قراءة الأستاذ محمد الناصري في إشكالية الردة
أحمد المهداوي/كاتب صحافي
بين النص الفقهي التراثي ومتطلبات الحداثة تبرز إشكالية مفهوم الردة، كمصطلح فقهي شاع استعماله في كتب الفقه الإسلامي، مجسدة الصراع بين القيم الإسلامية ومفاهيم حقوق الإنسان والحرية الفردية، ما يفتح أفقاً رحباً للنقاش من أجل مقاربة هذه الإشكالية في ضوء النصوص الشرعية ومتطلبات روح العصر؛ وهو الشيء الذي يدفع الباحثين والمهتمين نحو إعادة قراءة وتأويل النصوص الفقهية وفق متغيرات الواقع ومستجداته، ويحملهم على مقاربة إشكالية الردة بين حدود التأويل ودلالات التطبيق.
“إشكالية الردة والمرتدين من صدر الإسلام إلى اليوم”(1)، ماتزال مثاراً للجدل، وميداناً للنقاش، ومحلا للخلاف بين النص والتطبيق، إلى أن باتت اليوم محل تعارض بين “القديم والحديث، الخصوصية والكونية، الأنا المسلم والآخر الغربي”.
في المفهوم القرآني تفيد الردة “معنى الرجوع عن الإسلام والإيمان بعد قبولهما”(3)، إلا أن المعنى القرآني لمفهوم الردة لم يوضح ما إذا كانت الأخيرة شأناً شخصياً يدخل في نطاق حرية الاعتقاد أم أنه يعد تمرداً على الشرائع والقوانين والدولة (المسلمة)، ولم يفصل بين ردة الداعي إلى بدعته كـ (فعل علني يضر بنسيج المجتمع) والردة التي يخفي المرتد ردته ولا يدعو إليها كـ (اعتقاد باطني). وهنا تبرز التأويلات وتتعدد القراءات فيظل مصطلح الردة قابلا للتوظيف حسب غرض موظفيه.
وبين الأصوليين والإصلاحيين يتخذ هذا المفهوم مسارين؛ اعتبار الردة شذوذاً عن الحق يستوجب القتل تطهيراً للأمة لئلا ينفرط عقدها، واعتبار قتل المتحول عن الإسلام، على الضفة الأخرى، مخالفة لروح النص القرآني، الذي نحا إلى تأييد الحرية الدينية.
بين هذين المسارين يقدم أستاذ الفكر الإسلامي، بجامعة السلطان مولاي سليمان، المغرب، محمد الناصري، في دراسته لإشكالية مفهوم الردة قراءة منهجية تحليلية تقوم على تشريح مفهوم الردة والغوص في الإشكالات المرتبطة بهذا المفهوم من الحكم بقتل المرتد إلى أسبقية الحق في الاختلاف، معتبراً أن مصطلح الردة، بما يحمله من غموض في التأويل وتعدد في القراءات وتباين في سياقات التوظيف، هو من أكثر المصطلحات توظيفاً من لدن المتطرفين لتبرير قتلهم المسلمين ولقتل غيرهم، مبرزاً في ذات السياق تمثلاث الذهنية الأصولية للإسلام كمنهج حياة كامل فهو؛ دين ودولة، وعقيدة وشريعة، ومصحف وسيف، ودنيا وآخرة.
وفي خضم تشريحه لبنية الذهنية المتطرفة في تعاطيها مع مفهوم الردة، يرى الدكتور محمد الناصري أن هذه الذهنية حادت عن فهم حقيقة الإسلام وقيمه السمحة في التعامل مع المخالفين، وأن توظيفها لمفهوم الردة إنما هو نتاج للصورة المرسومة من قِبل هذه الذهنية عن الإسلام باعتباره منهجاً عاماً للحياة، ونظاماً شاملا للسلوك الإنساني، لا غنى له من سياج يحميه، ودرع يقيه.
هذا الفهم بالنسبة للباحث يشكل قدراً كبيراً من الخطورة؛ وخطورته تكمن في أنه يأتي مناقضاً لقواعد كلية ومبادئ عامة في الإسلام تدعو إلى حرية الإنسان في التدين بأي دين شاء، وحريته في الخروج من هذا الدين بعد ذلك في أي وقت أراد.
تقدم هذه القراءة تصوراً مفعماً بالثراء الفكري، يروم من خلالها الدكتور الناصري، وهو ملزم نفسه بالمنهج العلمي في البحث، إعادة فتح النقاش حول مفهوم ملتبس، تم تأويله لتوظيفه كذريعة لسلب حياة الآخر المخالف، وقد انطلق الباحث في قراءته من مجموعة من الإشكالات التي تتعلق بحرية الاعتقاد كمبدأ قرآني، إذ كيف يتزامن فعل الحرية مع الإكراه بالعقوبة على الحرية؟ وهل من الطبيعي أن يجعل الإسلام وهو دين الفطرة عقوبة على ممارسة الإنسان حقه في الحرية؟ وهل الأصل في العقيدة والدين هو لحرية، بحيث يستلزم إنكارها الدليل والبرهان أم العكس؟
ونظراً لما للموضوع من أهمية بالغة، فقد توسع الدكتور الناصري في طرحه لتساؤلات شائكة، تُسائل مفهوم الردة والأحكام المترتبة عليه، كما تبحث برؤية تحليلية فيما يمكن اعتباره تعارضاً بين الردة والأحكام المترتبة عليها وبين حرية إبداء الإنسان رأيه في العقيدة التي ارتأى اعتناقها؛ إذ هل يحق للمؤمن الخروج من الإيمان إلى الكفر، أي الارتداد عن الإسلام؟ وما هو حكم المرتد في الإسلام؟ وهل هناك إجماع على وجوب قتل المرتد؟ أم هي مسألة مختلف فيها؟
هذه الإشكالات وغيرها دفعت الباحث في الفكر الإسلامي محمد الناصري إلى تشريح مفهوم الردة وما يتعلق به من أحكام، والوقوف عرضاً وتحليلا عند النصوص المتعلقة به، والكشف عن الآراء والأحكام الفقهية عن الردة، مناقشاً أدلتهم، باستيعاب وتفصيل.
_________________________
(1) مقتبس من عنوان كتاب “إشكالية الردة والمرتدين من صدر الإسلام إلى اليوم” للدكتور طه جابر العلواني.
(2) طه جابر العلواني، إشكالية الردة والمرتدين من صدر الإسلام إلى اليوم، مكتبة الشروق الدولية، القاهرة، ط، الأولى: 2006، ص: 103.
التعليقات