30 يونيو 2025 / 08:16

“الإقناع والخطابة” لمايكلستايدر، وبيان ما تضمنه من نقض للبلاغة

طارق حنيش

نظرٌ في كتاب “الإقناع والخطابة” لكارلو مايكلستايدر، وبيان ما تضمّنه من نقض للبلاغة، وتأصيل لوجود قنوع لا يفصح عنه نظامٌ ولا يسعه مقالٌ.

هذا الكتاب الموسوم بـ”الإقناع والخطابة”، الذي أفرده كارلو مايكلستايدر لنقض بنيان البلاغة، لهو من النصوص النّوادر التي اجترأ فيها صاحبها على أسس الميتافيزيقا الغربية نفسها، فردّها إلى منبعها: الخوف من الموت، وتوهّم الكفاية. وإنّي – بعد طول مدارسة وتدبّر – قد رمت أن أستعرض في هذا المقال جملة ما انطوى عليه هذا الكتاب من مقاصد فلسفيّة وجوديّة، بأسلوب كلاميّ يقارب مقصد المؤلّف، دون أن يحيل التجربة إلى نظام يعيد إنتاج ما أراد نقده. وسأحاول – قدر الطاقة – أن أفرّق بين الإقناع بوصفه نفيًا وجوديًّا للعلائقيّة، وبين تلك الصّيغ المؤسّسة التي تلبسها لباس الخطابة، وتحوّلها إلى مقالة تتلى، لا مقاما يعاش. إنّ أوائل صفحات كتاب “الإقناع والخطابة” لمؤلّفه مايكلستايدر، قد انطوتْ على تأصيل وجوديّ لمفهوم الإقناع، يفضي إلى تصوّر ميتافيزيقيّ للذّات المستقلّة، أعني بها الذّات الواجدة لكمالها في باطنها، لا تطلب ما يستأنف من الخارج، ولا تفتقر إلى ما يكون لاحقًا لها. وقد عبّر عن هذا المفهوم بقوله: «هو القائم بنفسه {ἔνει}، لا يحتاج إلى ما سيكونه {ἔνοι αὐτόν} في المستقبل؛ بلْ يملك كلّ شيء في باطنه». فأشار بذلك إلى ذات محصورة في دائرة كمالها الذاتيّ، متعالية عن الحركة الاستكماليّة، متنكّبة عن شوائب التعلّق، سالكة سبيل الاكتفاء الذّاتيّ، كأنّها شبحٌ من الجوهر الأرسطيّ الخالص، وقد تجسّد في هيئة كينونة نفسيّة. ثمّ إنّه – أي مايكلستايدر – عاد فقرّر، تقرير من سلك سبيل الميتافيزيقا في مأتاها الأرسطيّ، أنّ الوجود، من حيث هو وجودٌ لا من حيث هو محسوسٌ أو موهومٌ، لا يدرك إلا إذا تصوّر على جهة الجوهريّة، أعني أن يفهم بما هو قائمٌ بذاته، مكتف بماهيّته، مستغن عن كلّ ما سواه، متعال عن شوائب التعلّق والافتقار، وأنّ كلّ وجود لم يحزْ هذا الكمال، أو احتاج في تحقّقه إلى غيره، أو لم يدركْ إلّا من جهة ما يعرض له، فليس بوجود في اصطلاحه، بل هو شبهة وجود، أو ظلٌّ من ظلال التحقّق، لا يثبت في ميزان العقل ولا يقام له وزنٌ في محراب الذات الخالصة. وقد استخرج هذه الدعوى من أصل قديم مطروح في المباحث الأولى، وهو أنّ الجوهر – كما قرّره أرسطو وأخذت به طائفةٌ من المتكلّمين – هو ما يمثّل ذاته بذاته، لا يستمدّ قوامه من خارجه، ولا يتعلّق وجوده بغيره، بل هو مبدأ الاستقلال في نفسه، ومركز الثّبوت في نظام التعيّن. وهذا المعنى – كما لا يخفى على من اعتاد التمييز بين الماهيات والأعراض، وبين الذوات والعلائق – هو عيْن ما عرّفه المناطقة بـ”الماهية التي لا تحْتاج في تصوّرها إلى غيرها”، وهو ما اصطلح عليه المتكلّمون بلفظ “الذات” في مقابلة “الصفة”، إذ الذات عندهم ما قصد بها نفس الحقيقة، والصفة ما يدخل عليها عرضًا، قيامًا بها، لا استقلالًا عنها. بل إنّ بعضهم – كالأشعريّ ومن تلاه من أصاغر المتكلّمين – ذهب إلى أنّ هذا القسم من الموجود هو وحده المستحقّ لاسم الثبوت، وما عداه فهو إمّا حادثٌ غير قائم بذاته، أو موهومٌ عارضٌ في الذّهن، أو نسبةٌ لا يتصوّر قيامها إلا في إطار التعلّق. ولهذا تراهم يقولون: “القديم ما لا يحتاج إلى محدث، والجوهر ما لا يفتقر إلى محلّ”، وكلّها تعريفاتٌ تدور على معنى الاستقلال الذاتيّ، وإن اختلفت جهة النظر فيها.

وأمّا مايكلستايدر، فقد لزم هذا المذهب، ولكنْ على طريقة من يعيد بناءه داخل سياق حداثيّ قلق، إذ لم يقفْ عند حدّ التأكيد على الجوهريّة بوصفها معيار الوجود الحقيقيّ فحسب، بل جعلها قوامًا للحقيقة الوجوديّة الخالصة، بحيث إنّ كلّ ما لم يتحقّقْ على وفق هذا الميزان، لا يعدّ في مرتبة الكينونة، بل ينزل إلى درك الافتقار والتعلّق والزوال. وكأنّه أراد أن يقيم قطيعةً بين “الظاهر العلائقيّ” و”الجوهر الذاتيّ”، ويجعل كلّ ما يظهر على نحو العلاقة أو الحدوث أو التغيّر، خارجًا عن صميم الوجود، ملتحقًا بعالم العرض والوهم والتوهّم. وهذا الموقف، في جوهره، هو استئنافٌ لتقابل قديم بين الثابت والمتغيّر، بين الجوهريّ والعرضيّ، بين ما يقال على جهة الأوليّة وما يقال تبعًا، لكنّه في صياغته عند مايكلستايدر قد اكتسى بلون من الوجوديّة التأمّليّة، التي تمزج الميتافيزيقا بالذات الأخلاقيّة، فتجعل من الاستقلال الجوهريّ مرتبةً أنطولوجيّةً وأخلاقيّةً في آن واحد، إذ القنوع – في اصطلاحه – هو الذي بلغ هذه الذّروة من التحقّق، فاستغنى، وثبت، وامتلك ما به يكون، لا ما به يصبح، ولا ما يعتمد عليه في خارج حدود ذاته..وبهذا يتّضح أنّ مايكلستايدر لم يسْلكْ سبيل الفلاسفة المحض في بحث الجوهر، ولا اقتصر على النظر العقليّ المحض، بل ركّب من الميتافيزيقا موقفًا وجوديًّا، يزاوج فيه بين الحدّ الذهنيّ والتأمّل الوجوديّ، فجعل من الجوهر معيارًا للكينونة الكاملة، وميزانًا للذات المتحقّقة، وميزانًا أيضًا للقيمة الإنسانيّة. غير أنّ مايكلستايدر، وإنْ بنى تصوّره الأوّل على أصل الجوهريّة بما هي استقلالٌ ذاتيٌّ وتحقّقٌ في نفس الشيء، فإنّه لم يلْبثْ – كما هي عادة من يتوغّل في التبصّر حتى ينقلب على مبدئه من شدّة الإمعان فيه – أن خرج من حدّ الإثبات إلى نقيضه، فأعمل معْول النّقض في ذات ما أقامه، فقرّر – تقرير من أطْلق الحكم من وراء ستار التناقض الخفيّ – أنّ جميع الموجودات، وإن ظنّ فيها تلبّسٌ بالجوهريّة أو ختامٌ للكينونة المستقلّة، فهي في صميم حقيقتها أشياءٌ علائقيّةٌ، لا قيام لها إلا في شبكة التعلّق، ولا تدرك إلا بمراعاة ارتباطها بسواها، حتى كأنّها – من شدّة تداخلها – لا تملك ذاتًا أصيلةً، بل هي أعراضٌ منتشرةٌ في نسيج الزمان، متحوّلةٌ في تيّار التفاعل، لا تثبت على صورة، ولا تستقلّ بوصف. وإنّ هذا الحكم – على قدر ما يتضمنه من جرأة فلسفيّة، ومن انقلاب على المألوف من أنساق التصنيف الأرسطيّ – فإنّه ليس مجرّد تعنّت نظريّ أو شطط في الإطلاق، بل ينبني على أصل عميق في نظره، وهو أنّ ما اعتاده الذهن من إطلاق لفظ “الجوهر” على أشياء يظنّ فيها الثبات والانفصال، ما هو – في ميزان التحليل الصارم – إلا صورٌ عقلانيّةٌ، تنتزع من مجرى الزمان، وتثبّت اصطلاحًا في قالب الذّهن، لا لأنّها كذلك في أنفسها، بل لأنّ الذهن، بطبعه التّصنيفيّ، يميل إلى تثبيت السّيّال، وتحديد ما لا حدّ له. فـ”الجوهر” عنده – وإن احتفّ بألقاب التّقديس في فلسفة الكلاسيكيّين – ليس إلا مفهومًا انتزاعيًّا، ناتجًا عن تجميد الحركة، وقطع الامتداد، ومحاولة حصر الكينونة في لحظة وهميّة من السّكون. إذ الواقع – كما يراه – هو انسيابٌ محضٌ، وتفاعلٌ دائمٌ، وسيلانٌ لا يقف عند حدّ، وكلّ ادّعاء بالثبوت أو الاستقلال إنّما هو نوعٌ من الخداع المفهوميّ، بل من التواطؤ العقليّ مع الحاجة إلى التصنيف والاطمئنان. وعلى هذا التقدير، فإنّ الجوهر المزعوم – أيًا كان موضوعه، حجرًا أو نجمًا أو إنسانًا – لا يتحقّق إلا في سياق علائقيّ، فهو ما لم يلحظْ من جهة علاقاته الزمانيّة والمكانيّة، وما لم يربطْ بمنظومة التبادل التي تحكم وجوده، فإنّه لا يكون شيئًا أصيلًا، بل يكون كالوهْم القائم في الذهن، لا في العين، وكالخيال المنتفخ الذي لا يسنده الواقع إلا لحظة التوقّف الذهنيّ، لا حقيقة الحضور العينيّ. بل قد يقال – وعلى وجه من المبالغة التي يقصد بها التحليل الفلسفيّ تفكيك وهم الدلالة – إنّ مفهوم الجوهر نفسه، إنْ هو إلا قناعٌ ألْبس للمتحوّل، وغلافٌ وضع على المتغيّر، ليجعل منه “ماهيّةً” تخالف الفوضى، وتوهم بالاستقرار، لا لأنّ الواقع كذلك، بل لأنّ النّفس البشريّة لا تصبر على تفلّت المعنى، فتسعى، بكلّ قوّة التّجريد فيها، إلى أن تبني “ثبوتًا” على حطام الحركة. فانظرْ كيف ينقلب المفهوم عند مايكلستايدر من مقام المسلّمة إلى محلّ التفكيك، ومن مرتبة الأسس الأنطولوجيّة إلى موقع المجاز الزمنيّ، فإذا نحن أمام فلسفة لا ترى في الجوهر ذاتًا مستقلّةً، بل تراه أثرًا إدراكيًّا للحاجة إلى الفهم، لا نتيجةً ضروريّةً لماهية الشيء في نفسه. وهذا هو تمام الفرق بين المتكلّم المثبت الذي ينزّل الألفاظ منازلها بحسب الوجود، والفيلسوف المتأمّل الذي لا يطمئنّ إلى شيء حتى يسْتأصل جذوره الزمانيّة والنفسيّة، ليبصره في عريه المطلق، خاليًا من زخارف الاصطلاح وخدع العقل. فبان بذلك أنّه ينكر الجوهر لا من جهة الاصطلاح بل من جهة الثّبوت العينيّ، ويرى أنّ كلّ ماهو مدْركٌ جوهريًّا، إنّما هو مموْهٌ زمانيًّا، منتزعٌ من حركة التبدّل، فلا يكون قوامه إلا بتمام علائقيّته. وهذا – عند المحقّقين – مذهب من ينقض الميتافيزيقا الكلاسيكيّة من أصلها، إذ يجعل الوجود كلّه حركةً متّصلةً، وينكر الثّبات، ويحوّل الجوهريّ إلى مجاز إدراكيّ قائم بالذّهن لا بالعين، ويقيم عالم المعاني على ركام الزّمن السائل، لا على دعائم التعيّن الثابت. فهذا كلّه يفصح عن صنيع مايكلستايدر، إذ التمس الجمع بين صورة الجوهر الأرسطيّ ومآلها التفكيكيّ الزمنيّ، مقيمًا قناعته الوجوديّة على نوع من التوتّر بين كمال الذات وانسياب الموجود، بين المكْتفي بنفسه والمنساب في علائق غيره، وكلّ ذلك يقتضي نظرًا دقيقًا، وفهمًا عميقًا، وتأمّلًا في الحدود التي يفصل بها الذهن بين الذّات والعرض، وبين الجوهر والتّوهّم.

ثم إنّ مايكلستايدر، في هذا النّصّ الذي أوردناه آنفًا، لم يكن بصدد وصف الشخص القنوع وصفًا خلقيًّا أو اجتماعيًّا على النحو المتعارف، بل رام أن يقدّمه على جهة التّجريد الوجوديّ، في صورة “جوهر” قد تخلّص من ربقة الزمان، وتحرّر من عوارض المحسوس، فهو لا يستمدّ معناه من خارجه، ولا يتعلّق بثناء قوليّ ولا برباط بلاغيّ يقوّي صورته في نظر الغير، بل إنّ هذا “القنوع”، كما يصوّره مايكلستايدر، هو موجودٌ مكتف بكماله الباطنيّ، غنيٌّ عن مظاهر التزييف الخطابيّ، لأنّه، ببساطة، لا يطلب أن يكون شيئًا، إذ هو، في ذاته، كلّ شيء. وهذا المعنى – وإن خالف ظاهر الاصطلاح السائر بين الناس – فإنّه يراد به الإشارة إلى أنّ القناعة، في جوهرها، ليست موقفًا سلوكيًّا، بل هي حالٌ أنطولوجيّةٌ، تقضي بنفي العلاقات المقيّدة، وفكّ جميع الرّوابط التي تجعل المرء تابعًا لما هو خارجٌ عن ذاته، فتعيده إلى مركزه، أعني مركز الوجود الخالص، الذي لا يتحدّد إلا بما هو باطنٌ فيه، لا ظاهرٌ عليه. ولأجل ذلك قال: «القنوع هو من لديه حياةٌ في باطنه، روحٌ عاريةٌ في جزيرة المباركين»؛ فشبّهه بجزيرة معزولة، نقيّة من صخب العلاقات، متحرّرة من العلائق والتّشابك، إذ لا حياة فيها إلا الحياة التي تستمدّ من الداخل المحض، لا الخارج المشوّش. وإنّ هذا التصوير – كما لا يخفى على الفاحص الدقيق – إنّما يعيد بناء مفهوم الكينونة على قاعدة الاستقلال الجوهريّ، بما هو انقطاعٌ عن سيْل العوارض، وانسحابٌ من ربقة الزمان، الذي يرى فيه مايكلستايدر، كما يرى شوبنهاور، أنّه سبب التناقض ومبدأ الخداع، إذ يجعل الموجود في حال من التوهّم، فيظنّ نفسه حيًّا لمجرّد أنّه يتحرّك ويتغيّر، بينما هذه الحركة عينها هي التي تؤكّد فنائه، وتشهد على حرمانه، وتدلّ على أنّه لا يمتلك شيئًا من ذاته، بل هو مفقودٌ في التيّار، مفكوك البنية في نهر الزوال. وقد عبّر عن هذه الفكرة بـقوله: «كلّ موجود يقنع نفسه بأنّ هذا الحرمان المستمرّ، والذي من خلاله يفنى كلّ موجود، هو حياةٌ»؛ وهذا اللفظ – على وجازته – يتضمّن نقضًا جوهريًّا للتمثّل الساذج للحياة، إذ يفهم منه أنّ الحياة – عند العامّة – هي مجرّد بقاء حركيّ واستمرار زمانيّ، بينما هي، في حقيقتها عنده، مجرّد غفلة عن الفناء الذي يسكن كلّ لحظة من لحظات الزمان. فكأنّ الموجودات – كلّ الموجودات – هي أسرى للمايا، أو للسّيمولاكر، إذا استعملنا لفْظ بودريار، وهي تحيا بوهم الامتلاء، بينما هي في حقيقتها تغتذي من النّقص، وتتقدّم نحو العدم بخطًى ثابتة، تنكرها ألفاظ الخطابة، وتفضحها بنية الزمان. فبان بذلك أنّ القناعة، عند مايكلستايدر، ليست مجرّد ترك للطلب، بل هي نفيٌ شاملٌ للعالم الزمانيّ بما هو حكمٌ على الوجود، وانسحابٌ من نظام التبدّل إلى مقام الثبات الذّاتيّ، وثورةٌ على جميع الوسائط البلاغيّة والخطابيّة التي تؤسّس لوهم الاستقلال في صورة، بينما تخفي التعلّق من باطنها. وتلك – لعمري – أعلى مراتب التحقّق الصوفيّ، إذا ما نزعت عنه المسوح اللاهوتيّة، وألبس لباس التفلسف المجرد من الإشارة إلى المعنى المتعالي. ثم إنّ مايكلستايدر قد قرّر في موضع من كلامه أنّ الحالة السّيّالة للزمان، أعني تدافع آناته وتراكب لحظاته، تجبر الإنسان على أن ينظر إلى الحاضر بعين الاستشراف، لا بعين الحضور، فيدرك ما هو الآن بما سيكون، لا بما هو كائنٌ، فينزلق بذلك من مقام الوجود الحيّ إلى درك الصيرورة البلاغيّة، ويستبدل له الكائن بالمتوقّع، والفعل بالحلم، والمعنى بالحركة المجرّدة. وهذا الانزلاق – على دقّته – هو أوّل أسباب نفي القناعة الأصيلة، والمانع الأكبر من التحقّق بالوجود الأزليّ، لأنّ القناعة لا تدرك في الترقّب، بل في استكمال الذّات بذاتها، والانغلاق على الباطن دون تفتّح نحو الخارج. وإذا تأمّلْت قوله إنّ «الحياة تصدر في الزمان»، علمت أنّه يجعل من الزمان شرطًا تكوينيًّا للحياة، لا وعاءً محايدًا، بل مبدأً أنطولوجيًّا، لأنّ الحياة، من حيث هي، لا تملك وجودها ما لم تطلقْ ذاتها في مجرى الزمان، أعني: أنّ الحياة لا تتملّك نفسها إلا بتوسيط غيرها، ولا تدرك حضورها إلا بالتفريط فيه، فكأنّها لا تكون إلا حين تفنى، ولا تثبت إلا حين تسيل، وهذه – لعمري – من دقائق التناقض الوجوديّ الذي لا يدرك إلا بالفكر الحادّ، والحسّ الأنطولوجيّ. وقد قرّر – على طريق التلازم المنطقيّ – أنّ الزمان لا نهاية له، إذ لو أمكن له أن يتملّك نفسه، أي لو توقّف على إرادة الحياة، لكان مخلوقًا محدودًا بإرادتها، تابعًا لحركتها، لا شرطًا سابقًا عليها. وكذلك الفضاء، لا يعرف حدًّا، لأنّ فيه ما هو غير إرادة الحياة، أي ما لا يقاس بها ولا يستنزف فيها. وهذا الاستقلال الزمنيّ والمكانيّ، إنّما هو عين ما ينتج التنوّع الوجوديّ، إذ الطّفرة الدائمة – وهي عنده حركة الانبثاق المستمرّ – تصْدر من اتّساع هذين البعدين: الزمان والفضاء، فتتنوّع الموجودات بتنوّعهما، ويتكثّف الكون على قدر سعتهما.

ثمّ إنّ صدور الحياة في الزمان، يستلزم – على وجه التلازم الأنطولوجيّ – صدور المكان معها، لأنّ التحقّق لا يقع في اللامكان، والحركة لا تتمّ في اللازمان. فهما – الزمان والفضاء – شرطان أوّليّان لعالميّة العالم، لا بالاعتبار الحسيّ فقط، بل من جهة التكوّن الأوّليّ، أي: أن لا وجود للعالم دون أن يتوسّطه هذان الحدّان، اللذان لا حدّ لهما، لأنّهما ليسا محدّدين، بل مبدأيْن مانعيْن من الاكتمال. ومن هذين الحدّين تنبثق الحركة والصّيرورة، وهما – كما قرّر – العنصران المؤسّسان لكلّ ما يطلق عليه اسم الحياة. غير أنّ هذين الحدّين – الزمان والمكان – وإن كانا شرطًا للتحقّق، فإنّهما – في الوقت نفسه – ممّا يحجب الحياة عن ذاتها، ويمنعها من أن تلج إلى جوهرها، إذ كلّما سعت إلى الحضور، دفعها الزمان إلى الآتي، وأجبرها المكان على التعدّد، فتفقد وحدتها في تعدّد الأوضاع، وتضيّع ذاتها في سراب الامتداد، فتتغيّر حيث أرادت الثبات، وتتشتّت حيث ابتغت الوحدة. وهذا – عنده – هو عين التناقض الأنطولوجيّ المتأصّل في نسيج العالم البلاغيّ، أي: عالم الظواهر الذي ينظر فيه إلى الحياة بوصفها معنى متحرّكًا لا يدرك إلا إذا تلبّس بالتشبيه والخطابة، وانفصل عن ذاته في زينة القول، وزخرف المجاز. ولأجل ذلك قال: “الحياة تهوى نفسها، ولكنّها لا تبلغها، تطارد كمالها في الزمان، ولكنّها لا تدركه”، إذ إنّ كمالها، من حيث هو، مجرّدٌ عن التعدّد، وعن الامتداد، فلا يكون في زمان، ولا في مكان، ولا في صورة، بل هو محض تعال، لا ينال إلا بالخروج من شروط العالم، أي من الزمان والمكان والحركة، وهذا محالٌ مادام الوجود واقعًا في النظام البلاغيّ لا في المطلق الوجوديّ. فانظر كيف صاغ مايكلستايدر مفارقته، فجعل الشروط المكوّنة للحياة هي نفسها الحجب المانعة عنها، وأقام تصوّرًا أنطولوجيًّا للحركة لا بوصفها انتقالًا، بل بوصفها نفيًا مستمرًّا للذات، ومطاردةً لا تنتهي لما لا يدرك في حيّز التعدّد. وهذا بعينه ما يسميه المتكلّمون: الوجود الذي يقاس بعدم الإدراك، لا بإدراك الوجود.

لكنّ مايكلستايدر – وقد رام أن يفكّ عقدة الوهم الذي يربط الحياة بذاتها من حيث هي تشتاق إلى تحقّقها – جادل جدال من سبر غور المفارقة الأنطولوجيّة، فأكّد أنّه لو أمكن للحياة أن تلج إلى ذاتها، وتملك حقيقتها دفعةً واحدةً، أعني لو تمكّنت من التحقّق الكامل في لحظة واحدة مطلقة، لكان ذلك بعينه نفْيًا لها وفناءً لكيانها، لأنّ الحياة – بما هي سيْلٌ وصيرورةٌ – لا تثبت إلا ما دامت تفتقد ذاتها، وتجري وراء كمال لا يدرك، فإذا أدركتْه، انتقضتْ ماهيّتها، وانحلّ نظامها من أساسه. ومن هذا الباب يفهم مايكلستايدر القناعة، لا على أنها موقفٌ نفسيٌّ من الرّضى، بل كحالة وجوديّة نقيضة لكلّ الحراك الخطابيّ الذي يحاول أن يقنع الإنسان بأنّه يتحقّق فيما هو متحرّكٌ، ويتجلّى فيما هو زائلٌ. ولهذا سمّى القناعة الحقّة بـ abios bios، أي: «حياةٌ بلا حياة»، وهو تركيبٌ متناقضٌ في ظاهره، لكنّه يفصح – على طريقة المفارقات الميتافيزيقيّة – عن جوهر الحياة التي لا تسعى، أي الحياة التي لا تطارد نفسها، ولا ترى في المستقبل معنىً للتحقّق، بل تكتفي بالحضور المطلق، فيكون ثبوتها في تجرّدها عن كلّ صورة، وسكونها في إمّحاء الغاية. وإنّما ينقد مايكلستايدر في هذا الموضع مفارقة الإرادة – كما نجدها عند شوبنهاور – التي تهوى أن تبسط سيطرتها على الحياة، فتتحوّل من محض دافعيّة عمياء إلى قوّة خطابيّة مضلّلة، تقنع الذّات بأنّها هي التي تسوس مستقبلها، وهي التي تصوغ كينونتها بحسب رغبتها. ومن هنا جاء مفهوم philopsychia – أي حبّ النفس لوجودها – الذي يجعل من الحياة، في ذاتها، معشوقةً من ذاتها، لا باعتبار حقيقتها، بل من جهة ما توهم به، لأنّ إله الفيلوبسيكيا عند مايكلستايدر، إنّما هو إله الخطابة بامتياز، يغري الإنسان بحبّ نفسه، لا من جهة حقيقته، بل من جهة ما سيكون عليه، فيحرمه من الحضور، ويجعله عبدًا لغايته المؤجّلة.

وهذا الإله – كما يصوّره مايكلستايدر – لا يأسر البشر بالعنف، بل بالخطاب، فلا يقيدهم بقيود الواقع، بل يجذبهم بأوهام المستقبل، حتى يلقي بهم في حلقة مفرغة من القناعة غير الكافية، التي لا تحقّق ذاتها، بل تصطنع شعورًا زائفًا بالاكتفاء، هو في حقيقته تغطيةٌ للفراغ، وتزيينٌ للهوّة. فالقناعة غير الكافية – في اصطلاحه – هي إرادة المرء لنفسه في المستقبل، أي محاولة إثبات الذات من خارجها، في زمان لم يأت، وفي صورة لم تتحقّقْ، فتصير الذات وهمًا متكرّرًا، وصيرورةً لا تنتهي. وأمّا القناعة الحقّة، فهي عنده تنْفي الزمان، والإرادة، والشخصيّة العلائقيّة التي يطلق عليها اسم persona، إذْ هي لا تقنع الإنسان بأنّه شيءٌ في المستقبل، ولا بأنّه يستطيع أن يصير، بل تعيده إلى لحظة الحضور الخالص، حيث لا أنا، ولا أنت، بل مجرّد سكون نقيّ في ذاته. ثمّ إنّ القناعة غير الكافية – التي هي صورةٌ من صور الوهم البلاغيّ – تتكوّن، بحسب مايكلستايدر، من أربع مراحل تؤسّس لحلقة الحياة الخطابيّة المفرغة، وهي على الترتيب: ١) Mένει: أي وجود شيء ما، حضورٌ خارجيٌّ مستقلٌّ عن الذات؛ ٢) Mένει ἔ τι: أي وجود هذا الشيء من حيث هو لي، أي متعلّقٌ برغبة الذات؛ ٣) Πάρεστι ἐλπίς: أي حضور الأمل بالنسبة لي، وهو ترجمةٌ لتموضع المستقبل في الحاضر؛ ٤) Ἀρκῶ: أي أنا مكتف بذاتي، اكتفاءٌ مبنيٌّ على الوعد، لا على التحقّق. فهذه المراحل الأربع تمثّل – على ما يظهر – البنية الديالكتيكيّة التي بها يستنبط الإنسان ما يحسبه جوهرًا ذاتيًّا، بينما هو تركيبٌ علائقيٌّ متولّدٌ من خطاب الرغبة، وتظهر كيف تنشأ الذّات الوهميّة، لا من الحضور، بل من السّعي إلى الامتلاك، ومن الانفصال عن الوجود إلى الطمع في الممكن، ومن الافتقار إلى وهم الكمال. وفي ذلك – كما ترى – انقلابٌ كاملٌ على الميتافيزيقا الكلاسيكيّة للجوهر، واستبدالٌ لثبات الذات بحلقيّة الرغبة، وجعل القناعة، لا نهايةً للطلب، بل وعيًا باستحالة الاكتمال في نظام الخطاب. ثم إنّ مايكلستايدر قد أبان في موضع عزيز من كلامه عن أصل خفيّ في صناعة الوهم الوجوديّ، إذْ بيّن أنّ البشر – في غفلتهم عن التّكوّن السّيّال للحياة – يسارعون إلى استنباط قانون زائف من إنجاز جزئيّ، فيعتقدون، من حيث لا يشعرون، أنّ مجرّد تحقق الرغبة في لحظة ما، دليلٌ على إمكان تحققها في كلّ حين، بل ويزعمون – بما يوهمهم به خطاب المستقبل – أنّ هذا التحقق الدّوريّ يسوّغ لهم الادّعاء بالاكتفاء الذّاتيّ، فيستنتجون كمالًا وهميًّا من فراغ علائقيّ مقنّع. وهذا التوهّم لا يكون إلا لأنّهم يشرعون أوّلًا بتجريد ما يسمّيه مايكلستايدر “المعطيات العلائقيّة” من سيلان الصّيرورة، فينزعون عنها لباس الحركة، ويخرجونها من نسق الزمن، ثم يعيدونها إلى ساحة الإدراك بوصفها “أشياء في ذاتها”، لا صورًا منتزعةً من علائق سابقة. وهكذا تؤسّس مثنويّة “الذّات والموضوع” تأسيسًا اصطناعيًّا، وتلقى في ساحة التّفكير كأنّها ثنائيّةٌ أوليّةٌ لا تقبل النقض، مع أنّها في الحقيقة ليست إلا تراكبًا مزيّفًا لعناصر خطابيّة تجريديّة.

ومن هذا الباب، تظهر الموجودات – في نظر الإنسان المعلّق بخطاب الرغبة – لا كما هي في ذاتها، بل كما يناسب احتياجاته، أي كما يعيد تركيبها في جهاز التوقّع والاستعمال. فكلّ ما تمّ تجريده من قبل، يعاد تقديمه الآن بصفته متعلقًا بالحاجة، أي مشروطًا بإرادة مستقبليّة، وبذلك لا يرى الشيء إلا من حيث هو يلبّي، لا من حيث هو يكون. وهذه العمليّة – وإن كانت في ظاهرها عقلانيّةً – تفترض شيئين: أوّلهما: أنّ الإنسان يستطيع أن يريد في المستقبل كما يريد في الحاضر، وثانيهما: أنّه قادرٌ على تخيّل صورة تحقّق رغبته في الغد كما لو كانت واقعًا اليوم. ومن هذين الافتراضين، يركّب الإنسان خلاصته: اكتفاءً ذاتيًّا لا حقيقة له، بل هو مجرّد انعكاس لديناميكيّة التعلّق الزمنيّ، أي قناعةٌ غير كافية، لأنّها مبنيّةٌ على سلسلة إسقاطات في العالم الخطابيّ، ذلك العالم الذي يتناقض – في أصل بنيته – مع الحقيقة الأنطولوجيّة الثابتة للوجود البارمينيديّ، الذي لا يعرف زمانًا، ولا يسمح بالحركة، بل يقوم على الثبات المحض والحضور الخالص. ومع ذلك، فإنّ القناعة غير الكافية صالحةٌ للعالم الذي صمّم لها، فهي “لا تتناسب إلا مع العالم الذي يخلقه الإنسان لنفسه”، كما يقول مايكلستايدر {صـ٢٣}، فكلّ ما فيها من توهّم داخليّ يعاد إنتاجه بحسب مقتضى النظام البلاغيّ الذاتيّ، الذي تحكمه فردانيّةٌ موهومةٌ، تتوهّم الكينونة حيث لا كينونة، وتختزل الوجود إلى أثر نفسانيّ خطابيّ. ولأجل ذلك، يقحم مايكلستايدر، عن وجه قصد، جدليّة اللذة والألم في هذا السياق، لأنّهما طرفا المعادلة النفسانيّة التي تغذّي وهْم “الفيلوبسيكيا”، أعني حبّ الإنسان لنفسه بوصفه استيهامًا خطابيًّا. ولقد بيّنّا من قبل أنّ الفيلوبسيكيا – بما هي تجلّ لإله الخطابة – تغري الإنسان، وتستدرجه إلى أوهام الامتلاء، لأنّها تؤكّد له أنّه “هو”، وتناجيه بلسان الخطابة: “أنت مكتف”، وهذه هي المرحلة الرابعة من حلقات القناعة الزائفة. لكنّ الجانب المقابل من هذه المعادلة – وهو ما يغفل عنه أكثر الناس – هو “الخوف من الموت”، أو بالأحرى: “الخوف من العدم”. فإنّ الإنسان، ما دام يقنع نفسه بأنّه يستطيع أن يريد في المستقبل، فإنّه، لا محالة، سيخشى من توقّف هذه الإرادة، أي من أن تنحلّ قدرته على الرغبة، وتفنى فاعليّته، ويزول وجوده بوصفه مركزًا راغبًا. ومن هنا كان خوفه من فنائه، لا بوصفه مجرّد انتهاء جسديّ، بل باعتباره نفيًا لمركز إرادته. فالزمان – بما هو سيلٌ لا ينتهي – يهدّده بإصداره الدائم، ويذكّره بأنّه لا يملك زمام نفسه، لأنّه ملقى في مجرى لا يتوقّف. وهذا الخوف – على ما فيه من رعب – هو مقابل الوعد الذي تقدّمه الفيلوبسيكيا، فإذا كانت هذه تناجيه بقولها: “أنت”، فإنّ الموت يصفّعه بقوله: “لست”. وهكذا تقوم الديناميكيّة الوجوديّة عند مايكلستايدر على قطبين:

1ــ الفيلوبسيكيا: تؤكّد “أنت هو”، وتغري بالثبات الكاذب،

2ــ والخوف من الموت: يفجّر “لست هو”، ويذكّر بالحقيقة الغائبة.

وإذا أضفت إلى هذا السياق وهم القناعة – وهو ما يسمّيه مايكلستايدر اكتفاءً بالرغبة في المستقبل – رأيت كيف تتقاطع في هذا البناء الخطابيّ آليّات اللذة والوعد، وآليّات الرعب والانقطاع، ليعاد بناء الذّات، لا بوصفها جوهرًا، بل كمنطقة صراع، أو بالأحرى ككيان بلاغيّ هشّ، يتردّد بين نداء الكفاية الوهميّة وصدى العدم المخيف، فتثبت الفرديّة الخطابيّة على هيئة شبح يطارد ذاته، ويتوهّم نفسه من شدّة خوفه منها. ثمّ إنّ ما يعرف عند الناس بـ «ألم الخسارة» من موت أو فقد أو خراب، ويظنّ أنّه مقيّدٌ بعلّة جزئيّة مخصوصة، إنّما هو – في التحقيق – صورةٌ من صور الرّعب الأعمق، أعني الرّعب من انكشاف العجز الكلّيّ للوهم الذّاتيّ. ذلك أنّ الحدث المفجع، سواءٌ أكان موت قريب، أو مرضًا نازلًا، أو خرابًا مفاجئًا في كيان العالم المحيط، لا يصيب من الإنسان عضوًا دون عضو، بل يضرب البناء الخطابيّ في أصله، ويزلزل الأساس الذي كان يقيم فيه تصوّره عن الاكتفاء الذّاتيّ. فهو لا يحزن – في باطن الأمر – على فقْد ما فقد، بل على انكشاف كذبه حين ظنّ أنّه في مأمن، فإذا بالواقع يخاطبه – كما يسخر المجهول من الواهم –: «ها أنا ذا قدمت، كنت تحسب أنك آمنٌ، وفي الحقيقة أنت لا شيء» {صـ٣١}.

وفي هذه السّطور تتبدّى بجلاء – لمن تبصّر – جدليّة الألم واللذّة، لا من جهة الأثر النفسيّ فحسب، بل من حيث هي ديناميّةٌ وجوديّةٌ متأصّلةٌ في ماهيّة الذات. إذ إنّ كلّ لذّة لا تدرك إلا من خلال نفي ألم سابق أو توقّع ألم لاحق، وكلّ ألم لا يفهم إلا باعتباره تهديدًا لصورة من صور الاكتمال الموهوم. فالنّفس البشريّة – بما هي كائنٌ خطابيٌّ – تعيش بين قطبيْن: قناعة متوهّمة، وعجز مكشوف؛ بين محاولة ولوج الذّات، وانسلال الذّات منها؛ بين وهم الكينونة، ووجدان العدم؛ وهذا هو بعينه ما سمّاه مايكلستايدر الدّيالكتيك الوجوديّ. ومن هنا كانت المثنويّة بين القناعة والخطابة، لا مجرّد اصطلاح أو تنويع بلاغيّ، بل وصفًا لمحنة الوجود في قلب الزمان. فإنّ الخوف من الموت – وهو المبدأ النفسيّ للهرب من العدم – ليس طارئًا على هذا البناء، بل هو أصلٌ فيه، ومحرّكٌ جوهريٌّ لصياغة الذّات الخطابيّة، ولذلك جعله مايكلستايدر حجر الزاوية في تحليله لمفارقة القناعة والبلاغة، لأنّ القناعة الحقّة – عنده – لا تقوم إلا على نفْي هذا الخوف. وفي هذا الباب، يستدعي مايكلستايدر سلطان الحكمة الأفلاطونيّة، ليقوّي به احتجاجه، مشيرًا إلى ما ورد في Apology لأفلاطون، حيث قال سقراط: «الخوف من الموت ليس إلا شكلًا آخر من أشكال ظنّ المرء أنّه حكيمٌ، وهو ليس كذلك» {29a، و Gorgias 522e}، وهو استدلالٌ يقيم الخطّ الواصل بين جهل المرء بمآله، وتوهّمه بالكمال، وبين خوفه من انقطاع الرغبة، إذ من لم يعلمْ أنّه لا يملك من نفسه شيئًا، لا بدّ أن يخشى من زوال ما لا يملكه. وعلى هذا الأساس، تكون القناعة – من حيث هي – نفيًا مزدوجًا: نفْيًا للخوف، ونفيًا للزّمان الذي يولّده. فـ «من خاف الموت فقد مات بالفعل» {صـ٣٩}، لا لأنّه أدرك الموت، بل لأنّه أدخله في نسيج حياته، فجعله مبدأً خفيًّا لكلّ حركة من حركات وجوده. فكلّ سعْي يصبح – بهذه النّظرة – هربًا، وكلّ أمل مقنّعٌ خوفًا، وكلّ ذات قناعًا لإرادة الهروب من الفناء. ولذلك شدّد مايكلستايدر على أنّ من أراد أن يبلغ مرتبة القناعة الحقّة، فلابدّ أن ينتزع من شبكة العلائق، ويلقي نفسه في صحراء الوجود، حيث لا شيء غيره، ولا رغبة إلا في العدم. ولهذا كثر ورود استعارة الصّحراء في كتابه «القناعة والخطابة»، لأنها تشير – كما لا يخفى – إلى عزلة أنطولوجيّة، لا هي عزلةٌ اجتماعيّةٌ ولا روحيّةٌ فقط، بل هي نزع الإنسان من ذاته الخطابيّة، وردّه إلى أصله المجرّد، في سكون لا غاية له، ولا انتظار فيه. وهذه الصحراء – بما توحي به من خلاء وامتداد وصمت – تحيل الذّهن إلى التقاليد النسكيّة، كما نجدها في رهبنة الصحراء عند المسيحيّة الأولى، أو في صور التيه التوراتيّة، أو حتى في مفاهيم الخلوة الصوفيّة، حيث تنتزع الذّات من خطابات التمدّن، وتسلّم إلى الفراغ لكي تتحقّق بعدمها. فإنّ القناعة، بحسب مايكلستايدر، لا تتمّ إلا حين يفقد الإنسان كلّ شيء، ويظلّ مع ذاته الخالية من كلّ توقّع، ومن كلّ غاية، ومن كلّ ضوء بلاغيّ يزيّن له وجوده. فانظرْ كيف صاغ مايكلستايدر سرديته على مثال من مكر البلاغة وخداع الرغبة، وكيف أسّس نفي الذات من خلال كشف عجزها، وطلب القناعة من خلال اقتحام العدم، لا عبر تحصيل الموجودات. فتلك هي الحكمة التي لا تقال إلا بلغة المتناقضات، والتي لا تدرك إلا إذا نفيْت ذاتك لتبصر بها. ثمّ أنّه في هذا السياق المأزوميّ الذي يشيّده مايكلستايدر، لا يغفل عن استحضار المثال الأعلى للقنوع الأتمّ، والواحد الذي بلغ حدّ السكينة الأنطولوجيّة، أعني: المسيح عليه السلام، رمز اللاخطابيّة في فعله وتركه، في حضوره وغيابه، في تأكيده ونفيه. ولئن قالها المسيح – كما يورد مايكلستايدر صريحًا – «لكنهم اكتفوا ببناء الكنائس» {صـ٤}، فقد أشار من طرف خفيّ إلى أنّ كلّ مأسسة للنموذج القنوع ليست سوى خطابة ممأسسة، بل هي، من حيث الحقيقة، نقيض النموذج، لأنها تحويلٌ لصمته إلى صوت، وعزلته إلى نظام، وقناعته إلى خطاب وعظ وتهذيب. وكذلك يمكن أن يلحق بهذا الموكب – عند من اتّسعت رؤيته – محمّدٌ ﷺ، وعليٌّ كرم الله وجهه، والغزاليّ في خلواته، والرازيّ في شكوكه، وابن عربي في فناءه في الذّات الفانية، وسواهم من القانعين الذين خالفوا نظام الذات الخطابيّة، وانفصلوا عن ترسيمات الحضور الاجتماعيّ، وجعلوا من نفسهم فلكًا للغياب. فكلّ واحد من هؤلاء، إذا ما نظر إليه بميزان مايكلستايدر، كان في جوهره “منفكًّا” عن الفيلوبسيكيا، أي عن إله الخطابة الذي يغري الإنسان بمرايا الوجود الزائف، ويزيّن له كفايته التي لا حقيقة لها.

 

والمسيح – كما جاء في سرديات القناعة والخطابة – لم يخضعْ لغواية الشيطان في الصحراء، ولا لانبعاث الخطابة المزيّنة لزخارف العالم، بل أظهر عدم تأثّره بالمداهنة الدنيويّة، وأعلن بالصّمت والسكوت أنه منفصلٌ عن نظام “التّزيين”، وهو نفس الموقف الذي وقفه بوذا إذ لم يستجبْ لغواية «مارا» – إله الخداع – فكانا في سياق متماثل: كلاهما نقض الخطابة بالفعل الصامت. ولأجل هذا، كرّر مايكلستايدر قوله: إنّ المسيح تخلّى عن الخطابة، فأصبح قنوعًا، واتّحد بذاته، وهو قولٌ لا يقصر على وصف المسيح وحده، بل هو مفتاحٌ لفهم مفارقة القناعة والخطابة كلّها، إذ ما من قناعة تتحقّق ما دام في القول قصد إصابة الغير، وما من ذات تتّحد إلا إذا خلت من مرآة الغير في وجدانها. ومن هنا، يستخرج مايكلستايدر قاعدةً تأسيسيّةً: أنّ كلّ محاولة لنقل القناعة إلى جهاز معرفيّ أو نظام مؤسّسيّ ليست إلا فعلًا من أفعال الخطابة ذاتها. فكما كانت الكنيسة “خطابةً” لتعاليم المسيح، كذلك كان علم الكلام – في شموليّته – “خطابةً” لحياة النبيّ ﷺ، وكما كانت المدارس البوذيّة “خطابةً” لحكمة بوذا، كذلك كان مذهب أفلاطون “خطابةً” لسقراط، ومنهج هيغل “خطابةً” لتجربة بوهمي. فالخطابة، بحسب مايكلستايدر، لا تنفكّ عن تحويل الصمت إلى بيان، والغياب إلى حضور مؤسّس، والقناعة إلى طقس جماعيّ. وليس هذا من قبيل خيانة النموذج فقط، بل من طبيعة التاريخ الذي يفسد كلّ قدسيّة بانخراطها في آلة الزمن. ولذلك، فإنّ أحد أكثر العبارات تحديدًا في كتابه: «لا يمكن أن تتشكّل القناعة في نظام معرفيّ واضح، ولا يمكن مأسستها كذلك»، لأنّها نفيٌ للمأسسة، لا مادةٌ لها.

فالقنوع – في هذا السياق – هو من يحمل ألمه على نحو مغاير للخطابيّ، لا باعتباره باعثًا على التّشكّي أو محطّةً للرغبة، بل كعلامة وجوديّة على انخلاعه من نظام اللذّة والخوف؛ أمّا الخطابيّ، فإنّه يحوّل الألم إلى رغبة في نيل ما يسكّنه، فيدخل في دائرة الوهم مرّةً أخرى، ويمارس طقس القناعة الزّائفة، التي ليست إلا استمرارًا للرغبة بوسائل أخرى. وهكذا، فإنّ الشّخص الذي أقنع فعليًّا – على حدّ تعبير مايكلستايدر – هو من يخلق ذاته من جديد خارج نظام الحدود المحدّدة للفرد الخطابيّ، فيكون فعله رفضًا للعالم الذي يفرض عليه تصوّراته عن الكفاية والرغبة. ومن هنا، يظهر التناقض البنيويّ في محاولة صياغة القناعة داخل العالم الخطابيّ، لأنّها – وإن كانت تستعمل معيارًا تنظيميًّا – فإنّها تنفى في اللحظة ذاتها التي تنطق فيها. وبحسب هذا الفهم، تكون القناعة نشاطًا لا نهائيًّا، لا يكتمل في صورة أو نظام أو خطاب، بل يظلّ في حركته المجرّدة، ويكون السّير إليه قناعةً في ذاته، لا غايةً خارجه. ولذلك، فإنّ قراءة فلسفة مايكلستايدر بهذا النّحو قراءةٌ مأساويّةٌ، لا لأنّه ينكر القناعة، بل لأنّه يثبتها على وجه لا يمكّن من تحقيقها، فيكون السّالك إليها محكومًا عليه بالفشل الفلسفيّ، من حيث هو يدرك استحالتها، ولكنّه مع ذلك لا يستطيع إلا أن يطلبها. وقد سمّيتها “مأساةً” – والكلام ما يزال على لسان الكاتب المحلّل – لأنّ مأساة مايكلستايدر الحقّة ليست في استحالة القناعة فحسب، بل في مستواها التواصليّ؛ فهو يعلم – بملء وجدانه – أنّ رسالته ناقضةٌ لذاتها، وأنّ القناعة لا يمكن إيصالها إلى الغير، إذْ ليست خطابًا ينقل، بل صمتًا يعاش، ومع ذلك يحارب مصيره المحتوم، ويكابد عبثيّة إيصال رسالة تناقض إمكانيّة الإيصال ذاته. وهنا يتجلّى المفارقة في أوضح صورها: فيلسوفٌ قنوعٌ يعلم أنّ كلّ خطاب خيانةٌ لقناعته، ولكنّه مع ذلك لا يملك إلا أن يخون لكي يوصل ما لا يوصل. فهو شهيد الصمت المنطوق، وصائغ رسالة لا يمكن قراءتها إلا إذا تمّ نسيانها، ولا يمكن سماعها إلا إذا تمّ إسكاتها.

ثمّ إنّ مايكلستايدر، وقد توطّن فكره في تخوم القناعة المنفلتة من شبكات التمثّل والمعنى، لم يتوقّفْ عند نفي إمكانيّة إيصالها فحسب، بل صرّح – تصريح الموقن بعدم الجدوى – أنّ طريق الإقناع من حيث هو، خيارٌ مستحيلٌ، لا لأنّه متعذّرٌ على البعض دون البعض، بل لأنّه يناقض طبيعة البشريّة الخطابيّة في أصل تكوينها، إذ هي في جذرها نزّاعةٌ إلى الإفصاح، مولعةٌ بالتمثّل، مشدودةٌ إلى تمظهر الذات في آفاق الزمان الآتي، مفرّغةٌ في لحظات الحاضر من ذاتها الواقعة. وقد عبّر عن هذا المعنى في موضع بيّن من «الإقناع والبلاغة» فقال: «يشترط الإنسان على الموجودات في المستقبل ما يفتقر إليه: حيازة الذات؛ وكما يهوى المستقبل، فهو بذلك ينفلت من نفسه في كلّ حاضر» {صـ١١}. فتأمّل كيف جعل الميل إلى المستقبل – بما هو رجاءٌ وطلبٌ – سببًا في انفصال الإنسان عن حضوره الذّاتيّ، لا لأنّ المستقبل معدومٌ فقط، بل لأنّ التعلّق به توسيطٌ وجوديٌّ لوهْم لا يمسك، ووضعٌ للقيمة في غير محلّها. ومن هنا، بيّن مايكلستايدر أنّ البشريّة – وقد فشلت في إمكان الاقتناع الحقّ – تنحدر ضرورةً إلى أنماط الحياة الخطابيّة، حيث لا يقصد بالوجود نفسه، بل يتوسّل به إلى غاية خارجه، فتجعل الغايات اللاعقلانيّة – أي تلك المولودة من الاحتياج الرّغبيّ – بمثابة قيم بذاتها، ويتوهّم صاحبها أنّه في سعيه هذا حرٌّ، وهو – في التحقيق – عبدٌ للمفارقة الخطابيّة، عبدٌ لحلقة الرغبة المؤجّلة، حيث يطارد الإنسان ما لا يدركه، لا ليبلغه، بل ليعيد تجديد ذاته بوهم القدرة على بلوغه. وفي هذا السّياق تقوم حياة الإنسان الخطابيّ – عند مايكلستايدر – على مبدأين: الخوف من الموت، والفيلوبسيكيا، أي حبّ الذّات المتكلّمة في مرايا الغير. فهذان الأصلان – وإنْ بدوا متعارضين – يجتمعان في تجديد الوهم: الأوّل بالخوف، والثاني بالرغبة. ولكن إلى جانبهما، ينبّه مايكلستايدر إلى طريقة خفيّة يبرّر بها البشر لاعقلانيّة حياتهم، وهي: المعرفة اللغويّة والمؤسساتيّة، وهما أداتان لتقنين وهم الخطابة، وجعله نظامًا مستقرًّا لا ينازع في سلطته. وبيان ذلك، أنّ المعرفة عنده لا تمارس من موقع الكينونة، بل من موقع التقسيم، إذ تفصل بين الحياة والعقل، وتؤسّس لثنائيّة تجعل الإنسان كائنًا مزدوجًا: عارفًا، وحيًّا، أي منقسمًا بين ما يعيشه وما يقرّره عن عيشه. ولهذا قال صريحًا: «يعرف الإنسان، ولهذا فهو ذو طبع مثنويّ: حياةٌ ومعرفةٌ» {صـ٦٦}.

ومن هنا، تنشأ المعرفة الخطابيّة لا بوصفها كشفًا، بل بوصفها مداهنةً ذاتيّةً، أي محاولةً لتثبيت الذّات في مواجهة العالم، بتسليط القول على الصيرورة، وتحويل المتغيّر إلى ثابت اصطلاحيّ. فالذي يقول: «أنا أعلم كذا»، لا يفصح عن أمر موضوعيّ، بل يسقط إرادته على الواقع، ويجعل من كلامه سلطةً خطابيةً على ما يسمّيه موضوعًا. بل يزيد الأمر وضوحًا قوله: أنّ تأكيد العبارة “هذا هو” لا يعبّر فقط عن إرادة القوّة، بل يجسّد هذه الإرادة نفسها، لأنّ المتكلّم حين يقول: «هذا هو»، فهو لا يصف الواقع، بل يفرض عليه تمثيلًا يناسب رغبته. وهنا تتبدّى النّكتة الفلسفيّة البالغة في تحليل مايكلستايدر، إذ إنّه يرى أنّ الوعي والإرادة وجهان لعملة واحدة، فلا يمكن للوعي أن يكون نقيًّا، بل هو دائمًا مشوّبٌ بالإرادة. ولهذا فإنّ قول القائل: «أنا أزعم أنّ كذا»، يؤول إلى «أنا أريد أن يكون كذا»، والذي يؤول بدوره إلى «أنا أريد من نفسي أن أزعم أنّ كذا»، فيتحوّل كلّ تعبير إلى انعكاس إراديّ ذاتيّ، لا إلى كشف موضوعيّ لماهيّة قائمة خارج النّفْس. فكلّ نوع من المعرفة، بحسب هذا النّظر، يشير – لا إلى حقيقة الموجودات – بل إلى حالة مخصوصة من تجسيد الإرادة فيها، أي أنّه إرادةٌ متنكّرةٌ في هيئة معرفة، بل هو تأويلٌ يستعمل لتثبيت الذات في موقع سلطويّ داخل سلسلة التمثيل الخطابيّ. وهذا بعينه هو ما يبقي الذّات سجينةً في العالم الذي صنعتْه لنفسها، عالم يتغذّى من القول، ويعيد إنتاج الوهم بمزيد من المعاني المنمّقة، لا بالكشف عن الحقيقة المجرّدة من الزمان والعلاقة. فانظر كيف أقام مايكلستايدر تحليلاً متينًا على قاعدة لا منطقيّة، إذ أعاد بنية المعرفة إلى جذور الرغبة، وربط القول بإرادة السيادة، وبيّن أنّه ما من جملة معرفيّة إلا وهي صورةٌ مقنّعةٌ لإثبات ذات متوهّمة. وهذا هو عين الخداع البلاغيّ الذي تنتجه المؤسّسات العلميّة والأنظمة الخطابيّة على السواء، لأنّها تسعى – من حيث لا تدري – إلى تخليد الرغبة تحت قناع الموضوعيّة. ما قرّره مايكلستايدر من كون الوعي والإرادة وجهين لعملة واحدة، لا يقف منعزلًا في فضاء الفلسفة الغربية الحديثة، بل هو وترٌ رنانٌ تشاركه فيه منظوماتٌ أنطولوجيّةٌ غابرةٌ، من أقدمها المذهب البوذيّ، والذي وإن خالف مايكلستايدر في المبدأ المتافيزيقيّ الأعلى، فقد وافقه – أو كاد – في تحليله الدقيق للعلاقة المفخّخة بين الإدراك والرغبة، أو بتعبير بوذيّ: بين الوعي {viñāna} والشخصيّة أو التّجسيد الفرديّ {nāma-rūpa}. وبيان ذلك: أنّ البوذيّة تقيم في صلب نظريتها عن النشأة البطيئة {pratītyasamutpāda} مبدأً عجيبًا، وهو أنّ الوعي لا يقوم إلا إذا اعتمد على الفرديّة، وأنّ الفرديّة لا تتقوّم إلا بالوعي، فكأنّهما ينشئ كلٌّ منهما الآخر، ولا يتحقّقان إلا في تزامن دائريّ، وهذا – كما لا يخفى على الفطن البصير – من أوضح المصاديق للجدليّة الدّائرية التي يقيمها مايكلستايدر بين الادّعاء المعرفيّ والفعاليّة الإراديّة، إذ كلّ قول «أنا أعلم» عنده ليس إلا قولًا مضمرًا: «أنا أريد أن أكون عارفًا»، وهو في جوهره: «أنا أشيّد ذاتي باعتباري عارفًا»، فتكون المعرفة إنتاجًا للذات من خلال رغبة إثبات الذات. وهذا بعينه هو الموقف البوذيّ من وعي الإنسان، فهو ليس شيئًا سابقًا على التّجسيد {nāma-rūpa}، بل ينشأ عنه، كما أنّ التجسيد لا يكون إلا بفضل شعاع الإدراك الذي يفعّله. وهكذا يظهر أنّ كلّ وعي هو وهْمٌ مقنّعٌ بتجسيد، وأنّ كلّ تجسيد هو توهّمٌ لإدراك، كما أنّ عند مايكلستايدر كلّ معرفة هي رغبةٌ، وكلّ رغبة هي تمثيلٌ معرفيٌّ. وإذا أردنا أن نبسّط هذا المفهوم – على ما فيه من تعقيد – فقد نشبّهه بما شبّهوا به في البوذيّة، أعني: شبه اللهب. فاللهب – كما يقولون – لا يوجد إلا مادامت المادّة القابلة للاشتعال موجودةً، وكلّ لحظة من لحظاته ليست ذاتًا قائمةً، بل هي تجلّ لحالة حراريّة مؤقّتة تحضّر للحظة التوهّج التالية، وهكذا يكون اللهب في سيلان مستمرّ، لا جوهر له، بل هو تداخلٌ مستمرٌّ بين قوّة حالّة ومادّة محتملة. وكذلك الأمر عند مايكلستايدر، فإنّ الوعي لا يدرك موضوعًا إلا بإرادة خفيّة تستبطنه، وهذه الإرادة لا تنبثق من ذات ثابتة، بل من سيرورة خطابيّة تعيد إنتاج ذاتها في كلّ لحظة، تمامًا كما يعيد اللهب بناء نفسه من خلال احتراقه الآنيّ. فكلّ لحظة وعي هي، بحسب هذا التشبيه، درجةٌ من الحرارة النفسيّة التي تعدّ الأرضيّة لما بعدها، ولا يتوقّف هذا الاشتعال إلا بانعدام المادّة الخطابيّة التي تغذّيه، أعني: الرغبة في تثبيت الذات بإزاء الموضوع. وها هنا يدرك النّاظر الفطن أنّ قول مايكلستايدر عن المعرفة بأنّها تجسيدٌ للإرادة، لا يختلف في جوهره عن قول البوذيّ بأنّ الوعي ليس كيانًا في ذاته بل علاقةٌ مشروطةٌ بالوجود المتعيّن. بل إنّ الفرق بينهما – إن وجد – فرقٌ في التعبير لا في المضمون؛ فحيث يستعمل مايكلستايدر لغة الحداثة الراديكاليّة، يستعمل البوذيّ لغة السّريان واللاشخصيّة؛ وحيث يتّهم الأول المعرفة بأنّها تمثيلٌ لإرادة مضمرة، يتّهم الثاني الوعي بأنّه وهمٌ ناتجٌ عن الجهل بالأصل الخالي {śūnyatā}؛ فكأنّهما يلتقيان – من جهتين متقابلتين – في أنّ لا جوهر للذات، ولا حقيقة للتمثيل، ولا استقرار لما يدركه الإنسان من ذاته أو من العالم.

ثمّ إنّ مايكلستايدر، إذ يخوض في تحليل البنية المضمرة في القول، لا يجعل من الجملة المباشرة {كقوله: «هذا هو»} تقريرًا بريئًا عن واقع موضوعيّ، بل يستخرج من ظاهرها المعجون بالبداهة، باطنًا يكتنز كلّ عقد الخطابة ومفارقات الإقناع، فيقول – وهو محقٌّ في تقويضه – إنّ الموضوع الذي يؤكّد بوضع مباشر ليس له من حقيقة إلا إذا أعيد توطينه في مقام أعمق، ألا وهو الوضع الضامّ {connettivo}: أي الإسناد الضمنيّ الذي يجعل القول ذاتيّ المرجع، بحيث يكون المتكلّم فيه فاعلًا وموضوعًا في آن واحد. وبيان ذلك أنّ قول القائل: «هذا هو» ليس إلا قشرةً ملساء تخفي تحتها قولًا أعمق: «أنا أعلم أنّ هذا هو»، وهذا – كما لا يخفى على المحقّق – إسنادٌ مزدوجٌ: من جهة إلى الموجود، ومن جهة إلى الذات التي تنشئ الإسناد. وهذه الازدواجيّة هي ما يسميه مايكلستايدر الوضعيّة الضامّة، لأنّها تضمر في داخلها المعنى الاستبطانيّ للتمثيل، أي: أنّ كلّ قول عن الواقع إنّما هو في ذاته قولٌ عن الذات المدركة، فهي التي تقيمه وتثبّته، وتعطيه معنًى من خلال وضْعها الاعتباريّ، لا من خلال تطابقه مع واقع مفترض مستقلّ. ومن هنا، يستخرج نقده للمعرفة ذاتها، فإنّ كلّ إدراك لغويّ هو في حقيقة الأمر تمثيلٌ ذاتيٌّ، يتوهّم فيه المتكلّم أنّه يحيل على العالم، في حين أنّه يعيد إنتاج ذاته بوصفها مركز الخطاب. فاللغة – عنده – ليست مجرّد وسيلة لإحالة موضوعيّة، بل هي آلة مداهنة ذاتيّة، تقيم الذات بها مقام المرجع، وتجعل من قولها قولًا عن الوجود وهو في ذاته قولٌ عنها. وهذا ما يشرحه مايكلستايدر حين يجعل البلاغة تعريفًا آخر لـ “المعرفة المؤسّسيّة”، أي تلك التي تؤسّس في وعي جماعيّ، وتقال بضمير الجمع: «نحن نعرف»، وهذا القول في ظاهره إحالةٌ معرفيّةٌ، وفي باطنه إثباتٌ لفرديّة جمعية وهميّة، تتظاهر بالتماهي مع الحقيقة وهي في واقع الأمر تثبت وجودها عبر القول لا عبر التحقّق. وهنا تظهر المفارقة: المعرفة ليست سلّمًا إلى الجوهر، بل ستارٌ يغطي فراغ الذات التي تطلب الجوهر عبر الوسائط الخطابيّة. وفي هذا الباب، يصل مايكلستايدر إلى نقطة تغدو فيها المعرفة أسمى أشكال المداهنة الذاتية، إذ لا تنتج عن استنارة داخلية أو انكشاف أنطولوجيّ، بل عن استجابة نفسيّة لحاجة التّماسك الذاتيّ، فـ القول المعرفيّ لا يثبت الموجود، بل يقنع الذات بذاتها من خلال تمثيلها له. ولهذا السّبب بالذات، يرى مايكلستايدر أنّ نقد الفلسفة لا يسبقه إلا نقد اللغة، لأنّ اللغة هي الأصل الذي منه تشتقّ كلّ ميتافيزيقا، وكلّ تصوّر للعالم يبدأ من الكلمة، والكلمة – في أصلها – ليست تسميةً بريئةً، بل افتراضٌ مضمرٌ لمعنى كونيّ متوهّم. وإنّ هذه الكلمة، في تحقّقها الخطابيّ، لا تدلّ على شيء ثابت، بل هي – على التحقيق – تحديدٌ للحسّ، مؤقّتٌ، متعلّقٌ باللحظة والناطق، ومن هنا، يظهر أنّ اللغة لا تكشف عن الحقيقة، بل تعيد تمثيل الرغبة في القبض على الوهم. وبهذا يتّضح عنده أنّ الخطابة، وهي جوهر اللغة البشرية، تخطئ حين تقيم محلّ الإدراك الملموس جوهرًا معرفيًّا ثابتًا، في حين أنّها ليست إلا إبدالًا لصيغة شعوريّة بجوهر متوهّم. فـ القول: «هذا هو» ليس برهانًا على الواقع، بل هو تقريرٌ مشحونٌ بالاحتياج إلى أن يكون الواقع كما نريده أن يكون. وهنا نبلغ إلى جوهر المأساة عند مايكلستايدر، فإنّ اللغة التي نقيم بها وعينا هي ذاتها ما يفسد علينا الإدراك الأنطولوجيّ للحقيقة، ويحيل كلّ معرفة إلى خطاب، وكلّ خطاب إلى تمثيل للذات في وحدتها المفقودة. وهاهنا، يدرك المتفطّن أنّ المعرفة لا تنقذ الذات، بل تغذّي وهم خلاصها، وأنّ أصل السقوط الإنسانيّ هو في انفصال الكلمة عن الموجود، وإقحام الذات في وسط القول، وكأنّ كلّ نطق هو اعترافٌ ضمنيٌّ بالفقد، وكلّ معرفة هي قناعٌ يخفي هوّة الجهل بالذات وغياب التّحقّق بها.

ثمّ إنّ مايكلستايدر، إذ يؤصّل لمنطقه النّاقض لأسس المعرفة الخطابيّة، لا يجعل من اللغة مجرّد وسيلة ناقلة لمعنى مفترض، بل يكشف – كاشف المستور – أنّ لغة الذين لا قناعة لهم هي تمويهٌ في ثوب كشف، ووهمٌ في مقام وجود، بل هي تحويرٌ مستديمٌ – من حيث لا يشعرون – لخوف أنطولوجيّ أصليّ: خوف الموت؛ هذا الخوف، وإن احتجب تحت حجاب التأويلات المعرفيّة والمؤسسات الرمزيّة، فإنّه – كما بيّن – حاضرٌ كالحمّى الكامنة في الدم، لا ترى ولكن يستدلّ على أثرها من رجفان الخطاب واضطراب الدعوى. ومن هنا ينشئ مايكلستايدر تأويله العميق لنفسيّة الإنسان المقنع بالخداع الخطابيّ، إذ يرى أنّ اللاوعي عنده متكوّنٌ من خوف دفين من الموت، في حين أنّ الوعي الظاهر عنده مبنيٌّ على وهْم الاكتفاء الذاتيّ. وهذا الاكتفاء – في بعده النفسيّ – يؤسّس لمطلب مطلق، ظاهره العلم وباطنه الحاجة إلى الاستمرار. هكذا تتوهّم النّفوس أنّ في المعرفة تجلّيًا للحقيقة وانبثاقًا للمطلق، ولكنْ – وبحسب تحليل مايكلستايدر – فإنّ ما تقدّمه المعارف المزعومة ليس إلا أسماءً تقليديةً وإشارات وضعت بغير عناية أنطولوجية، يردّدها المثقّفون تردادًا ويقنّنونها قسرًا، ويدّعون أنّها ذات دلالة قطعيّة، وهي في حقيقتها عوائم خطابيةٌ تطفو على وجه الصيرورة. ولذلك ربط مايكلستايدر المعرفة بعمليّة التّسمية {ὀνομάζειν}، أي القول عن الشيء بما ينتزع له من علامة لفظيّة، وهذه العمليّة هي عنده مجرّد تثبيت اعتباطيّ لأصوات وعلائق في سيلان الإدراك. والمأساة التي يشير إليها ها هنا ليست فقط في أنّ الألفاظ لا تطابق المعاني، بل في أنّ الإنسان يظنّ أنّه يتملّك الحقيقة من خلال القول، في حين أنّه يحتمي بلفظ من موت يحدق به في كلّ لحظة. ثمّ يقرّر مايكلستايدر أنّ المعرفة، ما لم تكن تحقّقًا أنطولوجيًّا مباشرًا، فإنّها تنشأ من الانقسام الأساسيّ بين الحياة والمعرفة، وهذا الانقسام لا يمكن تجاوزه، لأنّ الحياة – من حيث هي – سابقةٌ على كلّ مقولة خطابية. فكلّ قول، وكلّ تصوّر، وكلّ نظام معرفيّ، إنّما هو لاحقٌ للحياة، وهي أسبق منه و أعمق وأرسخ، بل لا يدرك منها شيءٌ إلا وقد تشكّل إدراكه وفقًا لنظام المعرفة الذي فصل الذات عن العالم. ومن ههنا ينقض مايكلستايدر حتى الديالكتيك السقراطيّ – أو على الأقل تأويله له – فإنّه، وإن بدا منطقًا حواريًّا، فهو في عمقه لا يفلت من قوالب الخطابة، لأنّه لا يرتضي إلا بنفي متجدّد للمقولات، دون بلوغ قناعة حقيقيّة. فالحياة – على مثال هذا الديالكتيك – لا تتبلور في صيغة نهائيّة، بل تنشأ دومًا من رفض ما تمّ تثبيته، وهو ما يحيل كلّ حركة فيها إلى مأساة السّعي الدائم دون بلوغ. ثمّ يؤصّل مايكلستايدر هذا المعنى بمسألة جوهريّة، وهي ضرورة المطلق، فإنّ هذا المطلق – إن وجد – لا يمكن إدراكه لا بالبرهان ولا بالتصوّر، لأنه إن كان كذلك، صار جزءًا من الخطابة، فـ الحقيقة إذا تمّ تعريفها، لم تعدْ حقيقةً، بل لفظًا معرّفًا ضمن منظومة خطابية. ومن هنا نقده الجذريّ للمفاهيم التقليدية في الميتافيزيقا، كـالـمـمـيـسـيـس {μίμησις} في التصوّر الأفلاطوني، أو الكوچيتو الديكارتي.

أما الكوجيتو، فيرى فيه مايكلستايدر مثالًا على قمّة الوهم التأمّليّ، إذ لا يعني “أنا أفكّر إذًا أنا موجود”، بل “أنا أبحث عن المعرفة إذًا أنا لست قنوعًا، ولست موجودًا بوجه بارمينيديّ”. لأنّ التفكير – عنده – لا يدلّ على تحقق ذاتيّ، بل على افتقار دائم، وملاحقة بلا نهاية لمعنى لا يمكن تثبيته. فـ Cogitatio ليست تحققًا بل سعيًا، أي: نفيٌ للثبات، وبالتالي نفيٌ للوجود بوصفه واحدًا، ثابتًا، غير قابل للتغيّر، كما أراده بارمينيدس. وهنا تنشأ مفارقةٌ مزلزلةٌ: أنا أفكّر، إذًا أنا لست قنوعًا؛ وأنا لست قنوعًا، إذًا أنا لست موجودًا بالمعنى الأنطولوجيّ، فتتحوّل العبارة الديكارتية – في تأويل مايكلستايدر – من شعار للثقة العقلية إلى شهادة على غياب التحقّق. وهذه المفارقة ليست مجرّد لعب منطقيّ، بل هي نقدٌ شاملٌ للحداثة من حيث هي خطاب معرفة ينتحل الحقيقة ويفتقر إليها. فاللوغوس، إن كان يعادل الوجود كما قال بارمينيدس، فإنّ كلّ خطاب متحرّك هو نفيٌ لهذا اللوغوس، لأنّه لا يمكن للحركة أن تكون مظهرًا للثبات. وهكذا تكون المعرفة المزعومة نوعًا من المداهنة، لا في معناها الاجتماعيّ فحسب، بل في معناها الميتافيزيقيّ العميق: هي تمثيل الذات أمام مرآة الوهم، لا من أجل كشف حقيقتها، بل من أجل التوهّم بأنها قد امتلكتْها. وهكذا يتمّ مايكلستايدر بناء مأساة الوعي الحديث: مأساةٌ تبدأ من المعرفة وتنتهي عند الموت، ويظلّ الإنسان بينهما سجينًا لوهم الخطابة، فاقدًا لمعنى القناعة، لا لأنّه لم يدركْها، بل لأنّه لا يستطيع أن يسكت عنها. مايكلستايدر، إذ أدرك مغبّة تأسيس المعرفة على الكوجيتو، سواءٌ بصيغته الديكارتية التي جعلت الفكر أصل الوجود، أو بصيغته الهوسّرلّية التي طعّمتْه بمقولات القصدية والتمثيل، قد نقض هذا الأصل من أساسه، وأقام عليه نقضًا محكمًا لا يقبل التأويل. فالكوجيتو – بحسبه – إنْ كان يؤسّس للمعرفة من جهة أنّه نقلٌ دائمٌ للفكر في حركيّته، فإنّ المعرفة التي تبنى عليه لا تكون إلا حركيّةً بدورها، والحركيّة لا تنتج ثباتًا، ولا تمكّن من تحقّق وجوديّ، لأنّها – من حيث هي – مظهرٌ للصيرورة لا للكينونة. وفي هذا السياق، نقرأ عبارته القاطعة في القناعة والخطابة، إذ يقول: «إذا كان التّفكير يعني إثارة المفاهيم، التي يفترض أن تصبح معرفةً بمجرّد هذا النّشاط، فإنّي أجسّد – آنئذ – الفراغ في الحاضر، وأتخلّى عن كينونتي بسبب اهتمامي بالمستقبل؛ فالكوجيتو non-entia cogito, ergo non sum – أي أنا أفكّر، إذًا فأنا لا أكون» {صـ٧١}. وهذا، كما لا يخفى على أولي البصائر، إعلانٌ صارخٌ بأنّ “التفكير”، من حيث هو إثارةٌ للمفاهيم، لا يؤسّس للكينونة، بل يوقع الذات في الانفصال عن نفسها، ويعلن مفارقتها لها، لأنّه يدخلها في أفق التوقّع لا في مقام التحقّق. فكلّ اهتمام بالمستقبل – عند مايكلستايدر – هو خيانةٌ للحاضر، وكلّ حضور لا يكون في ذاته هو انزلاقٌ إلى وهم الإرادة، لا إلى حقيقة الوجود. ثمّ يزيد في النّقض، فيتناول مفهوم “التّقليد”، وهو – كما تقرّر – ركنٌ ركينٌ في فلسفة أفلاطون وأرسطو، غير أنّه عند الأوّل يعدّ انحطاطًا عن الفكرة الأصلية، وعند الآخر أساسًا تعليميًّا فطريًّا، يدرك به الكمال بالتّشبّه. وهنا يفارق مايكلستايدر كلا الفيلسوفين، وإن بدا أقرب إلى أفلاطون، إذ يرى أنّ الاتّباع غير التقليد، بل هو تشبّهٌ بلا تمثيل، واقتداءٌ بلا نسخ، وسيرٌ نحو المثال بلا اقتباس من مثال سابق. وعلى هذا، فإنّ طريق القناعة ليس طريقًا يسلك بخطىً مرسومة، ولا يستهدى فيه بدليل مألوف، بل هو طريق الصّمت والعزلة والصّحراء. هذه الاستعارات الثلاث – التي يكثر مايكلستايدر من التّرديد بها – ليست مجرّد رموز روحيّة، بل هي إشاراتٌ إلى أنّ القناعة لا تدرك إلا في الانفراد الوجوديّ، حينما ينفصم المرء عن العالم وعن صدى الآخرين في داخله. وهكذا، وإنْ ضرب مايكلستايدر أمثلةً – كمثال المسيح – على أولئك القانعين، فإنّه لا يقصد بها أن تتّبع على جهة المحاكاة، بل يقدّمها بوصفها إشراقات وجوديّةً فريدةً، لا تستعاد ولا تكرّر، لأنّ القناعة لا تحاكي، ولا تلقّن، بل تدرك بالصّمت في وحشة الوجود. ولأجل ذلك، فإنّه يقول – في لهجة تهكّمية ناصحة –: «قالها المسيح، لكنّهم اكتفوا ببناء الكنائس» {صـ٤}. وهذا – كما ترى – هو الطعن في صميم المأسسة الدينيّة التي حوّلت تجربة القناعة النبويّة إلى ممارسات خطابية؛ بل يجري هذا النقد – عند مايكلستايدر – على جميع التقاليد التي اختزلت الحياة في نظم معرفيّة أو أنساق مؤسساتيّة، فجعلتْ منْ حياة محمد صلّى الله عليه وسلّم علم الكلام، ومنْ خلق بوذا نسكًا مقنّنًا، ومنْ مسيرة سقراط منهجًا تعليميًّا، بل حتى منْ رؤى بوهمه خطابةً هيغليةً ممأسسةً. وهكذا يصل مايكلستايدر إلى حكم صارم، يقطع بأنّ القناعة – من حيث هي – محالٌ مأسستها، ومحالٌ تقليدها، بل محالٌ الحديث عنها دون أن تنحلّ في ذات الحديث. لأنّ القناعة لا تكون فعلًا منطقيًّا يكتسب بالتعلّم، بل حركةً وجوديّةً تنتج من احتراق الوهم، وولادة الإنسان لنفسه من خارج كلّ نظام علائقيّ. وهذا أصل المأساة في فلسفة مايكلستايدر: فإنّ القناعة – وإن كانت ضرورةً – فهي لا تدرك أبدًا في هذا العالم الذي تغلب عليه الخطابة. فالبشر – بما هم كائناتٌ ناطقةٌ – لا يستطيعون أن يسْكتوا بما فيه الكفاية كي يبلغوا القناعة؛ وكلّ حديث عنها إنّما هو – عنده – مفارقةٌ بلاغيّةٌ تضعف حقيقتها. ومع هذا، فإنّه لا يستسلم، بل يصارع هذا القدر بأداة الكتابة نفسها، فيحاول أن يبلّغ ما لا يبلّغ، ويعرّف ما لا يعرّف، وأن ينقل سكينة الصّحراء إلى عالم لا يسْكن فيه شيءٌ، فتكون كتابته – في جوهرها – مأساةً كتب عليها أن تنطق، وهي تعلم أنّ القناعة لا تقال.