غادرنا إلى عالم الغيب نجيب الحصادي، الفيلسوف الذي لم يكن “نجيبا” في معنى الفضل والنّبل، كما تعرفه قواميس اللغة، فحسب، بل كان في مسلكه العميق “نجيبا” على درب العارفين، و”النجيب” أولى مقامات السالكين في مدراج المعرفة الصوفية. يعرف الأستاذ الأكبر محيي الدين بن عربي “النجباء” بأنهم من “تبدو عليهم أعلام القبول في أحوالهم، وإن لم يكن لهم في ذلك اختيار، لكن الحال يغلب عليهم”، وهو منتهى مقامات “نجيب” الحصادي مغمورا بحال الوجد يسبقه الفقد، تلوح له بَوَارِق الهداية وعليه لوائح العناية. جميعنا قرأ أخريات رحلته في كتابه “أرسان الروح”، لكن أغلبنا لم ينتبه إلى أنه ترجم قبل ذلك، في أواسط رحلته، كتاب “أرسان العقل”. ما لم ننتبه إليه أنه كان يشرح في الثاني الأول كيف رسّن عقله روحه، وكيف عرج نحو اليقين. أحصيتُ تلك الأرسان فوجدتها سبعة، لكن السادة الصوفية قالوا إن أحوال “النجيب” ثمانية، فكان مجموع أرسانه هي الرسن الثامنة: الفكاك من قيود العقل إلى ما بعده ليفيض روحه في بحر المعرفة الذي لا يُساجل.
حدثني، خلال مراسلات بيننا، أنه لقي كبار الفلاسفة وجهابذة الأساتذة في جامعات العالم وقرأ عميقا فكرهم، لكن روحه لم تزل معلقة بمجالس هي من فتحت له باب ما بعد العقل وزجت به في أنوارها. قال إنها مجالس الولي العارف الصوفي سيدي الشيخ المكي حسان الدرناوي، شيخ الطريقة الخلوتية في درنة. لقيه شابا فجنى حصاد عمره النفيس من روح مجالسه، فكلام الشيخ ظل نسائم للروح وذوق الوجد الذي لم يفتأ يبحث عنه.
لطالما أرهقت “نجيبا” العبارة، فَنَحَتَ مفرداته الخاصة وكابد لرسم لغة تواكب أسراره، كان كثيرا ما يضمن كلام “النفري” في مكتوباته، أذكر منها: “كلما اتسعت الرؤية ضاقت العبارة”.
عرفته متأخرا عبر أعماله، فأول ما شدني ترجمته لكتاب “مقصد المؤلف” الذي شارك في تأليفه تلميذه د. العارف النايض، ثم توالت المراسلات بيننا، والمراسلة مجالسة، تفتر أحيانا وتنشط أخرى.
وفي فبراير الماضي، حال السفر بيني وبين لقائه في طرابلس، وكان وقتها يشرف على لقاء دراسي حول الترجمة، فبعثت إليه بهواجسي حول عوائق الترجمة وأزمة “الترادف” الذي أفسد به الشعراء – الثرثارون منهم وما أكثرهم – لغتنا المجيدة، فأجابني بقبول اعتذاري، وختم قائلا: “أنت محق في أهمية موضوع الترادف”، واعدا بعقد مناسبة علمية خاصة لمناقشة هذه القضية.
اليوم، وقد انفك من قيود “أرسان العقل”، أتذكر كلماته الأخيرة في مايو الماضي عندما كتب لمريديه ومحبيه، عبر منصته على فيسبوك، في يقين قل مثيله: “صعوبة الكلام والكتابة ستحول دون عرفاني بصادق مشاعركم”، لقد اعتذر عن صمته، لكننا نعرف أن روحه المطلقة الآن تراسل من ائتلف روحه بروحه.
رحم الله نجيبنا الذي لم يكن له خيار في مقام النجباء، كان يُقاد بنور اللوائح بين الفقد والوجد، كان يَجِد ولا يَجُود، لكنه الآن يَجُود دون فقد. غادر الجسد لكنه بث روحه في كتبه الشاهدة على سير بدأ بالعقل وانتهى بالروح.