عِزّ العرب لحكيم بناني: عن الدرس الفلسفي في الجامعة المغربية
محمد صلاح يوشتلة
“وَلا تَكْتُمُوا الشَّهَادَةَ وَمَنْ يَكْتُمْهَا فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ”. البقرة الآية: 283
قد يَصدُق القول على ما سنقول بأنه حكاية (récit) لوقائعِ حياةٍ ما، أو أنه سردٌ يُخفي حَنينًا لزمنٍ ما، غير أن الأمر يتجاوز هذا كله، ليكون في حقيقته شهادةً عن حياة ما تزال مستمرة في إنتاجاتها وعطاءاتها، شهادةُ شاهدٍ لمشهودٍ له، شهادةٌ قد تكون مَهَمتها أن نسترجع بالضّرورة أحداثًا مضت إلى غير رِجعة، نرى أسبابًا كثيرة لاسترجاعها لأجل أن نقيم عليها صرح الشّهادة نفسه، في حق من يستحقون أن نَشهد لهم، شهادة لا تحتاج إلى أداء يمين، مخافة أن نحنث بانحرافنا بعيدًا عن طريق الصّدق، إذ لا شيء يدعونا لأن نقول، إلا ما نراه يلزم حياةَ من نشهدُ له.
لأنها شهادة، فإنها تأتي هكذا، حُرّةً؛ عفوية وطليقة، دون أن يضطرنا أحدٌ إليها، أو حتى أن يطلبها منا أحد، فالأمر إذن لا يعدو أن يكون بتعبير خ. ل. بورخيس في إحدى مقدماته لكتبه: “ليس سوى من قبيل الحظّ أن أكون كاتب هذه السّطور.”، لأني وببساطة أجد نفسي أكتب عن صاحب هذه الحياة لأن يدًا بيضاء ما تدفعني لذلك، أو لأن كلمات ما في حق هذا الشّخص تأتي من دواخلي لوحدها كَنبع ماء، أو ولأنه من بابِ أولى لنا فأولى ألّا نتحدث عن ذواتنا، خجلًا أو تواضعًا، فإننا نأخذ مَسلكًا ماكرًا بأن نتحدث عن ذوات غيرنا؛ ممن تفتخر ذواتنا من الاقتراب منهمـ فكل ذات هي في آخر نتاج عمل ذوات أخرى قريبة وبعيدة منها، في الفصل الدراسي وخارجه.
ربما اعترافًا بجميل ما لصاحبِ تلك الحياة، جميلٍ صافٍ وذكرى طيبة، لا غير، جَميلٍ لا يُغيّر من مجرى الشّهادة ولا من حقيقتها، لا من لونها اللازوردي البريء، ولا من ريحها الأشد براءة من لونها، ولا يُغرِّرُ بما سنقول لنركب أحصنة المبالغة، بل يدعونا فقط لإنصاف صاحبها، وللانتصاف لمن قيلت في حقه، وهو كذلك تحدٍّ للذات باختبار الذاكرة، وامتحانِ صُمود صُورها عمن نطرح السؤال المتكرر عنهم كلما قُطِفت سنة من أعمارنا: لماذا لم نستطع نسيانهم إلى حدود الساعة رغم مرور السنوات وبعد الأيام؟ لماذا لم تقضم أنياب النسيان لدينا طرفًا من صورتهم الكبيرة المعلقة في بهو الذاكرة؟ خاصة إن كان آخر لقاء لنا بهم يقارب العقد من الزمان، لِظروف جَرَّتها إلزامات الجغرافيا، وأَجْرَتها التزامات الشّغل، وجارَتْهما في كل ذلك التزامات تجربة أن يكون ويصير للواحد منّا أُسرة ينشغل بها وتشغله.
في كتب التّراجم والطّبقات غالبًا ما يُصادفك قولٌ يعرفه كثيرون عن حياة قاضي الجماعة أبو الوليد بن رشد، وقد يكررونه مرارًا في معرض مقارناتهم عن الولع بالقراءة بين السّلف والخلف، هو حادثة أنه أبا الوليد لم يَدَع النّظر ولا القراءة مدّة حياته إلا في يومين: يوم وفاة والده، ويوم بِنائه بأهله، ليس لأني أريد أن أُكذِّب ابن الأبّار راوي الحكاية فيما يحكيه، فالرّجل أكبر من أي تكذيب، ورُبع أخبار الأندلس تلقفناها من كتبه، ولكني كنتُ دائمًا في شكٍ متوافر من ارتباط ابن رشد اللصيق بالمطالعة طِوال حياته إلا في يوميه ذينك، ففي حياة ابن رشد شطرٌ صالح من الوقائع بالتأكيد تشغله عن كل مطالعة وتنسيه الرّغبة فيها، قَصُرَ هذا الشّك عندي يوم أن أتانا د. عِزّ العَرَب في إحدى حِصصنا معه بعد يومين فقط من غبشة وفاة والده، أي نعم ! بعد يومين فقط!، دون أن يأخذ وقته الكافي ليُكابد ويعالج حُزن فَقْد شخص عزيز. وبعد تحية لا يَخفى حُزنها، دخل القاعة، وبعد انصاته لتعازينا، تحدث بكلمات مكينة عن معاني الموت وجريرة فقْدِ من نُحب، ثم بدأ الدّرس في حيويته المعهودة، مع انقباضات حَزينةٍ لا تنفتح أساريرها إلا بانفتاحه على فكرة وتفتيح أذهاننا حولها.
بعد سنوات تكاد تُتم العّقد من الزّمن عن آخر حصة لي حضرتها عند د. عز العرب، حيث كنت أطوي أزقة “مونفلوري، فالأطلس ثم اللّيدو” على قدمي، كي ألحق حصته في ملحقة ابن البنا غير البعيدة عن كلية الآداب (ظهر المهراز.)، حصته التي لا يغلق الباب دونها في وجه أحد، مهما كان تأخره، ربما لأن لا أحد يستطيع التّأخر عنها أصلًا. لم تبق غير الذكّريات؛ ولا شيء غيرها، غير أنها ذكريات رصينة، حيّة وستظل نابضة، تعمل عملها، ذكريات بألوان خزفية لأحد خَزفيي فاس لربما، ما تزال تُلون حضورها الطّاغي، يقول ل. خ. بورخيس:
“بيدٍ قَاسية سينتزع الزّمان
الشّوارع المتشابكة في صدري
(و) لن يبقى شيء غير الذّكريات.”.
كما في عالم التّصوف لا شفتان جديرتان بالحديث عن الشّيخ غير شفتي مريديه، كذا في عالم الفلسفة لا أحد جدير بالحديث عن الأستاذ غير طلبته، ليس غرورًا، ولا رغبة في احتكار حقٍ مُشاع، ولكن لأن لا أحد مثل الطّالب تكتمل عنده صورة الأستاذ، لأن لا بروتوغوراس (Protagoras)، ولا غورجياس (Gorgias)، ولا الطاغية فيدون (Phédon)، ولا حتى ألقيبيادس (Alcibiades) يمكنهم جميعًا الحديث عن سقراط، ولا الكتابة عن حياته، وإنما الإمكان الوحيد والسّبيل اليتيم ربما للكلام عنه كان بجانب أفلاطون وحده.
نشيطٌ وخفيف الظّل، يؤدي مهمة ضبط إيقاع الأفكار وتداولها والتبشير بأهم ما كُتب الآن واللّحظة، وثقيل القّول حين يتكلم عَنها، وحينما يُفصّل تشاعيب الحديث فيها، وبالغ الانفتاح على توجهات فلسفية عديدة، بشكل يعسُر معه عليك تصنيفه، ولا تحديد هَواه والقبض على هويّته، والسّبب دومًا هو رغبته الجموحة في المغامرة في مجالات شائكة عدّة، لهذا يظل الاشتغال ضمن إشكاليات فلسفية عدة هو في الأصل هِوايتُه المفضّلة، إن لم تكن هي هُوِيّته الأصيلة الدائمة الانفلات.
ترجمةً وتأليفًا وتكوينًا ومُراجعة للعديد من الترجمات، يقف د. بناني عِزّ العَرَب بعيدًا عن التّحذلق في صياغة ولَوْكِ الكلمات والتركيب بين القضايا للدفاع عن المذاهب الفلسفية التي تصير مضطرة على يد البعض إلى أيديولوجيا مأزومة وزائفة، أو أفكارًا مُضِرة وعميقة الاضطراب، ليبقى د. عِزّ العَرَب على مسافة آمنة من انزلاقات التّمجيد المفرط والاسفاف الطّاعن، وكل ذلك مع طاقة بحثية هائلة ويقظة، وفي لغة تتداخل فيها الشاعرية بالدقة المنطقية والمفهومية مع القدرة الحصيفة والمتفوّقة على استحضار الآراء والمواقف الفلسفية، وتعميق القول عنها وفيها، حيث قد تبدأ الحصّة عنده بإدموند هوسرل (Edmund Husserl) وبأحد معانيه الخالصة، ويستقر القول عنه وعنها، أو بالتّحديد عن قول أو مقولة له، غير أنه سرعان ما تجد نفسه في خاتمة الحصة في حديث عن جاك لاكان (Jacques Lacan )، وبينهما استدعاء يستوجبه توسيع القول وتجدير أبعاد الحديث عنه لفلاسفة من قبيل بوهلر (Bühler)، ومالبرانش (Nicolas Malebranche)، ليتم العروج على برينطانو (Brentano)، وتنتهي الحصة وتعود لوحدك إلى هوسرل (Edmund Husserl)، وقد اكتشفت الطريق وخبرت التعرجات المؤدية إليه، وقد يكون الحديث عن حجج باركلي ليتجاوز هيوم ويحدثك عن فتفغشتاين وسورل (John Searle)، وقد يكون الحديث في حصة أخرى عن جون غرايش ( Jean Greisch )، ليتم جَسْر الهوّات فجأة فيصير الحديث عن امتداداته الفلسفية وجدوره، أو عن تشابهاته، فينحرف الحديث إلى حسن حنفي، بل ولربما إلى مدام دوستايل (Madame de Staël)، عبر المرور بشلايرماخر (Friedrich Schleiermacher)، ودلتاي (Wilhelm Dilthey)، تم التوقف عند ريكور (Paul Ricœur)، وغدامير ( Hans-Georg Gadamer)، لتكتشف في الأخير أن الحديث لم يخرج عن دائرة التعريف بجون غرايش، وقد يحدث أن يتم في حصة أخرى الحديث عن ذات الموضوع المناقش ذاتَ حصة سابقة لتكتشف أن الأمر ليس تكرارا لما قيل، وإنما أنت أمام طبعة منقّحة ومزيدة عن ذات الموضوع.
حِصصُ د. عِزّ العَرَب كانت تنمّ دومًا عن موسوعية فكرية رائقة وواضحة، مَكِينة ومعطاءة، وأعماله كانت تقترن دومًا بجبهات عدّة، حيث ينحاز في برنامجه الفلسفي إلى مُلاحقة كل جديد في السّاحة الفلسفية رابطًا إياه بأصوله البعيدة من زمن أوغسطين أو إلى زمن الإغريق إن استوجب الأمر ذلك، وفي المقابل وليسد ثلمة في المكتبة العربية كان يفتح جبهاته على مستوى التّرجمة، فمن محاولته التّرجمة لأعمال جماعة كونسطنس ( Constance ) مع فولغفانغ إيزر (Wolfgang Iser)، وهانس روبرت ياوس (Hans Robert Jauss) إلى ترجمته لجون غرايش، وقبل ذلك ترجمته لمماحكات ومناظرات المدارس والمدرات الفلسفية الغربية بين الألمان والفرنسيين، كل هذا في إطار لا يخرج عن المهمة التي يختارها سائر المترجمين عادة لأنفسهم، وهي ترجمة الآخر وأعماله إلى لغتهم الأصل التي يرونها دوما أكثر نقصا، وهزالة، وتهميشا، والأكثر حاجة إلى أفكار جديدة وأسماء أكثر جِدّة، ومذاهب فلسفية لم تطرق الأسماع بعد، في استلهام من المترجم لدور البطل الملحمي الرّاغب في ملء الشّروخ وسد الفجوات والخروم التي يرى أن ساحة الفكر تعانيها وترزح تحتها ثقافة أمة تحاول أن تتنصل من أميّتها وانعزالها الفلسفي عن العالم.
د. عِزّ العَرَب شجرة كَـرزٍ تثمر باحثين وطلبة حِكْمة حقيقيين، فلقد أسهم الرّجل في إنتاج وتطوين وتخريج طلبةٍ كُثُر، وبإمكاناتٍ بسيطة، فلم يكتف بلعن المشروطيات، والإشادة بالمتبرمين والاصطفاف إلى جنبهم، ولينكفئ على ذاته، وليمجد العراقيل ويركع في احترام لإرادتها، ويدخل في عزلة صوفية، بل جاوز كل هذا ليؤسس وحدة التّكوين والبحث عن “الهيرمينوطيقا والتّرجمة” زَاوج فيها بين تخصصات عدّة ومتعددة، وذلك في قاعة بالكاد تكون غرفة لمكتب موظف واحد في أحد الإدارات العمومية، واستقدم إليها أساتذة من شُعب مختلفة، ومن كليات أخرى، لتعكس هذه الوحدة موسوعيته ونَهَمَه، وولعه العميم بمعرفة كل شيء، واشرئبابه الذي لا ينتهي لحديث الفيلسوف ومشاركته في كل شيء، فكان تدريس الثّيولوجيا وعلم الجمال وأصول الفقه وعلم الكلام وسيميولوجيا النّص ونظريات الأدب في وَحَدَةٍ لها أفق انتظار واحد، غير أن كان يَجر آفاق نظرٍ أخرى قد تصغره وقد تكبره، وهو أفق تأصيل الانتماء للفلسفة بعدم التّفريط في متطلبات المنهج الفلسفي، فكان الحديث من داخل الوَحَدة عن القاضي عبد الجبار وأبي الحسن الأشعري والمكلاتي وErnst Troeltsch مع د. أحمد العلمي حمدان، متجاورًا مع الحديث عن والتر بينيامين (Walter Benjamin) وأنطوان بيرمان (Antoine Berman) مع د. عز العرب، والحديث عن أبي الحسن البصري وجياني فاتيمو (Gianni Vattimo) وأبي اسحاق الشاطبي والقول الأصولي مع د. محمد أيت حمو، وعن غريماس (Algirdas Julien Greimas) ومجموعة مو وتطبقات المربع السيميائي على حكيات فلوبير (Gustave Flaubert) وتوماس مان Thomas Mann)) مع د. شكيب التازي، وعن الرومانسيين الألمان: نوفاليس (Novalis)، وهولدرلين (Hölderlin) وشيلنغ (Schelling) وحلقة يينا (Iéna) مع د. صاندي، وذلك في نوع من التجانس ورغبة في خلق الانسجام بين ما كان يعدّ ضمن دائرة المتناقضات، وكل ذلك في سعي تابث من د. عِزّ العَرَب من أجل التأسيس لقاعدة باحثين في مَجَالات الترجمة والهيرمينوطيقا وفلسفة الدين وتجاوز القصور الذي يعانيه التكوين الفلسفي للمشتغلين بنظريات الأدب وبباقي التّنظيرات.
تجربة وحدة “التّرجمة والهيرمينوطيقا” التي خاض غمارها د. عِزّ العَرَب كانت لأبعد الحدود غريبة عن السياق الجامعي، ومستغربة من لدن الجميع لجمعها بين شعب الآداب بتلاوينها المختلفة، ولشعبة الدّراسات الإسلامية إلى جانب شعبة الفلسفة بالطبع، جمعٌ يقوم على خرقٍ (transgression) للسائد والمعتاد، لكنه يسدد النّظر بالعمل، ويجعل دعاوي الحوار لا مسألة كلام وتحذلق فلسفي ـ نظري فقط، نشدخ به رؤوس المتلقي في الندوات والأيام الدّراسية، وإنما مسألة أجرأة عَمَلِيّةٍ لآليات الحوار وتصريفٍ للدعوات المتناثرة هنا وهناك، إنها عَملية تُظهر نزوعات التواصل التي تتملّك آمال وخلفيات د.عِزّ العَرَب الفلسفية والحياتية، وتُظهر أيضًا قُدرته العَالية والمتفوقة على تجسير الهوّات والانتصار على رغبات الشُّعَبِ في تسييج كياناتها الضيِّقة بدعوى الاستعلاء الذي تنتجه العصبية القبلية ـ المعرفية من داخل كل شعبة وعند كل فصيل إيديولوجي يتحكم بتوجهات وطبيعة المواد المدرّسة، بعلة الحفاظ على أصالة التّكوين، وحفظ بيضة الإيديولوجيا وشوفينيتها، الشّيء الذي يخفي رغبات في إثبات فروقٍ في التراتبية بين الشّعب والمواد، ليكون دور د. عِزّ العَرَب هو أن يُناضل كَي لا تتحول الحدود الإدارية بين الشُّعب الجامعية إلى حدود ذهنية وثقافية تفصل بينها جدران الأبرتايد (Apartheid) العنصرية. إنه إحياءٌ آخر للدور الذي التزَمت الفلسفة به، منذ كانط بأن تتولّى القيام به، وهو دور الوساطة الموكولة إليها، أي أن تأخذ المنزلة الوسط بين سائر الشُّعب كما في “صراع الكليّات” الذي استفاض في الحديث عنه إ. كانط عن المكانة التي يجب أن تظفر بها الفلسفة بين شُعبةِ اللاهوت وشُعبة الطّب.
كُنا شُعبًا مختلفة ضمن شعبة غريبة، ننساق فيها لأكثر من سياق وتخصّص، ونمتهن فيها مهنة الرّحالة، إن كانت الرّحلة مهنة أو إن لم تكن هواية أو حتى قَدَرًا، في عطاء متبادل بين أكثر من انتماء معرفي لجمهرة المرتحلين، لا ندري فيه بالضّبط من اليد التي تُعطي ويد من التي تأخذ، في موقف لا نجد ما يفسّره به، إلا بتلك الاستعارة التي يتوسع في الحديث عنها الرّحالة ج. دولوز في كتابه عن الباحث عن الأزمنة/ والأمكنة الضّائعة مارسيل بروست، إستعارة أطرافها هي: النّحلة والوردة، إذ النّحلة بنية الظّفر بالرّحيق، والحصول بالتالي على ما تقتات به، لا تنال فقط ما يسدُّ رمقها ويجعلها تستمر في الحياة، وإنما تنقل إلى الوردة ما يمكن للأخيرة أن تفقد نسلها دونه، إنها تُخصّبها، وفي المقابل تستمر مماليك النحل بما تهبه الوردة وليس فقط بانضباط جماعة النّحل للأوامر السامية للملكة، وذلك في علاقة غير مفهومة أصلًا، لا تشعر بها النّحلة ولا حتى الوردة قادرة على فهم أبعادها القصوى، وبقدر ما تحيا النحلة على الزهرة تحيا الأخيرة على مجهود كبير تقوم به النّحلة، لتكون وحدة “الهيرمينوطيقا والترجمة” لا خلية نحل فقط، بل حقل زهور تتوّج بنفث روح جديدة في روع الفلسفة المتماوت ولتستيقظ على أسئلتها الجريئة في كذا حقول والحدائق المعرفة لتقتات وتُخصّب وتحيا.
ليُطرح السّؤال ما الذي جنته الفلسفة من انفتاحها هذا؟ وما الذي استفاده الدّرس الفلسفي من تجربة وحدة التكوين والبحث هذه؟ فبالتّأكيد أن الأمر هنا هو حديث عن محاولة تهريب الفلسفة من قبضة محاولات جعلها بنية مغلقة وقلعة حصينة، لا يستطيع أهلها أن يفكروا من خارج الصّندوق الذي حبسوا ضمنه أنفسهم، ولكن باعتبارها شكلًا معرفيًا تتنازعه أشكال معرفية أخرى، لا تهب الفلسفة وجهها النّهائي والثّابت الذي قد يقتلها، ولا يترك أمامها مجالات للعمل والقراءات المستمرة، والمستفيضة، في تكريس لفشلها التاريخي الذي حفز أفلاطون لبناء الأكايمية خارج أثينا، وفي تكريس لاستعلائها، إذ يجب أن لا نمارس الفلسفة إلا باعتبارها قصائد شعر كما ود أن يفعل هايدغر (M. Heidegger)، وكما سجّل فتغنشتاين (Ludwig Wittgenstein) في أحد ملاحظاته، برغم ما هنالك من وشاجة وشبهٍ عميق بين البحث في الفلسفة والبحث في علوم الجمال.
د. عِزّ العَرَب لم يكن بتاتًا منحصرًا في تخصص معين من داخل الفلسفة، إنه رجل التخوم والإطلالات المتوسعة، وكأن مَهَتمته هي الانتقال المستمر والترحال الدائم من داخل عالم الفلسفة بين الفلسفة التحليلية والمنطق، وبين فلسفات ما بعد الحداثة وفلسفات الحداثة، وبين الترجمة والأصول الفلسفية لنظريات الأدب، فكان إنتاجه عن اللغة وعن فتفنشتاين والواقعية البنائية وجذورها، والتأسيسات النظرية للعلوم المعرفية وللمعرفة، ولطبيعة الإدراك والفهم البشري وجذورهما، وعن الأصول الفلسفية لمدرسة جماليات التلقي، كما إنتاجاته عن برنطانو وعن أدورنو (Theodor W. Adorno) وهابرماس (Jürgen Habermas)، وإنتاجاته عن جون راولز (John Rawls) وفلسفات العدالة.
غالبا ما تنحصر بداية الحصّة عند د. عِزّ العَرَب بالرّاهن الإنساني، لتتوغل شيئًا فشيئًا إلى فترات زمنية أعمق وأرحب، في تحدٍ للحقب ومجاراة لامتدادات الزمن ورصدٍ لشعابه وتفاريعه، رغم أنه يعمل على تحقيب الأفكار وصقلها كما يصقل اسبينوزا (Baruch Spinoza)، ويشحذ عدسات عمله، ليجرّك معه نحو وجوه المشكل الفلسفي المعالج، وكي لا ترتبك الأفكار لديك، وكي لا تزداد رتابة الأمر عندك، كان يلجأ لذاكرته القوية الاستحضار ليلقي لنا بذكرى حدث وبحكايةِ واقعة في التاريخ، فالدّرس الفلسفي عند د. عِزّ العَرَب عملٌ مفتوح بتعبير إيكو (Umberto Eco)، قد يحتاج فيه لملمة طروحات أحد فلاسفة مدرسة فرانكفورت أو شيئا من توما الأكويني (Thomas d’Aquin)، لِرتق نصٍّ أو إصلاح هَفوةٍ في سِياق، دون أن يَنسدّ أو يُسد العَمل، ويُترك مفتوحًا لئلا يغلق أصلًا.
بصفاءٍ إنساني كبير، وصافٍ جدًّا يعامل طلبته، ببساطة يصيخُ السمع، وبالبساطة عينها يجيب عن أسئلتك ويتدرج إن احتجت إلى تعميق الإجابات عن سؤال طرحته، أو عن سؤال كان عليك طرحه، يطرح د. عز العرب مكانك، حتى إنه يتجاوز معك جدران الكلية ليعقد معك جِلْسة عِلمٍ في مقهى قد يقدم اختيارك لها دون خياره، بل وقد يعزمك في بيته على قهوة يعدّها آل بيته بكرمٍ حاتمي كبير، كرمٍ أصبح غريبًا لكنه عادي بالنسبة لغريبٍ في جِديته ونشاطه كــ د. عِزّ العَرب، وبترحيب لا يكاد ينتهي حتى يبدأ من جديد، دون أن ينسى السؤال عن حال أبنائك، إن كان لكَ فلذات كَبد، ليُعرِّفك بأن الاشتغال بالحكمة هو في الأصل أحد الطّرق في التأسيس للعلاقات الإنسانية البالغة الطِّيبة والإيمان بالإنسان وبجدوى المعرفة، ودون أن يُظهر لك تأفّفًا ولا أن يستبطن تعفّفًا ما وهو يتجشّم عناء البحث لك بين رفوف مكتبته الجاحظية عن كتاب تحتاجه أنت وقد يحتاجه هو، ليقدّم حاجتك على حاجته للكتاب، ولينفض عنه هوسه الوسواسي بالكُتب نزولا عند رغبتك فيه، مُكْبِرًا فيك مجد البَحث ورغباتك الجموحة في القراءة، ليُمثِّل أمامك ويذكرك بشخصية أحد خيالات كولردج الواسعة، حيث يرى شخصًا ما يحلم بأنه يقوم برحلة في الجنّة، فتقدم له زهرة، وفي اليقظة يجد الزهرة في يده، د. عِزّ العَرَب هو تلك اليَدُ التي لا تستنكف عن العطاء ، فهي كف ندية يقطر نداها على من كان له بدٌّ ومن لم يكن كذلك، وكُلًّا يُـمِد هؤلاء وهؤلاء من عين معرفته، القريبين منه، وممن أتاه من أمكنة بعيدة، فـــعِزّ العَرَب لا يستنكف أن يكون له خلف المجرات طلبة كما أن يكون له خلفها أصدقاء وأصحاب .
د.عِزّ العَرَب إلى حدٍ كبير في قوة استحضاره للنصوص والمواقف يشبه “ذاكرة فونس” Funes el memorioso”” خ. ل. بورخيس (Jorge Luis Borges) الذي لا يحتاج إلى أن يكتب لأن ما يفكر فيه مرة واحدة لا ينمحي من ذاكرته، والذي لم يكن يتذكر كل ورقة في كل شجرة على كل جبل وحسب، بل بإمكانه تذكر كل مرة رآها أو تخيلها، لذا لا يستنكف أن يعود بك د. عزّ العرب إلى أصول الفكرة الأولى، ثم يعرِّج نحو استخداماتها واستلهماتها عند هذا الفيلسوف وعند غيره وأجرآتها النقدية في مجالات خارج الفلسفة، والمعاني والأدوار التي أدّتها، فالرجل يستهويه أن يفتح داخل الفلسفة على خارجها، ليُظهر عمل الفلسفة ومجهود الفيلسوف، ففكرة الفيلسوف ليست مونادا تحيا في عزلة كما صاحبها، بل هي دوما عنصر ينتج مجموعة عناصر في متواليات لا تكف عن التكاثر وإنتاج نفسها بطرق يكفيك الجلوس في خشوع أمام د. عِزّ العَرَب لتكتشفها وتتلمّسها بعكازةِ عَمَاك الأول، فكل شيء هو مرتبط عنده بكل شيء، وكل شيء هو متضمن في كل شيء، فنيتشه (Friedrich Nietzsche) قد يكون متضمنًا في هوميرس (Homère)، وإ. كانط (Emmanuel Kant) قد يكون متضمنًا في إحدى سرديات أو أحد سونيات شكسبير (William Shakespeare)، يكفي فقط أن تمسك بطرف الخيط الذي تضعه يد د. عزّ العرب بين أناملك، لتتبع اليَدَ التي تُطرِّز به، فما تراه مُتعِبًا ومُعْجزًا في تتبعه والتنقير عليه وملاحقته، مع د. عِزّ العَرَب يصير ممكنا بموسوعيةٍ ما بل وممكنًا جدًا، فيَلِج الْجَمَلُ معه فِي سَمِّ الْخِيَاط، فرحلة البحث عن الفرد، لا تستكمل معانيها دون البحث عن الجماعة، جماعة الأفكار المتوزعة هنا وهناك، تماما كما رحلة جماعة الطيور بحثا عن السّيمرغ، التي طوت الأرض بحثا عن الأخير وفي طريق عودتها الخائبة عرفت أنها هي نفسها السّيمرغ.
قد تبقى الموسوعية مجرّد احتمال عند البَعض، وليست شرطًا، غير أنها مع د. عِزّ العَرَب تقلب الآية، لتصير الموسوعية فَريضة أو على الأقل أمرًا في حكم المندوب، فلا يكون الاكتفاء بفيلسوف أو نحلة فلسفية واحدة، كما الأمر عنده، فلا يمكن أن تقرأ بلغة واحدة أو حتى بلغتين، بل بلغاتٍ كثيرة، لذا قد يحدثُ أن تُمضي شطرًا صالحًا في أحد حِصص د. عِزّ العَرَب في ملاحقة جِدر إحدى الكلمات، في أصولها وترحالها، وعند توقفه عند احتمالات عملها في كل لغة، لتحير أمام سؤال أي لغة بالضبط يجيد؟ ولهذا ربما تتوسع اهتماماته وانشغالاته، ذات الطابع الحقوقي مرة، وعن فلسفة اللغة مرة، وعن فلسفات الدين مرات، وعن نظريات الأدب كذا مرة، فبالنسبة إليه الحجارة وحدها من تود أن تظل في حالتها الأصل، أي أن تبقى مجرد حجارة وحجارة فقط، أما ما تصير إليه من تحولات، من تفتت وانقسامات تعدم حضورها ووحدتها، فسببه الاضطرار فقط لا رغبتها.
بعيدًا عن أي ضجيج كانت حصّة د. عِزّ العَرَب في خشوعِ دير، وهَدأة مكتبة، إلا من قَلبِ صفحاتِ دَفتر، ومن وقع قدميه، كالذي لا ينتعل إلا جَوربًا فقط، فالرّجل لا يحبذ الجلوس، ربما انتشاءً بتجاوب يراه في عيون طلبته، ولربما اتِّباعًا منه للمبدأ النيتشوي من كون أروع الأفكار هي من تأتينا ونحن نمشي أو حتى نرقص، تحينًا ربما للفرصة منه، ليكتب كلمة أو مفهوما في السّبورة، السّبورة المظلومة في الدّرس الجامعي، والتي تصير لها هيبة جميلة مع د. عز العرب، فيُشعّب القول في الكلمة وعن المفهوم ويحدد جغرافيا اعتمالاتهما وخطّة وخطاطات سفرهما البعيد، وزَمن انحرافاتِ المعنى التي خاضا غمارهما عند هذا الفيلسوف عبر مراحل تطور الأخير، وعند غيره، دون أن يدع رصد معالم الغرابة والتغريبة التي صارت إليها إحدى الأفكار، أو المذاهب، ليغدو الطالب نفسه متلمسا جوانب الغرابة تلك، فينتقل الدّرس من درسٍ أكاديمي إلى إحدى حصص ألف ليلة وليلة، فعند نهاية الحصة التي كانت تتجاوز الوقت المخصص لها، ونحن نقصد باب الخروج الذي منه دخلنا، حيث لا يمكن المكوث أكثر مع غسق وغبشة اللّيل ، يودعك بنظرة تعلوها ابتسامة صِدق وتَلُفُها غرابة من يقول:
ـ “والأفكار المزدحمة عند فمي كسِرب حوريات على ساحلْ، لمن أحكي القول عنها، ولمن أصف حُسنُهن!”.
وفي المقابل نودعه نحن وداعَ الأهل للحَاجِّ المسافر لأداء شعائر تعبدية بالغة القدسية، أو وداع أهل بغداد لسِندِبَادِهم، مُنتظِرين عَودته ليَحكي لنا ـ أي د. عِزّ العَرَب وليس سِندباد ـ غرائب سفره البعيد بين الكتب والأفكار، وليوزع علينا مشاريع بحث بالغة الجدّة، ويفرق علينا آفاق تفكير جديدة من قِربته المليئة بالأفكار، وبما كُتِب توًا، ومما لا يجب أن ننتظر ترجمته.
ـ مسرد لأعمال د. عز العرب لحكيم بناني:
ـ تآليف وترجمات:
ـ الظاهراتية وفلسفة اللغة: تطور مباحث الدلالة في الفلسفة النمساوية، الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، 2002، (ص.241.)
ـ ياوس، هانس روبيرت، نحو جمالية للتلقي: تاريخ الأدب تحد لنظرية الأدب، ترجمة: محمد مساعدي، مراجعة: عز العرب لحكيم بناني، دمشق، دار النايا، 2014. (ص 128)
ـ فرانك، مانفريد، حدود التواصل: الإجماع والتنازع بين هابرماس وليوتار، ترجمة وتقديم وتعليق: عز العرب لحكيم بناني، الدار البيضاء: أفريقيا الشرق، 2003، (ص 135).
ـ فالنر، فريتس، العلم وسؤال الثقافة: مقاربة بنائية جديدة لفلسفة العلم، ترجمة وتقديم: عز العرب لحكيم بناني، فاس، مطبعة أنفو برانت، 2002، (ض.142.)
ــ فريتس فالنر، مدخل إلى الواقعية البنائية، ترجمة وتقديم: عز العرب لحكيم بناني، إنفو- برانت، فاس، 2000.
ـ غرايش، جون (1942-….)، العوسج الملتهب وأنوار العقل : ابتكار فلسفة الدين، ترجمة: محمد علي مقلد، عز العرب لحكيم بناني، بيروت : دار الكتاب الجديد، 2020.
دراسات ومقالات بالعربية:
ـ الفلسفة والعدالة والصفح، سؤال العدالة في الفلسفة السياسية المعاصرة، تنسيق: محمد المصباحي، كلية الآداب والعلوم الإنسانية، الرباط، 2014. ص. 25-38.
ـ المعرفة، نحو عقلانيات إجرائية، عالم الفكر، مج. 41، ع. 2، 2012، ص.
التعليقات