محمد عسيلة*
في زمن يتعاظم فيه الخوف من الآخر، ويعلو فيه خطاب الانغلاق والانقسام، وتتعالى فيها أصوات اليمين المتطرف على مستوى المجتمع والإعلام والبرلمانات، تبقى الأعياد الدينية من أبرز المحطات التي تُظهر جوهر القيم التي تنادي بها الرسالات السماوية، وتُجسّد في الوقت ذاته إمكانيات الانفتاح وبناء الجسور بين المجتمعات. ويأتي عيد الأضحى المبارك على رأس هذه المناسبات التي تختزن في عمقها مقاصد سامية تتجاوز الذبح والاحتفال، لتصل إلى قيم الرحمة، والإيثار، والتكافل، والإيمان الصادق.
لكن يبقى السؤال الجوهري الذي علينا أن نطرحه بصدق في سياقنا الأوروبي كمجتمعات مسلمة/ مغربية مهاجرة، أصبحت هذه المجتمعات الأوروبية اوطانا لها: هل نحسن توصيل رسالة العيد إلى المجتمع من حولنا؟ أم أن العيد بات يُمارس في عزلة داخلية، تنحصر في الطقوس وتغفل المقاصد؟
عيد الأضحى يبقى مناسبة موسمية وكذلك مدرسة روحية وتربوية، ترافقنا كل أيام السنة نستحضر من خلالها معاني الفداء والتضحية والامتثال لله تعالى، كما تعلّمنا كيف نتقاسم النعم مع الآخرين، وخاصة المحتاجين. فالمسلم يُضحي، لا ليأكل، بل ليُطعم. يُنفق، لا ليتفاخر، بل ليواسي. يفرح، لا ليعزل نفسه، بل ليشارك الفرح مع من حوله، بغض النظر عن كل انتماء ديني.
غير أن هذه القيم العظيمة لا تكون ذات أثر إذا لم تخرج من حدود الأسرة والمجتمع المغلق لتُصبح رسالة عامة ومفهومة، يستطيع غير المسلم أن يتفاعل معها، ويتعرف من خلالها على الجوانب الحضارية للدين الإسلامي.
في المقابل، نلاحظ أن الأعياد المسيحية الكبرى – وعلى رأسها عيد الميلاد ( – Noël – Weihnachten) وعيد الفصح (- Pâques- Ostern) – قد تحوّلت في السياق الأوروبي إلى فضاءات مدنية وإنسانية مفتوحة، يتشارك فيها الجميع بغضّ النظر عن خلفياتهم الدينية. تُنظم الأسواق المفتوحة، وتُقام الولائم الجماعية، وتُوزَّع الهدايا، وتُنظم الأنشطة في المدارس ودور الرعاية. الكل مدعو: الطفل، اللاجئ، الجار، والمارّ في الشارع.
لقد استطاع المجتمع المسيحي أن يحوّل أعياده إلى لغة جامعة، تُنقل من الرمزية الدينية إلى التفاعل المجتمعي.
فهل نستطيع نحن كمسلمين أن نسير في الاتجاه نفسه، دون أن نفرّط في خصوصيتنا؟
ما نحتاجه اليوم ليس إسلامًا أو تدينا مفرغًا من محتواه، بل إسلامًا وتدينا واثقًا بنفسه، منفتحًا على الآخر، قادرًا على أن يشرح مقاصده بلغة العصر. نحن لا نحتاج لتبرير وجودنا، بل لشرح قيمنا. لا نحتاج إلى العزلة، بل إلى الشجاعة في ممارسة الدين بمسؤولية ومشاركة مجتمعية.
لماذا لا يتحول عيد الأضحى إلى مناسبة ندعو فيها الجيران لحفل تعارفي؟
لماذا لا تُفتح أبواب المساجد والمؤسسات الثقافية لشرح معنى الأضحية كمفهوم أخلاقي وإنساني؟
لماذا لا نشارك أطفالنا في المدارس بأنشطة رمزية تشرح هذه المناسبة بلغة يفهمها الجميع؟
أين نحن اليوم؟
في زمن ما بعد كورونا، وما بعد الحرب في غزة، وما بعد كل اهتزاز إنساني نعيشه، لم يعد كافيًا أن نحتفل فقط داخل دوائرنا المغلقة. علينا أن نعيد طرح سؤال الهوية والمواطنة والرسالة في آنٍ معًا.
ف”ما بعد الأعياد المغلقة” ينبغي أن يكون لحظة مراجعة جماعية لمسؤوليتنا في أن نكون سفراء للقيم، لا فقط لمظاهر التدين.
هل نملك الشجاعة لنجعل من عيد الأضحى جسرًا للحوار بدل أن يكون حاجزًا؟
هل نستطيع تحويل الطقس إلى لغة إنسانية يتقاسمها الجميع؟
وهل يمكن لأطفالنا أن يروا في هذا العيد فرصة للتعريف بأنفسهم لا للانطواء على ذواتهم؟
إن تثبيت مقاصد الدين في مناسباتنا، وربطها بسياقنا الأوروبي، هو واجب تربوي، أخلاقي، وثقافي. وهو في الآن ذاته فرصة ذهبية لبناء تعايش حقيقي يبدأ من الإنسان… لا من السياسة.
لا شك أن مغاربة العالم يضطلعون بدور مهم في تعزيز صورة الإسلام المعتدل، وفي المساهمة في تنمية مجتمعات الإقامة ومد جسور التفاهم بين الثقافات. فهم يشاركون في الحياة الاقتصادية، وينخرطون في المجال الجمعوي والتربوي، ويدافعون عن القيم التي تربّوا عليها في وطنهم الأم.
لكن في ظل التحديات المتسارعة التي يشهدها العالم اليوم، فإن المسؤولية تتضاعف، والمطلوب من مغاربة المهجر أن ينتقلوا من المساهمة الفردية إلى الفعل الجماعي المنظم، ومن الحضور الرمزي إلى التموقع الاستراتيجي في النقاشات المجتمعية الكبرى، خاصة حين يتعلق الأمر بتمثيل المقاصد الأخلاقية لدينهم، وهويتهم الثقافية، في سياقات أوروبية معقدة.
إننا اليوم أمام فرصة حقيقية: أن نكون فاعلين لا مُنفعِلين، مبادرين لا منعزلين، صانعي خطاب لا مجرد مستهلكين له.
وهذا يبدأ من أبسط الخطوات: أن نعيد اكتشاف أعيادنا، وأن نحسن تقديمها للعالم من حولنا، بكل ما تحمله من قيم ومعانٍ إنسانية.
ـــــــــــــــــــ
* استاذ باحث في قضايا الدين والثقافة والهجرة
استاذ محاضر بالمدرسة العليا للعلوم الاجتماعية التطبيقية بكولونيا
مستشار في قضايا الاندماج والتربية والتعليم لدى هيئات تعليمية ومدرسية ولائية بألمانيا