ذ.عبد الحق مرزوك ـ أستاذ وباحث
بسم الله، وصلى الله وسلم على رسوله وبعد، فإنه في كل مرة يصاب المسلمون في دينهم، وسيرهم إلى ربهم بشيء اِستصرخوا علمائهم، واِستنقذوا بهم، ولعله فيهم فَضِيلَة حسنة، واِلتزام رفيع أن يعرفوا لعلمائهم كل هذه المكانة الكبيرة، ويحفظوا لهم كل هذه الأَثَرَة، والحظوة والإِجْلال، وكأنهم حول رسولنا – صلى الله عليه وسلم- في حروبه يقولون – والحديث في مسند أحمد والبيهقي -: ( لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذُ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد النَّاس يومئذ بأسًا).
ثم إن أكثرهم لا يلبثون بعد ذلك الانضباط جميعا إلا قليلا ليفسدوه عليهم باستعجالهم، وتسرعهم، كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا، فلا يتركون لهم فسحة لفهم الحوادث الجديدة، ولا فرصة لاستيعابها، وتخير أسلوب تغييرها وإنكارها الملائم، ووالله لكأنهم يريدون بمجرد الاِستصراخ أن يتبعهم العلماء من غير ترو أو تفكير، وهذا من سوء الأدب، وغاية العجلة، وتزوير الأدوار التي لطالما حفظت للعلماء إمامتهم ورياستهم، وأخرت العوام إلى التابعية والاقتداء.
وليتهم على غيهم ذلك لا يزيدون. ذلك أن أكثرهم يمعنون في ظلم العلماء، فيتهمونهم بالتَلَكُّؤ والإبْطاء، ويظنون فيهم الظنونا بالعمالة والجبن لا لشيء إلا لأنهم ربما تأخروا في الإجابة والتعقيب، أو سكتوا لمصلحة غالبة، غابت عن بصائرهم، وأعيت أفهامهم المحدودة، وهذا حظهم، وهذا مبلغهم من العلم، وفوق كل ذي علم عليم.
ويبلغ الجهل مداه بهم، وخفة عقولهم أقصاها لما يلزمونهم بالرد على التافهين والمجهولين ممن لا يساوون في قسط الرجال شسع نعالهم، الذين يستطيع الواحد من تلاميذ تلاميذهم، وأطفالهم كسره وقهره، ولقد رأينا ذلك رأي العين غير مرة، وشهدناه في مواقف كثيرة، ورأينا كيف كان يغنيهم عن الظهور والطلوع، ويؤخرهم للمهمات الجسام، وهذا ما يجب أن يعيه جمهورهم، ويعون به أن عين الفقيه على الثقال، وأمهات الأمور، وأن نظرته للأمور غير نظرتهم، ذلك أن العوام غير ميالين للتأمل، ولا قادرين في الغالب على التحديد والتدقيق، ولا هم مؤهلين للحكم على الأشياء في أبعادها الثلاث.
ولذلك، فإني أجزم راسخا أن تحميل العلماء لما يصيب ديننا من الطعون والهجوم تطفيف كبير، وظلم عظيم. فلا يجب أن يتصور ذو عقل سليم أن فقيها يرضيه ذلك، أو يسره، ولا يجب أن يتصور البتة أبدا أنه يقبل به وإن سكت. وإني أزعم أن المتكلم منهم وإن قل عدده كاف كفاف النبي لأمته، ونائب عن أنداده من العلماء، وهو موجود ولله الحمد، وباق في الأمة ما بقيت فيها الطائفة المؤمنة، ولعل به يسقط عن الجميع – صادعا وساكتا – وزر الكفاية، ولهذا قال ربنا سبحانه في خليله إبراهيم – عليه السلام-: ( إن إبراهيم كان أمة ). وهذا مستغرق لعموم غيره من الأنبياء والرسل، وشامل لورثتهم من بعدهم. ولعله أيضا بصدعه مفردا يقوم مقام الساكت لسبب أو مصلحة، ولربما اِستوعب الإجماع السكوتي جميعهم من غير استثناء، وهو أصل معتبر في دين الإسلام.
ولست أدري هل سيسلك مثل هؤلاء السوقة المتنطعون في اِبن عمر -رضي الله تعالى عنهما – وهو من هو في نسبه وديانته، ما سلكوه في علمائنا المعاصرين لما يعرفوا أنه بايع الحجاج الثقفي السفاك، ويرمون إمام دار الهجرة بالعمالة كما رموا من بيننا اليوم بها لما يعلموا أنه بايع دولة العباسيين، الذين سفكوا الدماء، وقتلوا الأبرياء.
فالعالِمُ إنسان وبشر، وهو صاحب تقدير ونظر، ولذلك كان عليه مراعاة لجميع ذلك أن يُصلحُ بِقدرِ وُسْعِهِ، ويغير من دون إفساد، ولهُ – وهو الذي أناط الشارع إليه بتقدير الضرورات ووزنها – أنْ يختارَ من السُّبُلِ ما يُناسبُ طاقتهُ وظروفه، ويلائم إمكاناته وخططه من غير أنْ يُلَامَ، وهذا من رشده الفقهي، وبصيرته القوية، التي حبسها الله تعالى على أمثاله، وألزمهم أدواتها ووسائلها، التي تجعل من طلعاته دقيقة محسوبة، ومنظمة، وهو ما لا يحسنه العوام بتعالمهم، وتعصبهم، ويجهلونه بتحامقهم، وتَأَمُّعهم مع كل سيل أو ريح، ولذلك تراهم إذا تقدموا بالكلام عليهم جاؤوا بكل عجيب، ولعله ما نحا بالشافعي إلى اِستعظام الجهل في محاوره، واِستثقاله، فقال: “وما جادلني جاهل إلا غلبني”.
ولقد مثل الله تعالى لهذه الرزانة والرَّصانَة في القرآن الكريم بقصة الخضر العالم الرشيد مع مساكين البحر، لما خَرَقَ سفينتهم لِيَصْرفَ عنها طمعَ الملكِ الغاصبِ من غير أن يُوَاجِههُ أو يباشره، فاعترض عليه موسى – عليه السلام – لما لم يفهم. قال الله تعالى: ( أما السفينة فكانت لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ في الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أعيبها، وَكَانَ وَرَاءَهُمْ ملك يأخذ كل سفينة غَصْبًا).
وهذا من الفقه الديني، والتقدير الحسن للأشياء، وهو ما لا يتقنه المتعجلون من العوام، ولا يملكون من أدواته إلا النية الحسنة المفتقرة غالبا إلى الصواب، والتفهم والإعذار، الذي راعاه الله تعالى لجميع رسله لما قال على لسان بعضهم: ( إن أريد إلا الاصلاح مَا استطعت ). ولقد أحسن قائلهم لما قال:
ما كَلَّفَ اللهُ نفسا فَوقَ طاقتها ولا تَجُودُ يد إلاّ بِما تَجِدُ.
ولهذا كان واجبا على العوام أن يصبروا، ويعذروا، ويسكتوا أكثر مما يتكلمون، ويتركوا واجب النقد لمن هو أكثر علما منهم، فإنه لا ينبغي أن يتكلم في العَالِمِ إلاَّ عالم مثله، ولَا يجب أن يجرحه إلاَّ ند أو نظير.
ربنا لا تواخذنا إن نسينا أو أخطأنا، ربنا ولا تحمل علينا إصرا كما حملته على الذين من قبلنا، ربنا ولا تحملنا ما لا طاقة لنا به، واعف عنا، واغفر لنا، وارحمنا، أنت مولانا فانصرنا على القوم الكافرين، والحمد لله رب العالمين.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=17698