ادريس هاني
دائما يوجد من يملكون حلولا حاسمة لكل شيء، وفي عمق مآزقنا هناك دائما من يملكون تلك الحلول الحاسمة، وأتأمّل هذا الهجّاس والاندفاع إلى الحلول الحاسمة في العلم والسياسات، ويمكنك أن تراقب كيف يتعاطى الكثيرون أيضا مع النموذج التنموي، ففي كل رأس توجد حلول تبسيطية، كلنا “كينز” لأنّنا لا نتحسس أقدامنا في سياق تاريخي يجب القبض عليه في قدرنا الجغرافي، وهكذا حاولت أن أنصت لكي أمنح نفسي فرصة الإستماع وأيضا تحليل الخطاب الذي يمنحني فرصة أخرى لمعرفة إن كنّا حقا نسير إلى الأمام وليس إلى الهاوية كما عبّر إدغار موران، كان التبسيط يمنح إمكانيات هائلة لاستسهال الحلول، والأغرب أننا أخيرا اهتدينا إلى معجم اصطلاحي متورّم يمنحنا اللياقة الكافية للإقناع بالوهم، فالحديث عن الإنسان كهدف للتنمية حقّ لكنه يستعمل في الديماغوجية، وسأتدخّل فقط لأجيب على بعض المفارقات، ذلك لأنّ المفاهيم همّ إضافي يفرض مسؤولية أخرى تتعلّق بالتدبير، ولا أدري من أين نبدأ، غير أنّني لا أخفي أنّ معضلة التنمية تعيدني إلى الإشكال الذي لم نتجازه والأسئلة التي لم نجيب عنها حتّى الآن، فالفجوة المفاهيمية تعيدني إلى أهمية شفرة الآوكامي، كنت أحاول إعادة تحليلها صبيحة ذلك اليوم، وربما ذهبت إلى نقد الحاجة إليها: ما الحاجة إلى إنتاج مفاهيم إن لم تكن الحاجة ماسة إليها أو هناك ما يبررها فلسفيا، لكن سؤالي اليوم يفوق وليام الأوكامي حيث أتساءل عن الحاجة إلى مفاهيم جديدة إن لم نكن نملك قدرة ومهارة لإدارتها، فالمفاهيم حين توضع في السياق الخطأ تفسد وتُفسد معها العقل.
لقد غادرت الاهتمام بسؤال التنمية، آخر عهد لي به ما قبل ثلاثين عاما، ككل من أدرك معضلة التنمية في العالم الثالث، حلّلت بما فيه الكفاية أدوات المركز في إحكام الهيمنة على الجنوب، تحليل وافي لنظام بروتن وودز ورصد للأدوار التخليفية لصندوق النقد الدولي ودور الديون والمساعدات في إحكام السيطرة على اقتصادات الجنوب، هذا العالم الثالث غير مسموح له بتنمية حقيقية، كتبت ذلك بانتظام في إحدى الجرائد الصادرة في لندن. كان كل خبير ثالثي مدركا لتلك المعضلة التّاريخية، لكنها سرعان ما تلاشت، وقد عدت لمقاربة هذا الهمّ حين أطلّ الخطاب الديماغوجي للعولمة، وتحديدا القبض على ملخّص السياسة الاقتصادية الجديدة في وثائق الاتفاقية السّريّة(ami)، إجهاز كبير على ما تبقّى من سياسات اجتماعية، ومرت العولة وشعاراتها ونحن على حافّة موت الإنسان والكيانات والحضارة المعاصرة، وفي قلب القلق الأممي والحروب ومحق الإنسان، تقلّصت كلّ الفجوات إلاّ فجوة الجنوب والشمال برسم السياسة الاقتصادية، علينا أن لا ننسى أنّ رهانات التنمية في منظومتنا الثالثية هي حكاية أخرى، لكن ما بال قومي يعتقدون أنّ النموذج التنموي هو قصة نقاش عمومي، كيف نقاوم ديكتاتورية رأس المال بديمقراطية توزيع الحق في الكلام وفي سياق جهل تاريخي بدور الإمبريالية في تقويض حلم التنمية؟ وكم كان مؤلما أن نسمع بعضهم يتحدّث عن نموذج هنا وهناك دون حفظ حدود الجغرافيا، التنمية ليست فرصة لتدوير زوايا الديماغوجية بل هي نهضة لا تتوفّر على مقومات حقيقية، يجب أن نناور بالتنمية – هكذا تحدثت مرارا- علينا أن نجتاز بها وفي صمت وفي ديكتاتورية أيضا، لأنّ التنمية تنتزع في قلب معادلة الصراع وليست فرصة للنّقاش، نتساءل إن كانت الأحزاب السياسية تملك نموذجا تنمويّا وهل استطاعت أن تقدم نموذجا ناجحا في إدارة اقتصادها الداخلي؟ سؤال التنمية هو سؤال جيوستراتيجي.
في صلب هذا التورّم في المصطلح وسوء تدبيره ضاع سؤال التنمية ككل الأسئلة، وأحسب إدغار موران قد وضع اليد على الجرح وهو يعالج الموضوع من جهة تنمية التّخلّف، إنّ مسارات التنمية باتت محصورة وموجهة ومختزلة وهي حتى في اتجاهها هذا تؤدّي دورا يتهدد حضارة الإنسان، وسأتساءل أين يوجد الإنسان في المثال التنموي على المدى الحضاري البعيد فضلا عن استحالة التنمية حتى في سياق النموذج المركزي، لأنّنا محكومون بلعنة العالم الثالث.
وينتهي التبسيط أحيانا بالمُلاوغة، وهناك من يتحدّث عن الاستقرار ليس كشرط للإستثمار بل كموضوع للاستثمار، وأمام هذه الديماغوجية الجديدة ابتعدنا قليلا من جوهر الإشكال، فالاستقرار ليس معطى، ليس مادة خام، بل الاستقرار موضوع أكثر تعقيدا، الاستقرار قد يُصار إليه بالحرب، ليس كل هدوء هو استقرار وليست كل حرب هي نقيضا للاستقرار، علينا أن نخرج مفهوم الاستقرار من هذا التبسيط الديماغوجي ونعيده إلى المحور الجغرافي للتاريخ كما ذهب ماكيندر في 1904، إن كان الشرق الأوسط يغلي فلأنّ تاريخ العالم يُعاد تصنيعه هناك، لكن إن كنت تسأل لماذا نحن محظوظون فعلينا أن نسأل طيراس والحتمية الجغرافية لعزلتنا، لكنها العزلة التي لها ما لها وعليها ما عليها، ستجعلنا الجغرافيا أحيانا رهائن لخيارات معينة، وعلى الأقل حشرتنا بعيدا عن المشهد الأنغلوساكسوني وإمكانيات أخرى فيالسياسة والاقتصاد، فالاستقرار هنا له مقابل وله أيضا ضريبة ندفعها من الرأسمال المادي والرمزي للمصير، إنّ الاستقرار حاجة وهدف، ونحن نفكّر في التنمية التي تحمي الاستقرار أيضا حتى لا يتحول الاستقرار إلى عنصر ابتزاز، فلا وجود لجغرافيا غير متحرّكة.
قال أحدهم: لدينا النموذج التركي، نأخذه ونطبقه والسلام، ولكنه لم يدرك ما مقصودي من الكلام عن استحالة وجود نموذج تنموي وبأنّ النموذج التركي وهم. يوجد إطار واتجاه للتنمية ونموذج بالمعنى الكلاسيكي للعبارة: نموذج رأسمالي أم اشتراكي، لكن أقصد باستحالة النموذج كما هو مفهوم متداول يتحدث عن نماذج دولانية كاليابان أو فرنسا أو تركيا، وعن هذا النموذج سبق أن أعددنا ملفا عن المستقبليات وفيه انتقدت فكرة النموذج والنمذجة لا سيما النموذج الياباني الذي دعا له المرحوم مهدي المنجرة، ليس فقط لاستحالة تطبيق التجربة اليابانية بل لاستحالة مبدأ النمذجة نفسها، فكل بلد يصنع نموذجه الخاص، وأما تركيا فهي موضوع دعاية، وهناك حكومة يقودها تيار شديد الولاء والولع بالنموذج التركي ولكنه لم يقم بشيء حتى على مستوى تنظيم الكلاب الضالة وإقرار الرفق بالحيوان، إنه اقتصاد مكوس وضريبة على النزاع، ولسنا نملك قدرة لكي ننخرط في نزاعات لكي نحصل على هذا النوع من الضريبة على النّزاع لأننا لسنا أعضاء في الناتو، فالجمركي لا يملك أن يقدم نموذجا، هل يا ترى سنبسّط سؤال التنمية لكي يصبح النقاش في الحضيض؟ يبدو أنّنا لا نتحسس موقعنا من العالم ومن التّاريخ لأننا سقطنا في نمط حشوي من تدوير المصطلح، فالتنمية سؤال عميق وأعمق وما لم يرتبط بمسار نهضوي ويقوم على فلسفة خاصّة فإنّنا سنقع في لغو وخطاب تنموي سطحي، وسننتهي إلى الفشل وسنبكي حظّنا العاثر مرة أخرى.
ما الحل إذن؟
إنّ التنمية ثورة ومسار معقّد، وهي تقتضي العمل في صمت أكثر وبمناورة شاملة وبقرار وحيد، فماذا سنقدم من أجوبة حول علاقتنا بالمؤسسات المالية ورواية إعادة الجدولة وكيف نجيب على القطاع العمومي ومشكلاته وكيف نجيب على تحدي التملص الضريبي وسياسة المال العام ودفاتر تحملات الخواص، عن الإدارة والإنتاج والتعليم والصحة والثقافة والمجتمع والبيئة، تقتضي الديمقراطية أن نستمع للجميع بمن فيهم أولئك الذين لم يكن للتنمية همّ لديهم نشأة وتطوّرا، لمن دبروا الحكومة ومجدوا في أنّنا استطعنا حقا أن ننجز نتائج ومكتسبات استثنائية كحصولنا على قروض إضافية؟ ما هي حصيلة ما استطاعت أن تقدمه الحكومة في دورتيها على صعيد التنمية، وما هو القطاع الذي يمكن أن نرصد فيه تجلي العبقرية التنموية لحكومة تخلط بين عقل الإنتاج وعقل الريع، أخشى أن نخضع التنمية وأسئلتها لهذا الهدر الديماغوجي كما شهد ذلك موضوع الديمقراطية والحقوق والتسامح..
المصدر : https://dinpresse.net/?p=6965