عقلية، لكنه كان ضد تقديسه كوسيلة لإنتاج المعرفة، خاصة لما يتم تطبيقه على مفاهيم متحركة ومعقدة مثل الإنسان والدين واللغة والمجتمع والشريعة والفقه.
بدايةً
ابن تيمية ما كان ضد “العقل” ولا ضد “التفكير المنطقي” وما قال إن المنطق الصوري غلط لأنه مجرد أداة شكلية، بل كان نقده أعمق.
وهذا غير سوي أصلا لأنه ضد العقل، بل إن من أهم كتبه عمل يضم 11 مجلدا، أي كتاب “درء تعارض العقل والنقل أو موافقة صحيح المنقول مع صريح المعقول”.
يقول ابن تيمية أن المنطق الصوري لا ينتج معرفة جديدة، ولا يستطيع أن يفهم الواقع أو يعرف الإنسان، ولا يفسر الدين أو يقدم فتوى، ولا يفهم الله أو صفاته او اي شيء بالكون. المنطق الصوري فقط يعيد ترتيب المعطيات، وهي المعطيات التي أنت القارئ تعرفها سلفاً ضمن قالب جديد يبدو عقلاني ولكنه مفرغ من التجربة.
يعني المنطق الصوري ينفع عندما نتعامل مع رموز رياضية ثابتة ومعرّفة بدقة (مثل الرياضيات والحساب والجبر) أو بناء الخوارزميات.
لكن لما تطبقه على مفاهيم حية ومتحركة ومعقدة مثل: الإنسان، الإيمان، النص، العدل، المجتمع…إلخ، نتحول كمن يحاول يحط الواقع داخل قالب مصنوع مسبقاً و بالتالي، نجمده ونمنعه من أن يتحرك.
لذلك ابن تيمية (بعكس ما يشاع) كان ثورة لكسر القالب والجمود الذي أصاب الحضارة الإسلامية بسبب الفلسفة الإسلامية وعلم الكلام الذي جمد كل شيء حرفياً بما في ذلك العقيدة والشريعة بسبب تقديس المنطق الأرسطي الصوري وحشره بكل شيء حتى بالفقه، وجعله أساس للعلوم الإسلامية الشرعية.
وهذا بالضبط مشكلة الذكاء الاصطناعي التوليدي اليوم (مثل GPT): لما تسأله سؤالا يرد على منشور أو فكرة، يعطي جواب بجمل شكلها منطقي ولغتها سليمة وكلماتها متناسقة.
لكن عندما ندقق نجد الجواب تافه أو سطحي أو غير مرتبط أصلاً بالسؤال أو خاطئ تماماً، لأنه ببساطة لا يوجد لديه إدراك حقيقي أو تجربة أو عقل..فقط عنده نموذج إحصائي يتعامل مع الكلمات كرموز..
يعني القول نفيه الذي قاله ابن تيمية حرفياً في القرن السابع الهجري: “الحد والقياس لا ينتج معرفة، المعاني لا تنحصر بكلمات، والمعرفة لا تتولد من تركيب منطقي بل من اتصال بالواقع ومن إدراك عياني حيّ”.
الذكاء الاصطناعي مهما كان “ذكيا” هو فقط شكل..صورة..بلا معنى: منطق شكلي صوري بدون وعي أو تجربة أو فهم للسياق.
والمنطق الأرسطي بنظر ابن تيمية هو بالضبط نفس النوع من “الذكاء الشكلي الزائف”.
منظومة مغلقة من التعاريف والتقسيمات والعلاقات، لكن لا تضيف أي معرفة حقيقية، ولا يمكن تفهم الحياة ولا الشريعة ولا الطبيعة ولا أي شيء، بدون معطيات تجريبية.
الذي كشفه ابن تيمية من 700 سنة عن المنطق الصوري نعاينه اليوم أمام عيوننا في الذكاء الاصطناعي: جمل تبدو ذكية…لكنها ميتة من الداخل، لأن المعرفة لا تولد من شكل الجملة…وانما من الفهم والحس والسياق التاريخي والتجربة الحية والمتجددة.
وهذا بالضبط جوهر الفلسفة التيمية في نقده للمنطق وفي كل شيء في الثقافة الإسلامية، بما يؤكد أن تفكيره كان عميقا وسابقا لعصره لكي يفند المنطق الأرسطي بهذا العمق بينما عجزت أكبر العقول قبله من إدراك هذه النقطة؟
لذلك هو ثورة حقيقية ممكن نعتمد عليها اليوم من أجل تجديد الخطاب الديني، لكن بشرط فهم المشروع التيمي خصوصا مجموعة الفتاوى، أي فهم المنهجية والنسقية الفكرية والمنطقية التي اتبعها ابن تيمية بمشرعه هذا، بعيدا عن سوء الفهم السطحي من الذين ينسبون أنفسهم لابن تيمية من المتطرفين والمتحجرين زورا وبهتاناً.
وهذا ما أطمح له وأعمل عليه منذ فترة.