محمد ابن ادريس العلمي
تحاول هذه القراءة المقتضبة، عرض بعض الملاحظات المكثفة عن كتاب “في هدي القرآن في السياسة والحكم”، ورغم عدم التزامي بالمنهج الذي كنت سأتتبعه في قراءتي لهذا الكتاب والمعتمد على تتبع المقدمات، وتمحيص الاقتباسات، وضبط الاستدلالات، فالأمر يحتاج إلى جهد ووُقت لا يتسع له المقام. كانت إذن هذه الإشارات متداخلة، ومتشاكسة، ومزدحمة بعضها ببعض.
1- في منهج الكتاب
منذ البداية وأنا أشعر بحروف الكتاب مضطربة بين يدي، إذ إن أول خلل حصل وأخل بشرط بناء الكتاب؛ القول الفصل في منهجه، حيث إن الصفحة العشرين منه في الفقرة الثانية، تظهر بشكل واضح ضبابية المنهج الذي سيعتمد عليه، إذ إن الكاتب لمح في بداية الكتاب وفي متنه أن منهجه يحمل من الجدة والإبداع، لكنه لم يعلن عنه، ولم يستدل عليه، ولم يحكم النظر فيه، وهو أول شرط قبل اقتحام أي موضوع، فالمنهج لا يكون كذلك إلا إذا استوفى شرطين؛ الكشف والإيضاح كما يقرر حمو النقاري في كتابه روح المنهج.
إن غرض المؤلف من الكتاب قلبُ “الفقه التقليدي” في مجال السياسة والحكم، وبناء قواعد منهجية جديدة، تتجاوز الفقه التقليدي السائد اليوم؛ أي أن المؤلف نوى وينوي مستقبلا مقاربة فقه المعاملات بتجاوز كل الأحكام “التاريخية”، وملاءمة التشريع الإسلامي مع الحداثة. وأود أن أقول؛ إن الكاتب تحايل في مناقشته لمجال المعاملات، حيث يقول: “إن أحكاما من التي تناولناها بشكل موسع في هذا العمل، وتحديدا أحكام العقوبات والحدود، لا تدخل من حيث التعريف في مجال المعاملات السياسية … وهي خارجة عن شرط كتابنا”؛ بمعنى أن الكاتب اتخذ مناقشته هذه التي أطلق على أحكامها خصوصا منها “القطعية الثبوت والدلالة” بأنها أحكام متجاوزة وتاريخية، وبالتالي فقد انقرضت. وعليه؛ فإن نقاشه سيمتد إلى المعاملات الأخرى الخارجة عن نطاق القرآن السياسي، لكنه متوجس من عرضها إلى حين.
هذا التشتت المنهجي يحيلنا على القول المتعلق ب”الفقه التقليدي”، والذي ذكر عنه المؤلف في الكتاب أن أصول الفقه تحتاج إلى إعادة النظر فيها، وتجديدها، بل وإلغاءها، والتأسيس لأصول جديدة سماها: حاكمية القيم. وأقول: إن لفظ التجديد يستلزم أن هناك شيئا مجددا له ماهية، وكان على صورة معينة، فنريد أن نعيده على ما كان عليه؛ أي رَدُّ الجدة والقوة إلى علم الأصول كما يقرر أبي الطيب مولود السريري. فالتجديد يقتضي تجديد ظرفه ومحله، ويقتضي نظاما عقليا ومنهجا صارما، يسير عليه الباني للأحكام، وإلا ستحدث الفوضى. وذلك في نظري ما يبحث عنه الكاتب حين يؤسس لحاكمية قيمية دون استدلال منهجي. فكما حاول الأصوليون بعد الفوضى التي تلت موت النبي، وانتهاء الوحي، وكثرة فتاوى الصحابة والتابعين، ودخول أجناس مختلفة في الدين، فكذلك يريد المؤلف أن يخرج بنا من نظام عقلي استدلالي صارم يحتاج إلى التجديد، إلى فوضى عارمة بلا قواعد منطقية، أو جدلية مبنية جذورها على الإيراد والإلزام …
أول أن أذكر بأن أصول الفقه لا علاقة لها بالفقه، وبأحوال الناس، ويحق للقارئ أن يستغرب كيف ذكر الكاتب أنه سيتقمص دور الأصولي وهو لا يحمل نَفَسَه المتمثل في التأصيل الاستدلالي المنطقي، ودلائل هذا في الكتاب كثيرة.
فحين يتجاوز المؤلف الأحكام القطعية، ويصفها بالانقراض، سيكون الكاتب قد ألغى مبحث الدلالة، ولم يحترم الدليل، وقوانين الاستدلال … ونقف بشكل سريع على مناقشته لحكم قطع يد السارق، حيث ذكر بأنه حكم تاريخي، مورس قبل الإسلام … لكن؛ إن الذي يختبئ وراء اجتهاد سيدنا عمر رضي الله عنه لم يعرف بابا واسعا في الأصول يسمى بتحقيق المناط، حيث إنه أوقف الحكم لعدم تحقق مناطه كما فعل مع أحكام أخرى، وهو لم يجتهد في أصل الحكم بإزالته أو تعطيله إلى الأبد، إنما ليوافق مقصد الشرع، و”قيمه” .. ويمكننا أيضا أن نقارب الحكم من باب تعاضد أو تعارض النص والمصلحة، والتي استحضر فيها الكاتب أقوالا شاذة، وهو يقارب النص/المصلحة كقول الطوفي وغيره … وقد نبتعد كثيرا عن الاستدلال الشرعي ونقول؛ هل القطع هو البتر؟
إن مقاربة الأحكام الخارجة عن نطاق القرآن السياسي، والتي على ظهرها استنبط القيم التي دعا إلى جعلها أصولا، وقواعد تحتاج إلى حلقات طويلة، لا يستع المجال في هذه القراءة لها، لكنني سأكتفي في النقطة الموالية بمراجعة لغة الكتاب، ثم عرض بعض الملاحظات العامة المندرجة فيه.
2- في لغة الكتاب
تناول المؤلف بالتضمين كثيرا من المصطلحات والمفاهيم الغريبة؛ أذكر منها على سبيل المثال: “موضوعة”، “عمومات”، “كثر” … وسأكتفي بعرض بعض الملاحظات على مصطلح “موضوعة”، حيث إنني سألت بعض اللغويين المتخصصين، فتبين أن الكلمة هجينة، والأصل فيها أن يقال موضوع، فنقول مثلا: “هذا الموضوع في المتناول”.
والموضوعة صفة لموصوف مجهول، ولا تستعمل اليوم صفة، بل يسمى بها مصطلحا أجنبيا “تيمة”، فزيدت هاء التأنيث تمييزا لها عن الموضوع، وهذا لباس، وهو اشتقاق غير محمود.
استعمال كلمة “موضوعة” من الاشتقاق المهجن بالإدخال، ويلجأ إلى هذا التهجين اليوم من لا مناعة لغوية له، لكن؛ بما أن الإدخال (التعريب) متاح في اللغة مع مراعاة شرطي؛ الوزن العربي الفصيح، والحاجة القصوى إليه، فإن حال “موضوعة” قد خرق الشرط الأول، فالاشتقاق المعتمد على “وضع” وهو جذر عربي أصيل أفضى إلى تأنيث اسم المفعول الذي هو مذكر في الأصل، وهذا لا داعي له في اللسان العربي.
ثم إن لفظة “موضوعة” قد تلتبس مع معانيها لدى القارئ العادي، فيحصل له تشويش يكون في غنى عنه، مع توفر مقابل واضح وصريح، أي؛ “موضوع”.
3- ملاحظات عامة
أ- لو اكتفى الكتاب بالفصل الخامس لاستغنى، لأنه لبه وجوهره، وما قام به واستنبطه المؤلف من قيم يحسب له. لكنني أتساءل؛ ما دامت القيم سابقة على الحكم، فهي قائمة به أو بدونه، وبالتالي؛ بما أن الشارع الحكيم العدل، هو الذي ميز بين الأحكام، وقننها، وضبطها. فإن فصل الحكم عن قيمته وغايته أمر مريب، ما دمنا نعلم أن الحدود ليس هدفها الردع، وليست مجَزأة.
ب- إذا كان الكاتب فصل بين الحكم وقيمته، وجعل القيم متعالية على الأحكام “التاريخية”، فما هي معايير هذا الفصل؟ وهل انقراض الأحكام كما جاء في عنوان أحد المطالب مقابلٌ للحذف النهائي للحكم؟ أو إيقافٌ للعمل به لعدم تحقق المناط؟
ت- أتساءل أيضا عن مدى مناقشة الكتاب للأحكام في عمقها وسياقها؛ كدرجة الحكم، وقوة الإلزام، وتحقق الشرط …
ث- توصلت بعد قراءتي للكتاب، أن منهج القيم منهج تكميلي للأصول، وأن اعتراف الكاتب بمزاحمتها لأصول الفقه، ردٌّ عليه من جهة قلب هذه الأصول “التقليدية” …
ج- تقمص الكاتب دور المؤرخ، وأنا أتساءل؛ وهو مجرد تساؤل، لأنني بحثت في هذا النقطة، ولم أجد إجابة شافية .. كيف يمكن للمؤرخ أن يعتمد في متنه، وأثناء استدلاله التاريخي على؛ (أحسب-أخذت في الحسبان-نحسب-نظن-لعل …) في غياب أي وثيقة تاريخية تثبت قوله، وتؤكد دعواه.
ح- إن الحديث الذي استدل به الكاتب على المساواة، عندما لطمت ابنة النضر جارية؛ أقول: إن الحديث الذي أورده كان اللفظ فيه لمسلم، وليس للبخاري، حيث إن هذا الأخير ذكر بأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بالقصاص. ثم إن الحديث عند مسلم مرفوع، وفي شرح فتح الباري على صحيح البخاري إشارة إلى أن الجارية يقصد بها المرأة الشابة لا الأمة الرقيقة، ويمكن العودة للتفاصيل في كتاب الديات الجزء 16 من فتح الباري، ص: 68 وما بعدها.
خ- ذكر الكاتب بأن المنهج المقاصدي الذي اعتمده عدد من الفقهاء المعاصرين لتجديد النظر في العلاقة بين النص والمصلحة تأثر بشكل واضح بمناخ الصراع السياسي والإيديولوجي، وأعتقد بأن المناقشة العلمية يجب أن ترتفع عن هذا المستوى، وإلا فإن المؤلف نفسه لم يسلم من هذا الادعاء، فهو ضحية لصراع إيديولوجي حين اشتبك نظريا و”علميا” مع أنصار القطيعة، وأنصار الحاكمية.
الكتاب في عمومه مفيد، ومستفز. يشدك إلى قراءته، ومشاكسته، ونحتاج اليوم إلى مثل هذه الكتابات كثيرا.
إن الملاحظات التي قدمتها قاصرة عن المراد، فهي تحتاج أيضا إلى تعميق البحث فيها. لكن تبقى إشارات تساهم في حركية النقاش، تقييما وتقويما.
عن اسلام مغربي
المصدر : https://dinpresse.net/?p=5975