عبد المنعم فقيه بن شعيب ـ باحث في الدراسات الاسلامية
يعدّ كل من الدكتورين طه عبدالرحمان ومحمد عابد الجابري علَمَيْن من أعلام مغربنا الأقصى الذَيْن ذاع صيتهما على أوسع نطاق داخلي وخارجي في مجال الفكر والفلسفة المعاصرين، كما أنهما موضوعا مشاريع فكرية مهمّة شملت مجموعة من المجالات، كالفكر والأخلاق والسياسة والفلسفة وعلم الاجتماع، و قد عرف عن هذه المجالات جملة من التعقيدات والتشعُّبات تجعل القارئ ينأى بعقله عن الخوض في مصطلحاتها و صراعاتها ومعاركها، مع ما يكتنف هذه الأبحاث من الأساليب الكتابية المُعقّدة التي يقتضيها هذا المجال التداولي، فقد جُعِل القُرّاء حُيالها في ذهول معرفي لا يلتفتون إليها كثيراً إلا لِماما، وقلّ من يقرأونها تدبُّراً وإلماماً واستفهاما، وهو ما جعل معظم المنفتحين على فكرَي الرجلين يفهمهما فهما قاصرا يميل في مُعظمه إلى العاطفة والتقليد أكثر من ميله إلى الحق والتأييد، فيظلم الرَّجُلين من حيث أراد أن ينفع برأيه ويُفيد.
تجنُّباً لكلّ ذلك، جاء هذا الكتاب المهم، الذي أعتبره مدخلاً مهما للانفتاح على أعمال الفيلسوفين المغربيين.. ، فالأعمال الطهائية والجابرية متصارعة، ومتقاربة في أحايين أخرى تحتاج من يجلي مفاهيمها باوضح بيان. فعلى الرغم من اقتصار الدكتور حمزة النهيري أكاديميا على موضوع مخصص واحد، وهو الممثل في “سؤال الدين والأخلاق في الغرب الإسلامي بين مشروعي طه والجابري ” الذي بثّ من خلاله الرؤى المختلفة والمتضاربة حول حقيقة هذين المفهومين من منظور الرَّجُلين، فقد استطاع الكاتب لفت انتباهنا إلى أهمية النظر في مرجعية كُلٍّ منهما ومصطلحاتهما مع بيان الأسس الفكرية والدينية للباحثين، الشيء الذي يجعل القارئ يلقي نظرات على الفكر المغربي في ثوبي الفكر الطاهائي والجابري، ومن ثم فقد استطاع الكاتب المقتدر الدكتور حمزة النهيري أن يعين الباحثين على إعطاء تصور عملي حول المدرستين المغاربيتين.
ما يمكن ملاحظته أنه على الرّغم من انتصار الكاتب لطه عبد الرحمن ودفاعه عنه في شتى مواقفه وهو انتصار نابع عن استدلال وبرهان، إلا أن ذلك لم يمنع الدكتور حمزة النُّهيري مؤلف الكتاب من رد بعض ما ذهب إليه طه عبد الرحمن من مقولات، كقوله إن علم المقاصد هو علم الأخلاق حيث وضح الدكتور مغالطة طه عبد الرحمن في هذا الأمر مبينا الفرق بين العلمين وأن علم التصوف هو الأشبه بعلم الأخلاق لا علم المقاصد.
وقد تحلى الدكتور حمزة مبدأ الحياد في مقاربته لفكر الفيلسوفين وهو القارئ النهم الذي يُحكّم عقله ورأيه الخاص في كل شيء يُقدّم إليه مع تمكن معروف عنه في العلوم الشرعية، غير مائلٍ إلى رأي، ولا مُنتصرٍ إلى فئة. وتجدر الإشارة هنا إلى ما لفت الانتباه إليه في كتابه الشيق، وهي قضية مهمة تتعلق بالمد العلماني ومحاولته المضنيةفي إقصاء طه عبدالرحمن من خارطة الفكر الفلسفي المغربي والعالمي ونزعه عباءة الفيلسوف عنه.
ومن إنصاف الدكتور حمزة رد التهمة الموجهة للدكتور عابد الجابري من طرف بعض الباحثين الإسلامين كونه ينحى منحى علمانيا كليًّا في الدعوة إلى القطيعة مع التراث، واعتبارهم القرآن والسنة ضمن مشمولات نقد التراث.
فالقطيعة التي دعى إليها الجابري قطيعة جزئية.
والحقيقة التي أشار إليها الباحث في تفاصيل كتابه هو أن علمانَية الجابري علمانية جزئية كعلمانية المفكر الكبير الدكتور عبد الوهاب المسيري وقطيعته الجزئية للتراث لا تشمل النصوص المقدسة بل الفهم التاريخي للفقهاء والكيفية التي تم التعامل معها من قبلهم ليس غير.
فالتراث في نظر الجابري نملكه ولا يملكنا.
وعلى النقيض من ذلك يرى الدكتو حمزة النهيري أن طه عبد الرحمان يدعو إلى التكاملية التامة في قراءة التراث، ويُعتبر كتابه “تجديد المنهج في تقويم التراث” من أهم الكتب التي نقدت الجابري في هذا الباب، مايمكن قوله عن كتاب “سؤال الدين” أنه كتاب يعد مدخلا مهما في التعريف بالفيلسوفين المغربيين ويقدم قراءة نقدية شمولية لمشروعيهما النهضوي، و توضيح ما كان مبهما من فكرهما، وقد كان الدكتور النهيري معنيا بإبراز الثقافة المغربية وبيان إشعاعها الثقافي المعاصر وتأثيرها على الثقافة المشرقية، وهو جزء من مشروعه الفكري الذي اشتغل عليه في مساره الاكاديمي.
وقد صدرت دراسته عن العقائدية في الحوار الإسلامي العلماني بين مشروعي طه عبد الرحمن وعبد الله العروي وأثرها على الفكر العربي المعاصر عن دار الاصول، وهي دراسة مكملة للدراسة السابقة وجزء من مشروعه الفكري.
لست هنا أعرض أهم ما خلُص إليه البحث أو أقدّم خلاصة شاملة كاملة لما جاء في كتابه، لأن الكتاب مليئ بالأفكار والسجالات الفكرية الممتعة، ولكن حاولت تقديم نبذة تعريفية مختصرة له وتنبيه القراء إليه ولما انطوى عليه هذا الكتاب من تبسيط وتدقيق مع تسليط الضوء على معالم مشروعين فكريين وعلَمَين مغربيين لا يصح التعرف إليهما إلا من خلال أمثال هذه الدراسة و ما قُدِّم حولهما من بحوث ودراسات، درءاً لفتن الأحكام المُسبقة التي في الغالب ما تذهب بصاحبها مذهب الانتصارإلى رأي شخص مُعيّن من غير سلطان بين أو برهان. وهناك تغرق الحقائق في بحر العواطف، كما قال ذلك الدكتور النهيري في مقدمة كتابه البديعة التي اتسمت بالعمق والأكاديمية في الطرح.
هذه كانت قراءتي لكتاب ماتِع نافع، وهو ” سؤال الدين والأخلاق ” للدكتور حمزة النهيري الذي كانت لي معه قراءتين متتابعتين، حيث شقّ علىّ الاستيعاب في القراءة الأولى نظرا لما اعتمدتُه فيها من الخلط بين قراءة الحواشي الطويلة الممتعة والمتن، فهو كتاب في طيه كتاب.. لقد كانت الأفكار تتطاير من رأسي تباعاً كلما خلطت بين قراءة الصفحات وحواشيها. وسرعان ما لان لي الكتاب فقراته قراءة متأنّية متدبّرة غير شاملة لحواشي الكتاب إلا اضطرارا تفاديا لبعثرة الأفكار وتشتيتها، وهو ما مكّنني من فهمه وتشرُّب معانيه، ومن ثمّ كتابة ما كتبتُ فيه..
فالاستطرادات لايقوم بها إلا العلماء المتحققون بالبحث والنظر.
هذه كانت قراءتي المختصرة لكتاب الدكتور حمزة النهيري المعنون ب سؤال الدين والأخلاق في الغرب الإسلامي بين مشروعي طه عبد الرحمن ومحمد عابد الجابري.
وأنا سعيد بوجود اكاديميين مغاربة على هذا النمط من الفهم والاستيعاب.
والله وليُّ التوفيق.
Source : https://dinpresse.net/?p=13070