ذ. محمد جناي
المسار الثوري الإصلاحي ظاهرة اجتماعية ذات علاقة بتغيير الأنظمة السياسية و عبر الفعل الاجتماعي العام ،فالوجوه الاجتماعية العامة هي التي تحمل هم هذا التغيير المتدرج، مما يعني أن المجتمع منخرط بأكمله في هم التغيير وليس شريحة سياسية محدودة أو مجموعة حزبية صغيرة ، وبالمقابل فالثورة كما هو متعارف عليها هي محاولة تغيير النظام بأكمله والدعوة إلى بناء نظام جديد.
وتاريخ الثورات في العالم الإسلامي فهو طويل ، بدءاً من الخروج على عثمان رضي الله عنه وثورة أهل المدينة (موقعة الحَرٌة) ، وثورة الفقهاء بقيادة عبد الرحمان بن الأشعث (دير الجماجم)، وثورات الخوارج ، والثورات في العهد العباسي؛ كثورة النَّفْس الزَّكية ، وأخيه إبراهيم ، وحركة موسى الكاظم ، وثورة الزيدية في الرقة، ولم تتوقف الثورات ضد المماليك والعثمانيين ، ومنها ثورة علماء الأزهر الشهيرة، لكن الثورة العباسية تكاد تكون هي الوحيدة التي نجحت في إقامة دولة استمرت لقرون.
في مفهوم “الثورة”
ارتبط مفهوم الثورة جزئيا من الناحية التاريخية بمعنى سلبي؛ كثورة الزنج وثورة القرامطة ، كما ارتبط بالفشل والصلب والسجن التي هي ثمرة عدم تقدير العواقب، ولكن هذا المفهوم تعدل من خلال استحضار ثورات ناجحة أقامت دولا عريقة ؛ كالثورة العباسية ،ومن خلال الثورة على الاستعمار في البلاد الإسلامية ، ومن خلال الثورات العالمية ومنها الفرنسية والأمريكية والروسية ؛ والتي أقامت دولا ووضعت قوانين صارمة.
ولعل مما يحسن ذكره قصة “الماجنا كارتا”؛ وهي من أوائل الثورات على السلطة المطلقة للحاكم في القرن الثالث عشر الميلادي،وتمخضت عنها وثيقة عرفت بهذا الاسم، وكان ذلك في بريطانيا، وقد حوصر الملك وأرغم سنة 1215 م على توقيع الوثيقة التي تحد من سلطاته، وتؤكد على حقوق الفرد ، ومنع حبسه خارج القانون، وظلت هي المرجعية الرئيسة للمواثيق التي وضعت بعد ذلك، واستلهم الثوار الفرنسيون مبادئها ، واستفاد منها الدستور الأمريكي عام 1787م ، وكذلك واضعو الإعلان العالمي لحقوق الإنسان.
وأول ما يطرق السمع عقب كلمة (ثورة) هي كلمة (فتنة) والتي تعني تمزيق الوحدة ،والقضاء على السلم الاجتماعي ، والانتقال من الدولة إلى الحرب الأهلية أو اللادولة ، ولكن القليل من يتفطن إلى أن الحكم المستبد هو من أسس لتلك الفوضى ؛ من خلال العسف الطويل ، وحرمان الناس من التجمع. والتنظيم والتضييق عليهم،وخصوصا أن الزمن تغير والاستقرار العالمي القائم لايسمح بالفوضى الدائمة، وثقافة الحقوق والشراكة السياسية الحقيقية أصبحت تفرض نفسها ، وآلية المقاومة السلمية تترسخ يوما بعد يوم.
اللجوء إلى العنف مبدأ خطير يفتح الباب واسعا للحروب الأهلية عكس الحراك السلمي المدروس الذي يؤدي غالبا دورا إيجابيا غير متوقع حين يكون حراك شعب بأطيافه ، وليس خاصا بطائفة أو جماعة أو فصيل سياسي ، والثورات العربية أحدثت مفاجأة لكثير من المراقبين بتحرك عفوي يتطور بواسطة الإعلام الجديد ؛ الذي يمنح القدرة على التواصل والتنظيم والتعبير عن غياب أي أفق للإصلاح أو التفاوض مع وضع قائم.
لهذا لايوجد مايدعو إلى تشجيع الثورة بذاتها وخصوصا بوجود أمل في نجاح المسار الثوري الإصلاحي ، فهي محفوفة بالمخاطر ،ولكنها تأتي مثل قدر لايرد حينما يتعذر الإصلاح الجذري الجاد، وحين تسد طرق الإصلاح ، وتوقف عمليات العدالة ، ويمارس القمع ، وإن الإصلاح الجاد يستحق التضحية ،لأنه أفضل طريق تكافح به الثورة.
الثورة قفزة وليست تدرجا، أو هي محصلة تراكم طويل من النقمة ، ولذلك يقول المؤرخ الفرنسي الشهير توكوفيل بأن أخطر أسباب الثورة هي برامج الإصلاح المتوقفة أو المتعثرة ؛ لأن الناس وصلوا إلى مستوى يعرفون فيه أهمية الإصلاح ويعون ضرورته، ويرون أهمية الاستعجال والانخراط فيه، فكل تعثر أو بطء ينذر بإحباط ويأس من التغيير الذي تحاوله تلك البرامج المتعثرة.
الحكومات الواعية تقيس النبض وإذا رأت بوادر الاحتقان والسخونة الاجتماعية تسعى جديا إلى الحلول وليس إلى المسكنات ، عبر إصلاح داخلي صادق،أكثر أمانا وضمانا للمستقبل من الثورات، فمكافحة أسباب الثورة والتنفيس عن الناس بإتاحة الحريات وتوسيع مجال التعبير عن الرأي وتبني قضية المشاركة السياسية لكافة أطراف المجتمع ولو عبر برنامج متدرج ، فالشعوب التي ترى في الأفق أملا يقترب بقدرٍ يتناسب مع آمالها ، قد يقودها التطلع للحفاظ على قيم الإصلاح ومكتسباته.
بيئة الثورة هي الغضب المتراكم بأسباب: الفساد، والبطالة، والفقر، وهشاشة الأمان الاجتماعي والإنساني، وجحيمية الحياة اليومية، والحرمان الاجتماعي والسياسي، والإهانة وانعدام الحريات، وسوء تعامل الأجهزة الأمنية مع المواطن ، ولهذا فالنقمة الشعبية هي أساس التمرد وفتيله؛ولذا يغلب على الثورات الغضب وعدم وضوح الأهداف، فهي تعرف جيدا الأوضاع التي ترفضها ولا تريدها ، ولكن غالبا لا تعرف ما الذي تريده بالضبط إلا كشعارات عامة.
واقع الأمر أن الدولة العميقة عندنا تواجه هنا مشكلة مزدوجة: الأولى، توهمها أن في مقدورها التحكّم بمدى وعمق الإصلاحات التي بدأتها مع قوى التغيير التي انخرطت معها في هذا المسار الإصلاحي، والثانية، أن لديها مشكلة في فهم نوعية الإصلاحات التي يتطلبها المجتمع المغربي الشاب ، وإذا لم تستطع بناء تحالف جديد يعينها على الحكم وفق ذلك، فسوف تجد نفسها على الأرجح معلقة في الفراغ بعدما تفكّك تحالفها القديم، وهنا سوف يكون عليها إما مواجهة المرحلة الأخيرة من الدورة التي وضعها ابن خلدون للدولة والعصبية، وإما حصول أزمة ثقة وهي حاصلة الآن!
وللفقه الثوري الإصلاحي أصول أو هي بعبارة أخرى: القواعد الأساسية والمبادئ الحاكمة للحركة الثورية وهي قواعد معيارية سبعة وهي مرتبة على النحو الآتي:
أولا: الثورة لا تتم بشكل فجائي
اعتقد كثيرون عقب اندلاع ثورتي تونس ومصر ، أن الثورتين حدثا بشكل مفاجئ وغير متوقع، وقد عبر هؤلاء أيامها هذا بصيغ متعددة، عبر وسائل الإعلام التي انهمكت آنذاك في تغطية الأحداث ، حتى تقبل الناس مع تكرار الكلام والكلمات المكتوبة “فجائية الثورة” وجعلوا منها مبررا للانهيار السريع ، المدوي، للنظم الاستبدادية التي كانت في ظنهم راسخة، وفي واقع الأمر ، لم تكن هذه النظم تمتاز بأي رسوخ أو استقرار حقيقي، إلا على مستوى القشرة الخارجية التي تخفي الباطن المهترئ لها (دولة السطح).
ثانيا: الثورة عمومية بالضرورة ومؤنثة
لايصح انطباق صفة ثورة إلا على الفعل الاجتماعي العام الممثل لكافة الأطراف الاجتماعية، ولايجوز أن تنسب هذه الصفة لفعل يقوم به فريق مخصوص أو طيف اجتماعي بعينه، ولأن المرأة هي نصف المجتمع ، وتقع عليها كل موجبات الثورة على حدوث التغيير في شكل السلطة ، فإنه لايصح قيام الثورة إلا بمشاركة نسائية ملموسة والثورة إذا لم تؤنث ، لايعول عليها.
ثالثا: الثائر لشرط شخصي ، لايعول عليها
وملخصه أن الثائر الحق لا تحركه نوازع شخصية أو مطالب ذاتية، ولن يلبث أن يهدأ إذا استجيب له، ومثل هذا النوع من الناس لايعتد به ولا يعول عليه، بل هو على العموم مضر، ولكن لا يظهر أثره المريع في لحظات الحماسة الثورية ،لكنه سرعان ما يصير مؤثرا بالسلب في الأطوار التالية على تغيير السلطة ، عبر ممارسات تنعكس سلبا على المسار الثوري ، مثل: إشاعة حالات الإحباط، التشكيك، إيقاع الآخرين في شرك التشويش ..إلخ.
رابعا: لا ثورة في المطلق
الاستجابة الإنسانية للمراحل الخمس المتتالية ، المحركة للثورة ، والتفاعلات المؤثرة في الأطوار التالية عليها ، هي فعل ذهني في المقام الأول ، ولأن هناك فارقا بين وقوع (الظلم الاجتماعي/السياسي) من ناحية ، والإحساس به والانفعال من ناحية أخرى، فقد يزداد الظلم والقهر السلطوي في مجتمع جاهل تشيع فيه الخزعبلات العقائدية التي تشد أنظار الناس الآخرة ، لا الدنيا ، فلا تحدث الحالة التالية (الاحتقان) وبالتالي لايكون ثمة تظاهر ولا انفجار ولا تغيير.
غير أن المهم هنا ، هو أن الفعل الثوري في نهاية المطاف فكرة ترتبط بواقع معين ولا تحلق في الفراغ، فليست الثورة مطلوبة لذاتها، بل هي سعي لتغيير واقع معين رأى الثائرون أن الموت أهون من الصبر عليه، ولذلك لم يجبنوا عن مواجهة السلطة الحاكمة حتى وإن كان الموت يتهددهم، فالفعل الثوري إن لم يكن رشيدا وهادفا إلى غاية محددة ، فهو هيجان لا معنى له ولا يعول عليه، فشرط الثائر الحق أن يكون واعيا بهدفه، وساعيا إليه بكل مافيها من توق وشوق لواقع أفضل.
خامسا: الثائر نبيل وليس نبيا
لايصح الفعل الثوري، إلا إذا اكتسى بالرفعة والنبل ، فالثائر لا يطلب لنفسه شيئا وإنما هو حالم بالمستقبل الواعد ، وهو حزين على حال الناس في وطنه، والثائر في نفس الوقت لايفترض فيه أن يكون نبيا، وهذا الأصل من أصول الفقه الثوري ، مهم وخطير ، وقد رأينا أمثلة كثيرة لسوء النتائج عند عدم الالتفات إليه، فمن تلك الأمثلة أن بعض الذين حملوا المشعل الثوري في مصر، رأوا في لحظة حرجة أن اختيار رئيس إخواني ، خير من رئيس ارتبط بالنظام السابق، ولم يدركوا إن النظام هو كل مركب يشتمل على الأعوان والمعارضين، معا، ولولا ذلك مابقي هؤلاء المعارضون أحياء في ظل النظام الذي كانوا يعارضونه، ولايصح في مثل تلك الحالات أن يطردوا من المشهد الثوري ، ولايجب النظر إليهم أنهم خونة أو متخلفين ، لاسيما إذا أعلنوا اعترافهم بما سبق لهم من خطأ.
سادسا: الوعي والعمق وقود الثورة
لاعبرة في الثورة بعدد القائمين بها ، وإنما قياس الفعل الثوري ، يكون بدرجة وعي القائم بها ، وبمقدار عمق فكرته عن الثورة ، فالجهلاء والمغيبون والسطحيون ، وأمثالهم ، ليس بمقدورهم القيام بفعل ثوري رشيد.
سابعا: اللغة مسار ثوري
كانت الثورة المصرية آنذاك تبحث عن لغة ، فلما وجدتها ، نطقت بلسان فصيح بأنشودة الثورة المصرية: الشعب يريد إسقاط النظام.. وهي العبارة التي مالبثت بعد أيام أن تحققت أولى غاياتها ، تباعا ولا صارت مسارا وسبيلا وهدفا يعبر عن نفسه بلغة فصيحة ، مثقفة.
وختاما: تظل إمكانية إصلاح جدي يعامل الناس باحترام ومصداقية هي الخيار الأفضل، متى كان ذلك ممكنا، وثم تجارب عالمية صنعت ذلك ، ففي بلد مثل كندا وصل الناس إلى نظام ديموقراطي دون ثورات أو حروب، فالنظر المقاصدي وفقه المآلات ينظر إلى المقصد الكلي الأسمى في حفظ الحقوق والحريات ومراعاة العدالة ومكافحة الفساد وتبني هموم الإصلاح ، فإذا تم ذلك بأقل الطرق كلفة وأقربها وأقلها خسارة فهو أقرب إلى نفس الشريعة وروحها ومبادئها العامة.
ـــــــــــــــــــــــــــــــ
هوامش:
(1):د. سلمان العودة ،أسئلة الثورة الطبعة الأولى، بيروت، 2012 ، مركز نماء للبحوث والدراسات .
(2): فقه الثورة ، يوسف زيدان ،الطبعة الأولى 2013، دار الشروق ،القاهرة – مصر.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=13053