محمد فؤاد قنديل
تروي الذاكرة السلاوية، أن السيد محمد بن محمد الزعري السلاوي، كان من الساهرين على تنفيذ الطلقات المدفعية الرمضانية بفضاء سيدي بنعاشر، إسماعا لدَوِيِّها، حتى يبلغ رأب صدى الطلقات، دروب وأزقة المدينة، إيذانا بدخول الشهر الفضيل، وإعلانا بحلول أوقات الإفطار والإمساك، وإسعادا للصائمين برؤية هلال العيد الصغير، وحتى احتفاء بالعيد الكبير.
كان سي الزعري يتخذ من “بنيقة”ببرج الدموع، مأوى مؤقت، شهرا قبل دخول رمضان، إعدادا للمهمة الشريفة الموكلة إليه كأحد الطبجية السلاويين، وترجح ولادة الزعري إلى منتصف القرن التاسع عشر، على عهد السلطان مولاي الحسن الأول، وكان قهوجيا بسوق الغزل على غرار الكثير من الطبجية.
والطبجية لفظة تركية الأصل، يعني شقها الأول “طوب” أي المدفع، في حين يدل شقها الثاني”جي”على المهنة المزاولة من طرف الشخص المقصود، ومن ثمة تطلق على كل من يختص من الجند بالخدمة في سلاح المدفعية.
كانت مهمة المدفعجي شاقة ومحفوفة بالمخاطر، ما يستلزم من منفذها الخبرة بدقائق تفاصيل المكونات الميكانيكية والتقنية للمدافع، ومراسا في تنفيذ الطلقات. مهمة لن يتقنها إلا المعلمين الكبار”، ومن لازمهم مع تعاقب السنين.
ومن الـقصص الدموية في ذلك، ما رواه أحمد السوسي التناني في مؤلفه “سلا وحوانيتها، سيرة ومسار”، في سياق حديثه عن جدته، فقال : “..بعد سبع سنوات من زواجها، توفي زوجها الشيخ المادح المؤذن المعلم العربي بن الطيب أعمار بعد معاناة من مضاعفة حادث مروع، كان ضحيته عندما كان منهمكا مع أحد مساعديه واسمه الخمار، في إطلاق طلقة مدفع لم تنطلق، وطلب من الخمار أن يبرد المدفع من الكوة التي يشعل منها الفتيل، ففعل. فلما اطمأن لتبلل البارود، أدخل يده في فوهة المدفع فإذا بذراعه تقذف عبر السور إلى شاطئ البريمة.”(2). كانت هذه الحادثة كارثة بكل المقاييس، فرغم اندمال جرحه، بقي مبطول الذراع الأيمن.
كانت المدافع العتيقة المصفوفة قرب برج الدموع، المحادي لضريحي سيدي بنعاشر وسيدي عبد القادر الحراثي، محط الأنظار، ومركز اهتمام الساكنة، لدورها البالغ الأهمية، في التنبيه والإعلان عن شعائر الله. ومعلوم أن هذا النوع من السلاح، شأنه شأن السلاح الناري بصفة عامة، لم ينتشر استعماله في الجيش المغربي إلا بعد تولي الشرفاء السعديين الحكم في البلاد.
يروي سي محمد بن أحمد الزعري الحفيد، أن أجداده توارثوا هذه المهمة، وأن آخر طلقة مدفع تمت بسلا، من تنفيذ مختص سلاوي، قبل أن تنتقل المهمة لجهة أخرى، كانت سنة 1968م.
يتذكر الزعري الحفيد مراحل الإعداد والتنفيذ للطلقات المدفعية. إذ تبدأ العملية بالتخميل الجيد لسبطانة المدفع، بآلة خشبية تسمى”سطوبا” وهي عبارة عن عمود خشبي مغطى بجلد الحمل أو فرشاة ذات شعيرات، تستخدم لتنظيف برميل أو “فتحة” المدفع، لإزالة بقايا الاحتراق. ويتم فحص جسم المدفع بشكل دقيق للكشف عن أي تشققات أو تآكل محتمل. ويتم السهر بعناية على صيانة السبطانة، حتى تتحمل الضغط الهائل الناتج عن احتراق الشحنة الدافعة.
والسبطانة هي الجزء الأساسي في المدفع الذي يتم من خلاله إطلاق القذيفة، وتُصنع عادةً من سبائك الفولاذ القوي لتحمل الضغوط العالية الناتجة عن انفجار القذيفة. ويستعمل “السفود” الطويل المعروف ب “السغناس” في تسريح الثقب بالجزء الخلفي من السبطانة، كما تستعمل مادة ” المازوط ” في حسك الصدأ حتى لا تتطاير الجزيئات العالقة عند الطلقات المدفعية.
ولمعرفة نسبة البارود التي ستوضع في الفوهة، تخصص قوالب ورقية بالحجم المطلوب داخل المدفع، إذ يتم تلفيفها على شكل قوالب، وتلصق بتخليطة من العجين. وعنما تجفف تملأ بالكمية المحددة من تلك المادة المتفجرة. وعموما تتراوح نسبة البارود اللازم لكل طلقة بين كيلو ونصف وكيلو وثلاثة أرباع، وكلما زادت نسبة البارود، زادت قوة دوي الطلقة المدفعية.
وتجدر الإشارة أن المصالح البلدية المختصة، كانت تمد الطبجية بما يحتاجون من كميات البارود لمدة شهر رمضان. وكانت تخزن الكمية المتوصل بها في مخازن مخصصة لها بعناية وحراسة فائقة، ولا يأخذ منها إلا ما يكفي لطلقتي المغرب والصبح.
يدك البارود بداخل المدفع بآلة تسمى”لمدك”ربع ساعة قبل الأذان، إذ يرمى البارود بالفوهة ويدك بعناية ولين، حتى يندفع للقعر، ثم تغلق الفوهة بحزمة ورق مدكوك، بينما في الحروب تغلق الفوهة بالكور. يتم الابتعاد جانبا وراء المدفع، ويدخل “السغناس” ليصل إلى البارود، وينتظر إشارة دخول وقت الأذان. خلال هذه المدة الفاصلة، يتأنق الطبجية، بكسوة المحصور الأصيلة، المكونة من أربعة أجزاء (سروال واسع، وصدريتان يطلق على كل منهما « البدعية »، ثم السترة أو ما يسمى ب »المونطون أو المونطال أو الكبوط » وخزام واسع بسمى الكرزية.
و في بعض الأحيان تضاف جلابة بدون قب مفتوحة من الأمام من العنق لأسفل الركبة ، ويسمى هذا اللباس آنذاك بالكسوة الخماسية، وفيها البسيطة للبحارة والفخمة التي كانت تصنع من القطيفة. وتكون كل اجزاء المحصور مثقلة بالتطريز بواسطة الشرائط الذهبية، ومنمقة بسفيفة المجدول.
ها هو المصباح الآن موقد بأعلى صاري صومعة المسجد الأعظم، حينذاك تنفذ الطلقة المنتظرة بنخوة الطبجي المتمرس ، ليبلغ صدى ذويها أقصى أرجاء المدينة.
هكذا عاش سلفنا طقوس طلقات المدافع الرمضانية بأناقة المحصور ونخوة صدى الأجداد.
ــــــــــــــــ
(1):معلمة المغرب. ص5718.
(2): أحمد السوسي التناني. “سلا وحوانيتها، سيرة ومسار”. ص 12
المصدر : https://dinpresse.net/?p=23799