23 مايو 2025 / 21:01

في جوازِ ارتحالِ “نظرية الأحوال” من معارجِ الكلامِ إلى مداراتِ الفيزياء

طارق هنيش

اعلم ـ أرشدك اللهُ إلى أسرارِ الحكمةِ وأمدَّك بنورِ التبيُّنِ والتأمُّلِ ـ أن القولَ في تطبيقِ نظريةِ الأحوالِ على الفيزياء المعاصرة، وبالأخصّ منها ما يعنّ ويتجلّى في مبحثِ الكمّ، قولٌ مُزلزِلٌ لأساساتِ التمذهبِ المادِّيِّ، ومزلزلٌ كذلك لركائزِ الرؤيةِ الحِسيَّةِ الخالصة، وإنْ أُفرِغت في قوالبَ رياضيةٍ ومشاهدَ تجريبية. وهو قولٌ لا يتهيَّأ لذي ذوقٍ سطحيّ، ولا يُفتَحُ بابُه لمن لا يدري مواقعَ الاصطلاحاتِ في علم الكلام، ولا يحسنُ التصرُّفَ في المراتبِ الذهنيةِ بين الوجودِ والعدمِ، وبينَ الحقيقةِ والإضافة، وبينَ الثبوتِ والتحقّق.

وإنّما نبدأ فنقول: إنّ النظام ـ وهو من غُررِ أهلِ الاعتزالِ وحُذاقِ أهلِ النظر ـ قد أسّس نظريته في الأحوالِ على قاعدةٍ دقيقةٍ، وهي أنّ للأعيانِ أحوالًا لا يجوز عدُّها أعيانًا ولا يجوز نفيها نفي المعدومات، بل هي “ثبوتيّاتٌ” من حيثُ المعنى، “لا وجودية” من حيثُ الذات، قوامها التعلّق والانفصالُ عن مقولةِ الجوهر والعرض. وهذه النظرية ـ كما قيل ـ إنما خرجت سدًّا لخللٍ منطقيٍّ في مقولةِ الصفاتِ، وتوسعةً في ميدانِ التفريق بين ما يكونُ “من الشيء” وما يكونُ “في الشيء”، وما لا يُعقَلُ إلا به، دون أن يكونَ ذاتًا له. والآن، إذا تأمّلتَ في معضلةِ الفوتون، وهو جسيمٌ كموميٌّ تتردَّدُ حقيقته بين التموجِ والتجزؤ، لوجدتَ أنَّ العقلَ إذا طلبَ تحقيقَ حالته، اصطدمَ بثنائيةٍ عصيّةٍ على القبولِ في منطقِ الكثافةِ الكلاسيكية: أهو موجة؟ أهو جُسيم؟ بل أهو “متحقّقٌ” في حالِ الرصدِ، أم هو “ممكنٌ” إلى أن يُرصَد؟ وهذه المراتبُ ليست مما يُفهَم في ضوءِ المقولاتِ الأرسطية، ولا في تصورِ الجوهرِ الذي لا يقبلُ الاجتماعَ مع ضدّه في حالٍ واحدة، ولا العرضِ الذي لا يستقلّ بنفسه ولا يتعدّد في آنٍ واحدٍ على موضوعٍ واحد. هنا تُفتحُ علينا أبوابُ نظرية الأحوال، فنقول، وبالله التوفيق:

إنَّ حالَ الفوتونِ في طورِ الكمّ حالٌ ثبوتيّ لا يدخل في بابِ الموجوداتِ المحسوسة، ولا هو من المعدوماتِ المهملة، بل هو من قبيلِ ما يكونُ في حكمِ الحالِ المجرّدِ، القائمِ مقامَ الواسطةِ بين التحقُّقِ والإمكان، بين العيانِ والغيب، وهذا عينُ ما أصّله النظّام. وإنّ التفسيرَ الكموميَّ الذي يركنُ إلى “دالة الاحتمال” لا يقولُ بالتحقُّقِ الفعليِّ، بل بالانبساطِ الاحتمالي، وهو لا يخبرُنا ما الذي هو كائنٌ الآن، بل ما الذي يُمكن أن يكون عند الرصد. وليس هذا إلا تأصيلاً فيزيائيًّا لمقامِ “الحال”، على نحوٍ لا يُفهم إلا إذا جُرِّدتَ من أوهامِ الزمانِ والمكانِ الكلاسيكيَّين، وتخلّصتَ من قيدِ التحقّقِ الحِسّيّ الذي لا يرى إلا الموجودَ بالفعل. ولذا نقول: إن قولَ الفيزيائيّ بأن الفوتون “لا يتعيَّنُ إلا عند الرصد”، يشبهُ قولَ المتكلّمِ بأن “الحالَ لا يُتصوَّرُ إلا في العقل”، وأنه “مقياسُ التمييز” دون أن يكونَ مندرجًا تحت الوجودِ أو العدم.

ولا جرمَ أن الموجةَ ـ بحسب تجربة الشقّ المزدوج ـ تظهرُ كاحتمالٍ موزَّع، تتراكبُ وتتشابكُ دون أن يتيقّنَ لها مسار، ثم حين تَرصُدُها العينُ أو يُقيَّدُ النظامُ بقياسٍ، تتبدَّى كجسيم، وقد انحلّتْ حالُ الترددِ في صورةٍ واحدة، لا لأنَّ الترددَ عدمٌ، بل لأنه حالٌ استبطنَ الجسيمَ والموجةَ معًا في طورٍ لا يَقبلُ التعيين، ثم تعيَّنَ بالرصد، كما أن الحالَ يتحدّدُ بالموضوع. وهذا بعينه ما يدلُّ عليه اصطلاح “العزل” عند الفيزيائيين، فهو تعبيرٌ مُستحدَث عن مقامٍ “غير متحقِّق” لكنه “فاعلٌ” في الظاهرة، كما أن الحالَ ليس بصفةٍ قائمةٍ ولا بذاتٍ قائمةٍ، لكنه “واسطةُ التمايز”، وبه يتوجَّه الخطاب. فإن قلتَ: إنَّ هذه مجازفةٌ عقلية، قلنا: بل هي عودةٌ للمعقولِ بعد أن ضاقَ بالمحسوس، وفتحٌ من جهةِ الاستدلالِ لما ضاقتْ به قوالبُ الرياضيات. وإن النظامَ في إحالتِه على “مرتبةِ بين الوجود والعدم”، قد سبقَ روجر بنروز وغيره ممن أقرّوا بأنَّ “الفيزياء لا تفسّر، بل تتوقّع”، أي أنها تعمل على نظامِ الأحوال دون تسميته كذلك.

فلو كان النظامُ حيًّا بيننا، لرأى في تجاربِ الكمّ برهانًا على أنَّ “الحالَ” ليس من فرضِ العقلِ المتكلّم، بل من بديهياتِ الوجودِ المتشظِّي في مرآةِ الرصد، وأن العقلَ إذ ينقسمُ بين جوهرٍ وعرض، بين موجودٍ ومعدوم، قد فاتهُ أن بينَ الطرفين مقامًا ثالثًا: هو الحال. وإذ ثبت هذا، فقد وجب القول بأن نظريةَ الأحوالِ ليست ميتافيزيقيا كلاميةً مهجورة، بل هي مناهجُ عقلٍ رفيعٍ أوسعُ من أن تُحبَسَ في تصوُّرِ الموجوداتِ التامة. وإن الفيزياءَ المعاصرةَ، إذ تئنُّ من ثقلِ التناقضاتِ وتتنازلُ عن وضوحِ التصوُّرِ لصالحِ القدرةِ على التنبؤ، فهي تفتحُ البابَ للعودةِ إلى ما كان يُظنُّ مهجورًا من فلسفاتِنا الكلاميّة. وها هو الحالُ يعودُ، لا على يدِ المعتزلة، بل على يدِ الفوتوناتِ الغريبةِ، التي ما تزالُ ترقصُ في شقوقِ الحُجبِ، بين الوجودِ واللاوجود، شاهدةً على أنَّ للعقلِ مقامًا ثالثًا، لا يُدرَكُ إلا لمن أُوتي فقهَ الأحوالِ، وأُلهِمَ صبرَ التأويل.

ثم لو سأل سائلٌ: هل صدقُ القضيةِ “أ” أمرٌ ممكنٌ للعقلِ الحاكمِ أن يُحاطَ به إحاطةَ العلمِ باليقينِ، أم أنّ ذلك موكولٌ إلى أفقٍ أعلى من التصوُّرِ الثنائيّ؟ قلنا: هذا السؤالُ ـ في صورتهِ الظاهرةِ ـ مفترضٌ لمقدّمةٍ مضمَرة، خلاصتُها أنّ كل قضيةٍ عقليةٍ إنما يُقضى فيها بأحد حكمين: إمّا الصحة، وإما البطلان، وأنّ نفيَ أحدهما إثباتٌ للآخر، وهو عينُ مقتضى قانون التناقض، وما يتفرع عنه من قاعدة نفي الثالث {tertium non datur}. غير أنّ هذه المقدّمة، عند التحقيق، مبنيّةٌ على مبدأٍ أوليٍّ مسكوتٍ عنه، مفاده: أنّ الوجودَ العقليَّ للمعنى تابعٌ للحكمِ فيه، وأنَّ نفيَ الحكمِ يستتبعُ نفيَ الموضوع، في حين أنّ هذا غير مُسلَّمٍ عند أعيانِ النُّظار، ولا يجري على أصولِ المحقّقين من المتكلّمين، ذلك أن النَّظَّام ـ وهو من أقضّ مضاجعَ المنطق الأرسطي ـ لا يرى في هذه الثنائيةِ إقليدًا للعقل، ولا ضابطًا للمعرفة، بل يردُّها من جهة الخلف، ويثبتُ أنها مفترضةٌ لا لازمة، متوهَّمةٌ لا مُتحصّلة.

ووجهُ البرهانِ في ذلك: أننا لو سلّمنا بثنائيةِ الحكمِ ضرورةً، لزم أن تكون كلُّ القضايا قابلةً للتحقّقِ القطعيّ، أو الردِّ القاطع، ولا يُتصوَّر فيها ترددٌ أو إرجاءٌ، وهذا باطلٌ ببرهانِ الواقعِ التجريبيّ في مسائلِ الفيزياءِ الكمومية، كما هو باطلٌ ببرهانِ العقلِ المنطقيّ نفسه، الذي يُقِرُّ في مبحثِ القياس الاستثنائيّ بإمكانِ التردُّد، بل وبقيامِ صورةٍ ثالثةٍ في مقامِ التوسط، بين النفي والإثبات، كالقولِ: “إذا كان أ فهو ب، وإن لم يكن أ فليس ب”، فهذا تصوُّرٌ مركّبٌ من الإثبات والنفي، لا يُحسم فيه بأحدهما. ولو سلّمنا بقولهم: لا ثالث بين النفي والإثبات، ثم واجهتنا قضيةٌ تجريبيةٌ في ميدان الفيزياء ـ كقولهم: “الفوتون جسيم”، و”الفوتون موجة” ـ ثم أثبتت التجربةُ أن الفوتون يُظهر سلوكَ الجُسيم والموجة معًا، أو يظهرُ في صورةٍ لا تنطبق على أحدهما، لزمنا أحد أمرين: إمّا أن نحكم بتناقضٍ في الواقع، وهو محالٌ، أو أن نحكم ببطلانِ قاعدة “نفي الثالث”، وهو أولى، إذ الخلفُ لازمٌ على التقدير الأول، وقد قيل: إذا لزم من القول المحال، كان القولُ محالًا.

فثبت بهذا أن دعوى النفي القاطع لا تنطبق على الموجوداتِ الكمومية، وأنّ العقلَ إذا أحاطَ بها، لم يَحِطْ بها من جهةِ القطع، بل من جهةِ الحال، أعني: التوصيف الثبوتيّ الذي لا يبلغ رتبةَ الوجود، ولا ينحدر إلى حضيضِ العدم، بل هو منزلةٌ بين المنزلتين، على حدِّ تعبيرِ النظام. وإنك لتجد الفلاسفةَ المعاصرين، من أصحاب التفسير الكموميّ، يقفون على أعتابِ هذا المقام، ولا يجرؤون على تسميته، إذ هم تارةً يقولون: “احتمال التحقّق”، وتارةً: “سلوك ذو طبيعة مزدوجة”، وتارةً: “عدم التعيُّن قبل الرصد”، وكلّ ذلك ترديداتٌ لمقامِ الحال، دون وعيٍ بنسقه المفهوميّ. ولو نظرتَ في قول كريستيان توماس كول، لرأيت أنه يسلُك في عباراتهِ مسلكًا لا يُفهمُ إلا بفرضِ الارتباطِ التبادليِّ بين الأحكام، بحيث لا تقوم قضيةٌ إلا بقيام نقيضها، وهو عين ما يعبِّر عنه المتكلمون بالقول: اللازم والملزوم متضامّان في التحقق، دون أن يكون أحدهما مستغنيًا بالذات عن الآخر، بل وجود كلٍّ منهما متعلقٌ بوجهٍ من أوجهِ الآخر، لا على جهةِ التبعيةِ التامة، بل على جهةِ الاشتراكِ في مقامٍ أعلى، هو مقام “النسبة” لا الذات.

فإذا تقرّر هذا، كان لازمًا أن نقول: إن العقلَ إذا وقف على القضية “أ”، فليس يلزمه أن يختار بين صدقها وكذبها، بل قد يُضطَّر إلى إرجائها في مقام الاحتمال الثالث، الذي هو حالٌ من أحوال التردّد، غير مقولٍ على جهة القطع. وهذا هو جوهر الفرق بين “الحكم” و”الإدراك”، فإن الحكم يستدعي الجزم، أما الإدراك فربما اقتصر على التعيين النسبي، وهو ما نسميه في منطق المتكلمين بـ المعقول الثاني الاعتباريّ. فليُعلم من هذا أنّ نظرية الأحوال لا تندرج في باب العقيدة ولا في حلبة الصفات فحسب، بل هي أداة تحليل معرفيّ تصلح لفهم الواقعِ المركّبِ، لا سيما إذا تشظّت علائقه، وانعدمت مراكزُه، وتفككت هوياتُه كما هو شأنُ الجسيمات الكمومية. وهكذا يظهر لك أن النظام، بما أسّسه من تصورٍ مفارقٍ، لم ينقض منطق أرسطو من جهة التنظير فحسب، بل سبق العلوم الطبيعية الحديثة في تصوير مقامٍ لم يكن يُتصوَّر له وجودٌ خارجَ التصوف أو التأمل المجرد، فإذا به اليوم، قائمٌ في لبّ النظرية الكمومية، معلنًا أن العقلَ إنما يحكم بما هو أوسع من الوجود والعدم، وإنما هو مُلهمٌ بمراتبَ تُدركها البصائر، وتُغيِّبها الأبصار.

لو سلّمنا مع كريستيان توماس كول بأن “النشأة التابعة” هي الإطار الأنسب لفهم الظواهر الكمومية، فإننا نكون، من حيث لا نحتسب، قد نزعنا إلى نفي الجوهر المفارق، وقلنا بامتناع قيام الشيء لذاته استقلالًا، ونقضنا بذلك أُسس “المقولات العشر” عند الأرسطيين، لا على جهة الإبطال فحسب، بل على جهة الاستبدال البنيويّ، فنُخرج “الجوهر” من مرتبة التقديم العقلي، ونجعل “العلاقة” هي المقولة الأولى، لا الثانية، بل الأصل في كل إدراك. وهذا المعنى، في جذوره، متقدم في كلام النَّظَّام، الذي أرسى دعائم نظرية الأحوال، والتي وإن اتُّهِمَتْ بكونها هروبًا من القطع، فهي عند التحقيق، ضربٌ من تَجاوُز الحَصرِ المنطقيّ، وضربٌ من “البرهان بالمُمكن المُعلَّق”، لا القاطع الملزِم. والأحوال عنده ليست وجوداتٍ حقيقية ولا أعدامًا محضة، بل ممكناتٌ ذاتيّة الاعتبار، لا تُدرَك إلا بالإضافة، ولا تقوم إلا بالغير، وهو معنى يتقاطع مع المبدأ البوذي الذي أفاض كول في شرحه، حيث لا ذات إلا في نسبتها، ولا معنى إلا في موضعه من نسيج الارتباط. ووجه التقاطع المنهجيّ بين هذا الطرح الكلاميّ وذلك التصوّر الكموميّ، أن كلاهما ينقض قاعدة “الاستقلال المعرفيّ”، ويُبطل لزوم الحكم للموضوع على جهة الانفصال، فيجعل الحكم تابعًا للقرائن لا للماهية، وللموقف لا للموجود.

فإن قلت: أليس هذا إبطالًا لمفهوم الحقيقة؟ قلنا: لا، بل هو نقل للحقيقة من كونها جوهرًا مفارقًا إلى كونها تركيبًا احتماليًا بين الذات والموضوع والسياق. وهذا ليس من باب الإرجاء في الحكم، بل هو من قبيل تعليق الحكم على تحقّق شروطه التي لا تُستقل بالموضوع، وهو ما عبّر عنه المتكلمون بالقول: “الحكم فرع التصوّر، والتصوّر تابع للتمييز، والتمييز لا يقوم إلا في علاقة”. وعلى هذا، يكون الحكم على القضية “أ” لا يَصْدُق بوصف “أ” وحدها، بل بما هي عليه في نظامها الكليّ من العلاقات. وهذا من أخصّ خصائص نظرية الأحوال، التي تُثبت الإمكان الحُكمي لا بالذات، بل بالإضافة إلى الموضع، كما نقول: “البياض حالٌ في الجسم”، أي لا ذاتٌ قائمة، ولا عدمٌ متخلٍّ، بل هو وصف قائم بالواسطة.

فإذا ضممنا إلى ذلك قول هايزنبرغ: “الذرات ليست أشياء بل احتمالات”، علمنا أن هذا المعنى هو عينه ما قرّره النَّظّام حين قال: “الحال ليس شيئًا، ولا لا شيء”، فهو وجودٌ مقيَّدٌ، لا يتعين إلا بالرصد، ولا يتقوّم إلا بالعلم، والعلم هنا ليس انعكاسًا لموضوع قائم، بل إفاضة وجودية للصفة في الذهن، على حد تعبير أبي الهذيل، بما يشبه الفيض التصوريّ عند الفارابي، وإن خالفه في الماهية. ولك أن تستبصر المفارقة العظمى في هذا السياق: فإن المتكلمين قد أنكروا قيام الصفات بالذات استقلالًا، كما أن الفيزيائيين الكموميين قد أنكروا قيام الحالات الكمومية بالموضوع استقلالًا.

فكما أن الصفات عند المتكلمين لا تُدرك إلا بالاعتبار العقليّ في محلّها، كذلك الحالات الكمومية لا تُدرك إلا حين تقترن بالقياس، بل ربما قيل: إن الرصد في فيزياء الكم أشبه بـالنظر الكاشف في علم أصول الدين، الذي لا يُوجد الحكم بل يُظهره، كمن يكشف الستار عن حالٍ كان كامناً في الإمكان. والطريف العجيب أن فيتغنشتاين، الذي أُثِر عنه النفور من الغيبيات، قد صار إلى تقرير صورةٍ كلاميةٍ ـ وإن في زيّ نقديٍّ ساخر ـ فقال: “إن الاعتقاد بكمال قوانين الطبيعة أقرب إلى إيمانٍ دينيٍّ منها إلى معرفة علميّة.”

وهذا بعينه ما صرخ به النَّظَّام في وجه الأرسطيين: “أنّى لكم أن تحصروا الوجود بين النفي والإثبات، وهو دائر في مراتب الإمكان، لا في أحكام التناقض”! وإذا شئت أن تردّ قولهم بمقياسهم، فقل: إن كل من قال بوجودٍ مستقلّ للمعنى أو للحكم أو للموضوع، فإنه يقول بقولٍ يستلزم نفي النسبية، وهذا اللازم باطل، لأن الواقع التجريبي والعقلي معًا يثبتان النسبية، فيبطل الملزوم. وهذا هو برهان الخلف، فاستمسك به، فهو من عُدَّة المتكلّمين وأسلحتهم الماضيات. أما قول بوهر: “لا يوجد عالم كمومي مستقلّ، بل توجد فقط أوصافنا له”، فهو من تمام الحُجّة، إذ هو اعتراف بأن الواقع الإمكانيّ لا يُدرك بذاته، وإنما باعتبار تمظهره في شبكة الحكم البشريّ. ومثل هذا القول، عند المتكلّمين، يُصنَّف في باب نفي الوجود الذاتيّ للعرض، إلا في محلّه المعقول، وهو ما عبّر عنه السكاكي في “مفتاحه” بقوله: “الصفة لا تُدرك إلا إذا اقترنت بموصوف، والعلم بها لا يكون إلا من حيث هي نِسبةٌ، لا من حيث هي كينونة”. وعليه، فإن القول بالأحوال، عند النَّظَّام، ليس ضربًا من الترف العقلي، بل هو نموذجٌ معرفيّ، يكافئ ـ بل يسبق ـ النظريات الكمومية الحديثة، ويرتقي فوق ثنائية الذات والموضوع، ليُثبت أن الوجود المعقول شبكيّ البنية، احتماليّ الحكم، تعليقيّ الإدراك. وبهذا يتقوّض المعنى التقليدي للجوهر، وتنهار دعائم الكينونة المنفصلة، فيغدو الكونُ لا كتلةً من الموجودات، بل نسيجًا متراصًّا من الأنساق المُحتملة، المتعيّنة بالرصد، والمقيّدة بالسياق. وهو معنى أرقى، وأدق، وأصدق تمثيلًا لمسار الفكر البشريّ، مما توهّمه أرباب المنطق الصوريّ في صيغهم القاطعة، التي لا تقبل التعدد ولا التداخل. فثبت بما لا يدع مجالًا للريب، أن نظرية الأحوال، كما أرساها النَّظَّام، وحقّقها المتكلمون، هي جسرٌ مفهوميٌّ يصل بين الكلام والفيزياء، بين الإمكان المنطقيّ والإمكان الكوانتي، بين الإدراك العلائقيّ والتجلي السياقيّ، فلا يُستغنى عنها في فهم الوجود، ولا يُستغنى عنها في نفيه.

إنّا إذا اعتبرنا “الأحوال” في نظر النَّظَّام، لم نعتبرها من قبيل المقولات الجوهرية، ولا من فئة المعقولات الثانوية، بل من قبيل ما لا يُتصوّر قائمًا بنفسه ولا متّصفًا بغيره استقلالًا، بل ما لا يعقل إلا بالإضافة، ولا يُتوهّم إلا في مقام الارتباط. وبهذا الاعتبار، فإنها ليست ذواتًا قائمة، ولا أعراضًا منفصلة، بل كيفيةٌ مخصوصةٌ لا تُدرَك إلا في حال الاجتماع بين العلّة والموضوع، أو لنقل: بين الذات والحال. فهي—على التحقيق—لا تدخل في حيّز “ماهيّ هو؟” وإنما في حيّز “بِمَ هو؟” أو “كيف هو؟”، فيُعلم بها الشيء لا من جهة ذاته، بل من جهة اختصاصه بما هو خارج عنه ممّا يصير به على صورة مخصوصة. وهذا النوع من الكيفيّات، إذا أُحسن تفصيل القول فيه، تبيّن أنه أقرب إلى “المعاني المنتزعة” عند المتأخرين من المناطقة، ولكن لا من جهة كونه مفهوما كلّيًا يتعلّق به التصوّر، بل من جهة كونه ضربًا من “التعلّق الوجودي” الذي لا يُعقل إلا مع قيام الطرفين معًا، كما أن الإضافة لا تُتصوّر إلا بمتضايفين، ولا يُعقل الاتصال إلا بين متماسين، ولا يُقال “في” إلا إذا كان ثمّ ظرفٌ وظرفٌ فيه.

وعليه، فإن الأحوال—بهذا الاعتبار—ليست عللًا فاعلة، ولا شروطًا سببية، ولا جزئيات انفعالية، بل هي وجوهٌ من الوجود التعلّقيّ، يجتمع فيها مفهوم “المُمكن” مع “المتوقّف”، حيث لا يتحقّق الشيء إلا إذا تحقّقت له شروط المقارنة والتقارن، لا بالضرورة الطبيعية، بل بالامتناع بالغير، على نحوٍ لا ينحلّ فيه التلازم إلى تعاقب، بل إلى تداخل وتمازج، يقتضي أن يُعلم كلّ طرف بما هو من الآخر، لا بما هو من ذاته فقط. فإذا سلّمنا بذلك، لزم أن نُعيد تأويل الظواهر الكمومية في ضوء هذا الفهم: إذ ليست “دالّة الموجة” شيئًا قائما بذاته، بل هي—من حيث التحديد الكمومي—حالٌ من أحوال الجسيم، كما أن “انهيارها” ليس انتقالًا عرضيًّا، بل تحوّلًا كيفيًّا جوهريًّا من حال الإمكان إلى حال التعيّن، على وجهٍ لا يُتصوّر فيه تعيّن الجسيم إلا مع اقتران النظر، ولا يُعقل فيه وقوع الرصد إلا مع تحوّل الهيئة.

وهذا، على ما فيه من الدقة، يُشبه قول النظّام: إن الأحوال لا تُعقل إلا في الإضافة، وأن الفعل لا يتحقق إلا بوجود القابل، لا بمعنى السببية الآلية، بل بمعنى استلزام الصورة لمحلّها. فكما أن “السير” لا يوجد من حيث هو، إلا بوجود “السائر”، و”السائر” لا يوصف بالسير إلا بتحقّق حال السير، كذلك نقول: إن الجسيم الكمومي لا يُقال فيه “موجود في الموضع الفلانيّ” إلا إذا حصل الرصد، والرصد ليس ملاحظًا خارجيًّا فقط، بل فاعلٌ في تحقق الصفة، وصانعٌ في توليدها. وههنا نعود إلى أصل المسألة، فنقول: إن كلّ تصورٍ للواقع الفيزيائي، ما لم يُراعِ هذه الأحوال التعلقيّة، سيفضي إلى توهّمٍ جوهريّ، يُعيد الواقع إلى جوهرٍ متعيّنٍ في ذاته، مستقلٍّ عن الذات الملاحظة، مخالفًا بذلك مقتضى النظر الدقيق، الذي يُثبت تداخل العلّة والمعلول، وامتناع الاستقلال الوجوديّ لأحدهما عن الآخر. وهذا هو نفس ما نبّه عليه النظّام، حين نفى أن تكون الصفات ذواتًا مستقلة، وأثبت أنها أحوال لا تقوم إلا في النسبة، ولا تتحقق إلا في المقارنة.

فإذا بلغ الأمر هذا المبلغ، لزم عنه أن تُعاد صياغة مفهوم “الواقع” ذاته، لا بوصفه معطًى موضوعيًّا متعاليًا على النظر، بل بوصفه تركيبًا علائقيًا يُستمدّ وجودُه من التفاعل بين الإدراك والمُدرَك. وهنا يُلتقى قول النظّام بقول هايزنبرغ، ويفضي كلاهما إلى وحدة في البنية الأنطولوجية، تُجمع فيها الكثرة في وحدة، دون أن تُمحى، وتُصهر الفروق في نسيجٍ واحد، دون أن تُلغى. وإذا ثبت أن لورينز قد قرّر في تنظيره أن المفاهيم الرياضية لا تتقوّم بذاتها، ولا تنال حظًا من الوجود إلا على جهة التعلق بنظام رياضي مخصوص، علمنا أن هذه المفاهيم لا توصف بالوجود التام، ولا بالعدم المحض، بل هي على حدٍّ وسط، كالممكن من حيث هو ممكن، لا من حيث رجح أحد طرفيه.

وهذا بعينه مما قرّره النَّظَّام في مذهبه من الأحوال، إذ لم يُجرِ لها حكم الموجود ولا المعدوم، بل أثبت لها حظًّا من التعلّق الاعتباري، وجعلها أعيانًا لا ذواتًا، ومعاني لا جواهر، لا قوام لها في الخارج، وإن تعينت ذهنيًا بوجه ما. فكل من النَّظَّام ولورينز قد خالف مذهب المشائين الذين لا يثبتون إلا الجوهر والعرض، ولا يعرفون واسطةً بين العدم والوجود إلا بالتحيل. ثم إن هذا الاشتراك المفهومي لا يُعدّ اتفاقًا في مجرد العبارة، بل يدلّ على تقابلٍ في أصل النظر، واتحادٍ في جهة الاعتبار، فكل منهما قد عاين أن في الكون طبقةً من المفهومات لا تجري عليها مقولات الوجود بمفهومها الكلاسيكي، بل تحتاج إلى جهاز إبستمولوجي جديد يصف مقاماتها.

وههنا نقول: لو كانت الأحوال كما زعم بعض المتكلمين من قبيل المعدومات، لما صحّ جعلها مناطًا للصفات، ولا تعلّقًا للأفعال، لأن المعدوم لا يصح أن يكون محمولا عليه، ولا أن ينطوي على اعتبار التخصص. ولو كانت المفاهيم الرياضية من قبيل الموجودات المحضة، لما احتيج إلى نسبتها إلى نماذجها، ولا جاز أن تختلف دلالتها بتغير سياقها الرياضي. لكن الحق أن كلاهما {أعني: الأحوال والمفاهيم} يجريان مجرى الاعتبار العقلي، من حيث إنهما يتوسطان بين الوجود التام والعدم الصرف، كالمحال الممكن، له صورة ذهنية ومعقولية، ولا نصيب له من تحقق خارجي. ثم إن قول لورينز بأن المفاهيم الرياضية لا تتموضع إلا في إطار نموذجها، شبيه بقول النظام إن الحال لا تقوم إلا في المحل، ولا تتصور قائمة بنفسها. وهذا يستتبع أن لكل منهما رؤية بنيوية متعالية، لا تتعامل مع المفردات بوصفها وحدات منفصلة، بل بوصفها مقومات ضمن نظام تداخلي، يشبه إلى حدّ بعيد ما قرّره الأشاعرة في مسألة التعلقات، حيث يجعلون الصفات قائمة بذات الموصوف لا من حيث إنها ذات قائمة، بل من حيث إنها تعلّق وجودي، لا يتحقق إلا بالإضافة.

ولو أردنا تمثيل ذلك بمنطق الكم، لقلنا إن حال الجسيم حين لا يُرصد يشبه الحال الاعتباري عند النظام: له نمط من التعيّن الاحتمالي لا ينحسم إلا عند الرصد، كما أن الحال لا ينحسم في الوجود إلا عند تعلقه بموضوعه. وقد يُظن أن هذا تشبيه تقريبي، ولكن من دقّق النظر علم أن وحدة النظر بينهما ترجع إلى نوعٍ من السنخية بين الإمكانين: فالإمكان الرياضي في النموذج، والإمكان الوجودي في الحال، كلاهما لا يُردّ إلى الذهن فقط، ولا يُعلّق على الخارج الصرف، بل يتطلب نظامًا وسطًا يكون بمثابة “البنية المُمَكنِنة”، التي تسمح بالتعيّن عند الحاجة.

ولا يخفى على المتبحّر أن هذا النمط من الوجود ـ الوجود الاحتمالي أو الاعتباري ـ يشابه ما قرّره بعض المتكلمين في حال الصفات قبل التعلّق، كقولهم: “العلم قبل وجود المعلوم لا يُعدم ولا يُوجد، بل هو على حال”، وكذلك “القدرة قبل المقدور لا تُنعت بالوجود ولا بالعدم، بل على صفة”، وهذه الصفة ليست وصفًا عدميًا، بل حالًا. وقد ذهب بعض المحققين من المتكلمين إلى أن هذا النمط من الأحوال يمثل نوعًا من “الوجود الذهني المشروط”، وهو ما يقارب “الاحتمال الكمومي المشروط”، الذي لا يترجم إلى واقعة إلا عند تحقق شرط الرصد، وهو شبيه بقولهم: لا يُعلم العلم إلا إذا وجد المعلوم، فكأن الوجود (عندهم) مرهون بالشرط، كما هو المشروط عند النظار. ثم إذا بلغنا إلى مبدأ “التشابك الكمومي”، أمكننا ردّه إلى مبحث “التلازم الاعتباري” عند المناطقة، إذ يقولون: لا يمكن تصوّر الحدّ الأول إلا مع الثاني، لا من باب الاتحاد، بل من جهة التلازم الذهني. وهذا يُقارب ما قاله المتكلمون في “تلازم الأحوال”، فإنهم قرروا أن “كون الشيء عالمًا” يقتضي أن يكون “حياً ومريدًا”، لا لأن بين هذه الصفات جوهريّة، بل لأن العقل لا يتصور بعضها إلا في سياق الكل.

فكما أن الإلكترون لا يتحدد وحده، بل يتحدد بحالة قرينه، كذلك الحال لا يكتمل إلا باقترانه بما يدل عليه. وهذه المشابهة، وإن اختلفت في موضعها، إلا أن لها تلاقيًا في هيئة الاعتبار وشكل التعلّق. وأما قولهم بأن الرصد يُنتج الواقع، وأن دون الرصد لا يتحقق وجود الجسيم إلا بوصفه إمكانية، فهو مما يدلّ على أن العالم لا يُكشف إلا بمقدار ما يُستدعى، كما قرر السهروردي أن “العوالم النورية لا تظهر إلا لمستحقها”، وأن الإدراك نفسه فعلٌ كاشفٌ لا عن موجود جاهز، بل عن قابلٍ للتعين بحسب القابل. وهذا المعنى يعيدنا إلى تفسير النَّظَّام للعقل، حيث جعله قوة تنقُّل في أنحاء الوجود الممكن، لا آلةً صورية فقط، بل وسيلة انكشاف ذاتي، كما أن الكم عند الفيزيائيين لا يُرصد إلا على قدر مظهره، لا على قدر ما هو عليه.

ثم نقول: لو تقرر أن الوجود الكمّي لا يتعين إلا بالرصد، ولا يَثبُت له مظهرٌ واقعيّ إلا عند التفاعل مع جهاز القياس، كان ذلك دليلاً على أن الموجود ـ على جهة الإطلاق ـ لا يتمحض في ذاته، بل يُفتقر إلى جهة من التعيُّن، خارجة عنه من حيث هي جهة مشروطة، داخلة فيه من حيث هي لازم إدراكه. وهذا ـ وإن خالف مذهب المشائين الذين يجعلون الوجود تامًّا في ذاته، غنيًّا عن كل نسبٍ خارجة ـ فهو يوافق مذهب النَّظَّام في الأحوال، ومذهب العرفاء في وحدة الوجود، على ما بينهما من تغاير في المقصود، واتفاقٍ في جهة الاعتبار.

وبيان ذلك أن النَّظَّام لما أثبت الأحوال، لم يُرد بها ذواتًا قائمة، ولا معدوماتٍ محضة، بل أعيانًا عقلية، لا يتحقق تعينها إلا عند قيامها بموضوعها. وهذا بعينه ما تزعمه نظرية الكم في الجسيمات: فإنها لا تتعَيَّن إلا عند قيامها بمقام الرصد، بل لا تكون “جسيمًا” بالمعنى الفيزيائي إلا عند التعلّق. فبين الحال الذي لا يقوم بنفسه، ولا يوصف إلا عند تعلقه بموضوع، وبين الجسيم الكمومي الذي لا يثبت له موقع ولا طاقة إلا عند الرصد، مشابهةٌ لا تُنكَر، بل هي سنخيةٌ في جهة التعلّق، وإن اختلف المحلّ. ولو سلَّمنا أن العالم الكمّي لا يستقل في ذاته، بل يتحدد بحسب السياق، كان ذلك لازِمًا للقول بأن الوجود من حيث هو وجود لا يُدرَك إلا نسبيًّا، بل لا يُتصور إلا متقوِّمًا بسواه.

وهذا ـ عند التحقيق ـ هو لبّ مذهب وحدة الوجود، لا بمعناه الصوفي المحض، بل في مقتضاه الأنطولوجي، إذ يجعل الوجود الحقيقي واحدًا، والتعدد فيه مرآتيًّا، لا حقيقيًّا. أفلا ترى أن الجسيم الكمومي يتلبس بأكثر من حالة، ويكون في أكثر من موقع، ثم لا يُرى إلا في مظهرٍ واحد؟ فهذا بعينه ما يزعمه أهل وحدة الوجود، من أن الوجود واحد، والتعدد وهمٌ في مرايا الإدراك، وهو عين ما تشير إليه المعادلات الكمومية في تفسير “تراكب الحالات”.

فإن قيل: إنكم تسوّون بين المعاني، وتُجملون في مواضع التفصيل، فالجواب: بل نُحكِم النظر على جهة التسنين المنطقي، فإن اجتماع النَّظَّام، ولورينز، وهايزنبرغ، وابن عربي، في نفي الاستقلال التام للموجود، واتفاقهم على أن التعيُّن لا يكون إلا بتعلّق، والتقوُّم لا يتم إلا بنسبةٍ خارجة، يدلُّ على أن هاهنا قاعدةً عليا، وهي: أن الوجود ليس صفةً تامةً في كل موجود، بل هو بحسب حاله وتعلقه، وأن ما نراه وجودًا مطلقًا إنما هو وصفٌ إضافيّ، لا يتحقّق إلا بمجموع شرطه ومحلّه. ثم إن هذا يقتضي أن نُعيد تعريف “الوجود” في ضوء هذه المباحث، لا بوصفه حقيقةً قارة، بل بوصفه مقامًا تتنازعه النسب، ويتحدد بالسياق، كما أن الحال عند النَّظَّام لا يُحكم عليه بوجودٍ إلا في موضوعه، والجسيم الكمومي لا يُوصَف بموضعٍ إلا في نظامه، والذات في وحدة الوجود لا يُعقَل لها وصفٌ إلا بما ظهر منها في مظاهرها.

فصار الوجود ـ عند هؤلاء ـ وصفًا نسبيًّا، لا حقيقةً ذاتية، وهذا هو الغاية القصوى من مذهب العرفاء، والمُنتهى الأعلى من نظرية الكمّ. فإن قيل: إن هذا يفضي إلى إنكار التعدد، وردّ الكثرة إلى الوهم، قلنا: بل يُفضي إلى إثبات التعدد من جهة الظهور، ونفيه من جهة الحقيقة، كما أن الحال عند النَّظَّام تعدُّدٌ في الوصف، لا في الذات، والجسيم الكمومي تعدُّدٌ في الإمكان، لا في التحقيق، والوجود العرفاني تعدُّدٌ في المظاهر، لا في الجوهر. فالقول بوحدة الوجود عندهم ليس إلغاءً للكثرة، بل تأويلاً لها، كما أن الرصد في الكمّ ليس إلغاءً لإمكانات الجسيم، بل تعيُّنٌ لأحد وجوهه.

ثم نقول: إن ما تقرر من كون الجسيم الكمومي لا يتعين إلا بالرصد، ويظهر في مقام الإمكان بأكثر من صفةٍ، هو بعينه ما يُناظر ما قرره الأشاعرة في مسألة الصفات، إذ جعلوا الصفات قائمة بالذات، غير متعينة إلا عند التعلّق. فالقدرة عندهم ـ مثلًا ـ لا تُوصَف بخلقٍ أو إماتةٍ أو رزقٍ إلا عند التعلّق بالفعل، وإلا فهي في ذاتها صفة واحدة لا تغاير فيها من حيث الذات. وهذا هو بعينه ما يقال في الجسيم الكمومي: فوجوده الإمكاني في المعادلات لا يعيّنه بوصف، وإنما يظهر فعله بتعلقه بجهاز الرصد، فيُقضى له حينئذٍ بموضعٍ أو طاقةٍ مخصوصة.

وكذلك فإن الأشاعرة لما قالوا: إن التعلّق وصفٌ لا بالذات ولا بالصفة، بل هو نسبةٌ حادثةٌ بين القدرة والمقدور، فكأنهم يقررون أن الكيفيات الوجودية لا تتعيَّن في نفسها، بل تُدرَك بحسب علاقتها بالغير. وهذا هو بعينه ما قرره الفيزيائيون المعاصرون حين جعلوا تحديد الجسيم قائمًا على النسبة بين الموجة والراصد، لا على الماهية الذاتية.

فصار الاشتراك بين القولين في أن الحقيقة لا تُدرك إلا في السياق، ولا تُعرف إلا بالتعلّق، وهو معنى دقيقٌ يتقارب فيه الكلامي والفيزيائي، وإن اختلفت العبارات وتباينت المقاصد. ثم إذا رُدّ هذا كله إلى تقرير العرفاء في وحدة الوجود، أمكن جمع المذاهب الثلاثة في نسقٍ واحد: فإن العرفاء يجعلون الصفات عين الذات من جهة، ومغايرةً لها من جهة التعلّق، كما يجعل الأشاعرة الصفات قائمةً بالذات، ولا يتعين حكمها إلا بالفعل، كما يجعل الفيزيائيون الجسيم الكمومي لا يُدرَك إلا في صورة من الصور، بحسب الرصد، مع كونه في الحقيقة تراكبًا من الاحتمالات. فصار الوجود في المذاهب الثلاثة مشروطًا لا مطلقًا، نسبيًّا لا ذاتيًّا، واعتباريًّا لا جوهريًّا. وهذا إذا استُقري على جهة التحقيق، لَزِم منه أن نُعيد بناء “الأنطولوجيا” بأسرها، لا على أساس الجوهر والعرَض كما هو في الفلسفة القديمة، بل على أساس النسب والعلائق، والظهور والتجلِّي، والتعلّق والاعتبار. وهذا يقرّب ما بين الميتافيزيقا والكوانتم، ويجعل الغيب ليس غيابًا محضًا، بل مقامًا سابقًا على التعيُّن، لا يُنكر بالعقل، بل يطلب بالذوق، ويُستهدى إليه بالبرهان.

خاتمة الجمع والمآل:

فإذا قيل: ما الجامع بين هذه المشارب المتباعدة، والكلاميات المختلفة، والمذاهب المستغلقة؟

قلنا: الجامع أن الوجود ليس هو المعنى الثابت الذي لا يتغير، بل هو حقيقةٌ نسبيةٌ تتعين بالأحوال، وتتجلى بالظهور، وتتكثّف بالرصد، ويتحقق معناها لا بذاتها فحسب، بل بعلاقتها بغيرها، وأن العقل ـ إذا صحّت آلته، وخلص قصده ـ قادر على أن يدرك هذه النسب في تنوّعها، والذوق إذا صفا، والكشف إذا انفتح، أدرك من حقيقة الوجود ما تعجز عنه العقول المجردة. فصارت الحقيقة عند التحقيق ذاتَ مراتب، والوجود ذا أطوار، والمعرفة مشروطةً بالتجلّي، لا موقوفةً على الحصر، وأن العلم الحق هو ما جمع بين العقل والذوق، وبين القياس والكشف، على نهجٍ يصدّقه البرهان، وتشهده الشهود.

فهذا تمام المراد، ونهاية السجال، ومن الله التوفيق.

 

https://www.facebook.com/tarik.hnich.3