9 يونيو 2025 / 10:50

قراءة نقدية في أعمال المفكر التونسي أبو يعرب المرزوقي

عبد الإله زيات
يحاول أبو يعرب المرزوقي في مشروعه الفلسفي أن يعيد بناء مفهوم “العقل العربي” من خلال ما يسميه بالإصلاح الجذري، وهو إصلاح لا يمر عبر استيراد المفاهيم من الغرب، وإنما بمحاولة تقويم الداخل من الداخل، أي تفكيك التراث العربي الإسلامي نفسه وإعادة قراءته في ضوء فلسفي ولغوي جديد. وفي هذا السبيل، يستند المرزوقي إلى ثلاث ركائز محورية: الميتافيزيقا اليونانية، والاسمية الحنبلية مع ابن تيمية، والتاريخية العقلانية مع ابن خلدون. لكن هل يمكن لهذا المشروع، كما هو مطروح، أن يفي بما يعد به؟ وهل هو إصلاح حقيقي للعقل أم إعادة تصدير لنفس الأنماط التفسيرية في ثوب “بنيوي” جديد؟
المرزوقي يطرح في كتابه “إصلاح العقل العربي” أن الأزمة ليست في الدين ولا في اللغة ولا في التراث ذاته، بل في طريقة تمثلنا لهذه المكونات، وهي تمثلات انحرفت، حسب رأيه، بفعل “الواقعية الأرسطية” التي جعلت العقل تابعا للجوهر المزعوم، بدل أن يكون موجها للوجود. لهذا، كان يرى في اسمية ابن تيمية، بما تحمله من قطع مع “الماهية” وتأكيد على “اللغة الحية”، مخرجًا من هذا الإشكال، بل شرطا ضروريا لتجاوز الميتافيزيقا القديمة. غير أن هذا التبجيل للقطيعة “الاسمية” يفتح الباب على فراغ لا يسده سوى العودة إلى البراغماتية الدينية، فيفقد العقل حريته في الاستقلال، وينقلب “الإصلاح” إلى مراوغة بين الموروث والبرهان، دون قدرة على إنتاج نظرية معرفية جديدة.
ابن خلدون في تصوره هو لحظة يقظة للتاريخانية، أي الاعتراف بأن الفكر محكوم بسياقه الاجتماعي والعمراني، وأنه لا عقل خارج الزمن. لكن هذه الاستعارة تصبح إشكالية حين تتحول من “نقد للعقل” إلى “نقد للتاريخ”، فيغدو التاريخ حجة تبريرية لما لا يقدر العقل على فهمه، لا دليلا على فعله الخلاق. وهنا بالذات يفلت من المرزوقي المفهوم الهيغلي للروح الموضوعية، لأن الإصلاح الذي لا يمر بالتحول الجوهري في العلاقة بين العقل والواقع هو مجرد تجميل لبنية مأزومة، لا تحوي إمكانيات تجاوز ذاتها.
إذا نظرنا مثلا إلى مفهوم “الكلّي” عند المرزوقي، نجده محاولة لتوحيد النظرية والخطاب، وللخروج من تقابل “العقلانية الغربية” و”البيانية الإسلامية”. لكنه يفترض أن هناك وحدة عقلية سابقة على تعدد الرؤى والمذاهب، وهذه الوحدة ذات طبيعة لاهوتية أكثر منها إبستمولوجية، أشبه بـ”اللوغوس” في صيغته القديمة، لا بوعي تاريخي معقد يشمل التناقض والتأويل والاختلاف. وهنا تظهر المفارقة: إصلاح العقل يصبح نداءً لوحدة عقلية لا نملكها، ولا سبيل لإقامتها في سياق معرفي حديث، يشهد على التعدد والتشظي وتضخم أدوات التفكير.
وسأدرج نفس الملاحظات بخصوص الجابري وبن رشد مع العامري، فإذا قارنا هذا بما قاله العامري في “الإعلام بمناقب الإسلام”، وجدنا أن العامري أدرك تهافت “المطابقة الكلية” بين العقل والدين، ففضّل الحديث عن مراتب الإدراك وتفاوت الطبائع، رابطا بين الحكمة والإلهام دون أن يُخضع أحدهما للآخر. لم يسعَ العامري إلى وحدة مصطنعة، بل إلى توازن معرفي نسبي. بينما يسعى المرزوقي إلى وحدة ميتافيزيقية جديدة، لكنها مقنعة بلغة فلسفية عربية معاصرة.
وفي ضوء هذا كله، يمكننا القول إن مشروع المرزوقي، رغم عمقه وسعة اطلاعه، يقع في مفارقة فلسفية. إنه يدعو إلى إصلاح العقل، لكن أدواته لا تخرج عن نطاق ما يدعوه هو نفسه بالأزمة. فابن تيمية لا يحرّر العقل من الموروث، بل يؤسسه على خطاب يرفض الفلسفة من جذورها. وابن خلدون لا يفتح التاريخ على النقد، بل يحصره في “العمران” كضرورة. أما النقد الحقيقي، كما نعرفه من تجارب فلسفية كهيغل أو نيتشه أو غادامير، فهو تأسيس لمنطق جديد، لا يمكن إنتاجه من إعادة تأهيل المعطى، بل من اختراقه.
إصلاح العقل العربي إذا، كما يبدو من قراءة مشروع المرزوقي، ليس سؤالا معرفيا فحسب، بل هو أيضا سؤال في شروط إمكان “العقل” ذاته. هل نريد عقلا يستأنف الموروث برؤية حداثية، أم عقلا يقطع مع التراكم ويبدأ من التأزم؟ هل نريد عقلا يعيد ترتيب العلاقات بين الدين والعلم، أم عقلا يتجاوز هذا الثنائي أصلا؟ هذه هي الأسئلة التي ينبغي أن يطرحها الفيلسوف العربي اليوم، لا أن يعود إلى ابن تيمية أو ابن خلدون ليعيد تركيب المعمار نفسه.
العقل لا يصلح من الداخل، بل من الحد الذي به يدرك نفسه في الخارج. إصلاح العقل لا يكون بتقديس لحظة فكرية مضت، بل بجرأة على الخروج منها. فكما قال نيتشه: إن كل تفلسف هو في جوهره نقد للثقافة، لا تبرير لها.