بسم الله، والصلاة والسلام على خير خلق الله، سيدنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، أما بعد:
فبحلول السنة الهجرية الجديدة (1444ه) ، وذكرى مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم حاولت التفكير في أهمية الهجرة المحمدية بالنسبة للمسلمين خاصة والإنسانية عامة، وتقديمها للتفكير والنظر لعلها تكون فاتحة خير للقلوب والعقول والأرواح، وطوق النجاة للبشرية…
مقدمة.
1 – تقويم جديد وتاريخ جديد.
2 – (دولة الهجرة) قامت على أمة.
3- دولة الهجرة (الكيان المعنوي، دولة الأيديولوجية)
4- (دولة الهجرة) دولة عالمية.
5- (دولة الهجرة) دولة العقد والتضامن الاجتماعي.
6- (دولة الهجرة) تمثل (هجرة إلى العقيدة).
خواء الروح.
كيف نخطئ في تقديمنا للناس دين الإسلام؟
حلول لمشكل من مشاكل العصر..
مقدمة:
إن (دولة الهجرة) دولة (فكرة وعقيدة)، تمارس سيادتها وسلطتها على أساس المساواة الشاملة والعدل المطلق، سيادتها الداخلية قامت على (الاختيار) الحر في اعتناق (الفكرة) من جانب الأفراد، وفي الاجتماع لإقامة الدولة من جانب المجموع، والفكرة تجد وطنها في كل مكان يوجد فيه عقل إنسان حر… فكان الجديد في (دولة الهجرة) أنها أرحب في آفاقها من الدم والأرض، والسكان والإقليم…
فهذه الدولة(الأيديولوجية) الجديدة في التاريخ قامت على أساس إنساني مفتوح ((لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي))، هكذا قامت الدولة الجديدة… مفتوحة… بغير إكراه، لكل عقل رشيد !!.
دولة تقدس (الإنسان) لأنها تؤمن بالله: رب الناس، ملك الناس، إله الناس. والناس كلهم بعد ذلك أجمعون -بغير استثناء-أشباه وأنداد، كلهم مخلوقون، وكلهم عبيد لله…
وبما أنها دولة أيديولوجية تقوم على (فكرة وعقيدة) فإنها لا تصادر الأفكار والعقائد الأخرى، وإنما تدفع (العدوان) من جانب أصحاب تلك الأفكار والعقائد، فإن تَوقَّفَ (العدوان) فقد تقدست حرمات (الإنسان).
والإنسان لا يتحقق توازنه النفسي والعقلي إلا بمعرفة منزلته في هذا الكون، وكذلك الناس لا يتحقق فيهم التوازن الاجتماعي إلا إن استشرفوا قوة أكبر من الإنسان، ومتاعا أكبر من الحياة الدنيا، وإن هم تجاهلوا قوة الله، وحساب اليوم الآخر فسيعيشون لأنفسهم، وتكون النتيجة الحتمية أن يعيش الإنسان لنفسه، ويُصبح متاع الدنيا غاية همه ومبلغ علمه، وهكذا تتأصل جذور (الأنانية) الفردية و(المادية) النفعية في المجتمع الإنساني…
فالرسول صلى الله عليه وسلم عمل على إيجاد مجتمع موحد تربطه أواصر الأخوة الإنسانية، والمودة والرحمة، والعدالة الاجتماعية في الشئون العامة للدولة الإسـلامية الجديدة، فظهر في المدينة أول مفهوم “للأمة”..
فالمقصود هنا “بالأمة” أولئك الذين يعبر عنهم القرآن غالبا بالناس، فالرسول أرسل للناس كافة، بالمعنى الواسع للكلمة. العالم كله هو مجال الدعوة، والناس في العالم بالتالي أمة محمد (أمة الاستجابة وأمة الدعوة). فأول مفهوم للأمة ظهر في المدينة من خلال بنود الوثيقة: “فهي كيان اجتماعي سياسي، يقوم على أساس “الفكرة والعقيدة”، لا على أساس الدم، أو على أسس بيولوجية، لا تحدها لغة أو جنس أو وطن، ولا تصادر الأفكار والعقائد الأخرى، بل لها من الرحابة ما تستوعب به العناصر الأخرى دون صهر أو تذويب، قابلة للتوسع والتقلص تبعا لعدد من ينظم إليها أو يتركها باختياره.”
وقد مثلت وثيقة المدينة التي تعد دستور (دولة الهجرة) عهدًا وميثاقاً قانونياً وحقوقياً يحدد وينظم العلاقة الاجتماعية بين مختلف مكونات مجتمع المدينة وضوابطها وحدودها بتفصيل، يوضح الحقوق وواجبات كل عنصر من عناصر المدينة، كما يؤكد مبادئ المواطنة وواجباتها، واحترام التعددية العقدية والقومية.
والطريف هو أن هذه “الوثيقة” التأسيسية استطاعت أن تستقطب وتقود كل هذه الأمشاج وهذا الشتات المجموع جمع توليف لا تعسف وفق تصور جديد قائم بالأساس على مفهوم “الأمة” ذي الطابع السياسي والمدني لا العقدي الديني.
فإن (دولة الهجرة)، هجرة إلى العقيدة التي أتمنى أن تمثل المخرج والدواء الشافي لما تعيشه البشرية اليوم من خواء روحي، وشقاء حياتي، وانعدام الأمل في المستقبل، واليأس والقنوط من هذه الحياة المادية المتسارعة في العالم عموما والعالم الغربي خصوصا، نعرض عليهم العقيدة الإسلامية ببساطتها ووضوحها وشمولها لمتطلبات الجسم والعقل والروح، ونعرض عليهم هذا النظام الفريد في التاريخ (دولة الهجرة)، لعلها تكون سفينة النجاة للبشرية جمعاء للخواء الروحي الذي تعيشه.
1 – تقويم جديد وتاريخ جديد
ففي 16من شهر يوليو من عام (622م) من ميلاد المسيح عليه السلام بدأ تقويم جديد يستهل بغرة المحرم من العام الأول من هجرة الرسول محمد صلى الله عليه وسلم على ما حققه صاحب أطلس التاريخ الإسلامي
هاري و. هازارد. (Harry w Hazzard).
يروي الطبري في أخبار سنة 16ه (636م) أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه بعد سنتين ونصف من خلافته جمع الناس فسألهم: من أي يوم نكتب؟ فقال علي بن أبي طالب: يوم هجر رسول الله أرض الشرك، ففعله عمر. (1)
وكثير من الناس من يجد في اختيار (الهجرة) وما ترتب عليها من نتائج تشخيصا إيجابا أقوى دلالة، لأنه يبرز الكيان الفكري والعملي للدعوة الإسلامية في صورة حية واقعية ملموسة محسوسة.
ولو اختير (مولد الرسول صلى الله عليه وسلم) مثلا لهذا التقويم كما حدث بالنسبة للتقويم الميلادي لما كان في الاستهلال بالمولد غير دلالة عاطفية فحسب، كما أن (الهجرة) أقوى دلالة من بدئ الدعوة ونزول الوحي أيضا، فإن الدعوة قد بدأت بين الأقربين ثم أخذ نطاقها يتسع على مراحل، في حين أن (الهجرة) كانت حدثا كبيرا عاماً شعرت به مكة كلها، والمدينة كلها على الأقل، ثم قامت على إثرها (دولة) شعرت بها بلاد العرب كلها، وغير بلاد العرب من بعد.
(فالهجرة) تمخض عنها التجسيد أو التشخيص القانوني لدولة جديدة هي (دولة الهجرة)، ليست دولة يثرب أو المدينة، بل هي دولة (فكرة وعقيدة) وليست دولة قطعة من أرض.
فالرسول صلى الله عليه وسلم لم يترك مكة ليعلي سلطان المدينة، وحين أعلن الجهاد في المدينة لم يكن صراعاً ضد مكة. وقد أنكر الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم على شيخ الخزرج سعد بن عبادة صيحته يوم فتح مكة “اليوم يوم الملحمة، اليوم تستحل الحرمة” بل قال لأهل مكة :{اذهبوا فأنتم الطلقاء}… ولم يكن هذا تحيزاً من رسول الله صلى الله عليه وسلم لمكة، فقد عاد إلى المدينة التي نصرته تاركا مسقط رأسه بعد أن دان له بالولاء…..
ف(دولة الهجرة) التي قامت عقب وصول الرسول صلى الله عليه وسلم إلى المدينة تحتاج إلى الحديث الذي يبرز دورها وخصائصها. فلطالما تناول الحديث (الهجرة) في أحداثها منذ أن ائتمرت قريش في مكة بالرسول صلى الله عليه وسلم ليثبتوه أو يقتلوه أو يخرجوه حتى وصل إلى (المدينة) وتلقته أناشيد البشر والترحاب: {طلع البدر علينا….}. وليس معنى هذا أن الصراع الفكري والاجتماعي الذي انتهى إلى الهجرة ليس له كبير وزن… بل إن صراعا يكاد يخرج بالعرب عن تقاليدهم حتى يلجؤوا إلى المكر والقتل، بل إلى ما يقرب الاغتيال لهو صراع يستحق التفكير والتحليل…
إن الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم عندما أعلن قيام الدولة الجديدة المبكرة لم يطلق عليها اسم (دولة المدينة) بحكم قيامها بالمدينة المنورة. لكن قد يسوق تعبير (دولة المدينة) هنا إلى لُبس يوهم المقصود، أنها كانت دولة من النوع الذي يقوم في الكيان الإقليمي للدولة على مدينة من المدن مثل أثينا أو أسبرط كما في التاريخ القديم. والحق أن (دولة الهجرة) ارتبطت بيثرب ارتباطا عارضا، لأنها كانت دولة فكرة وعقيدة عالمية من أول يوم لظهورها، وكان من الممكن أن تقوم في أي مكان آخر يتبنى الفكرة ويدين للعقيدة.
كما أن الدولة الجديدة في المدينة هي (دولة الهجرة) لا دولة المهاجرين…. فالمهاجرون هنا لا يعمدون إلى إفناء السكان الأصليين أو إجلائهم، ولا يقيمون المستعمرات أو يصطنعون الحواجز بينهم وبين سكان المدينة الأصليون…. وهكذا لا تجد تجارب توطين الأوربيين في أمريكا أو أستراليا أو أفريقيا على اختلاف حرارتها.
إنها دولة (فكرة وعقيدة)، سكانها المقيمون فيها من قَبلُ، والمهاجرون، والوافدون إليها، سواء في الاعتبار الإنساني والحقوق القانونية. والعقيدة معروضة فيها على كل إنسان بحكم إنسانيته، أيا كان موطنه أو أيا كانت عشيرته، أو أيا كان دينه. إنها دولة مفتوحة، لا تغلق نفسها على جماعة معينة شأن دولة <دينية> أخرى قامت من قبل في التاريخ.
إنها دولة قامة على الاختيار الحر في اعتناق الفكرة من جانب الأفراد، وفي الاجتماع لإقامة الدولة من جانب المجموع، ذلك أن الدولة الجديدة (دولة فكرة)، والفكرة تجد وطنها في كل مكان يوجد فيه عقل إنسان حر…
2 – دولة الهجرة قامت على أمة
لقد اجتمعت في الدولة الجديدة (دولة الهجرة) الأركان الثلاثة لتأسيس الدولة: الأمة، والسيادة، والإقليم.
-الأمة: فالاستقرار على بقعة محدودة من الأرض، والرغبة المشتركة في العيش معا – أي في تكوين وحدة سياسية – هما العنصران الأساسيان المكونان للأمة. وتصبح الأمة (دولة) حين تقوم من بينها (سلطة عليا) حاكمة تزاول السيادة.
فأمة تقوم على أساس (الفكر والعقيدة) هي أمة لا يمكن حصرها أو ضبطها، لأنها لا تحدها لغة أو جنس أو وطن، فقد عرض رسول الله صلى الله عليه وسلم العقيدة على كل فرد وقبيلة استطاع أن يتواصل معها، وترك المجال أمام (الامكانات الايديلوجية) لا (الحتمية الجغرافية).
فجمعت هذه الدولة أمة المسلمين من أنصار ومهاجرين، (أسيادا وعبيدا، من العرب والروم والفرس والحبشة و….)، وأمة اليهود من بينهم (بنو قينقاع وبنو النضير وبنو قريظة)، والمشركون من المدينة ومكة، وبعد ذلك شملت الدولة حتى النصارى.
-السيادة: وللسيادة وجهان: داخلي وخارجي.
فالسيادة الخارجية: يقصد بها عدم خضوع الدولة لدولة أجنبية، وسيادة الدولة الخارجية مقيدة باتفاقاتها الدولية.
والسيادة الداخلية: يعني أن سلطة الدولة لا تعلوها سلطة أخرى في ميدان نشاطها داخل الدولة (أي في علاقتها بالأفراد والجماعات التي تقطن أرض الدولة).
وقد كان ل(دولة الهجرة) سيادة داخلية وخارجية تحققت في واقع الأمر من أول يوم في الإطار المثالي الذي تطلعت إليه فلسفة القانون إلى وقتنا، ولم تفلح في أن تجد له سبيلا إلى التنفيد، فهي سيادة قامت على (الاختيار) الحر في اعتناق (الفكرة) من جانب الأفراد، وفي الاجتماع لإقامة (الدولة) من جانب المجموع، ومن ثم تأسست سيادة الدولة الجديدة فعلا وواقعا على تقديس الحرية الإنسانية، بحيث تكون الحرية هي أساس الدولة الفكري وقانونها الأعلى.
الإقليم: وكان ل(دولة الهجرة) إقليم… اختارته العناية الربانية فكان اختيارا موفقا… لكنها لم ترتبط به ولم تقتصر عليه، وكان من الممكن أن تقوم في أي مكان آخر يقبل (الدعوة)، مكة أو الطائف مثلا. ذلك أن الدولة الجديدة دولة (فكرة)، والفكرة تجد وطنا لها في كل مكان يوجد فيه عقل إنسان حر !!.
3- دولة الهجرة (الكيان المعنوي، دولة الأيديولوجية)
لقد استكملت (دولة الهجرة) كل ما اشترط الفقه القانوني السائد من أركان، لكن تميزها يظهر في أنها لم تأخذ خصائصها الفذة ومكانها الفريد من أي واحد من هذه الأركان…
والمعلوم أن الإنسان يستطيع أن يختار أي فكرة أو عقيدة، على أن يكون الاختيار…. حرا، بريئا من شتى الضغوط !!.
لكنه لا يستطيع أن يختار أُمَّهُ وأباه، ليختار الدم الأزرق أو الأخضر الذي سيحسب عليه طول حياته، كما أنه لا يستطيع أن يختار لوالدته فراش الوضع الذي يتقرر به مصيره ومستقبله وفقا لمسقط رأسه !!.
فكان الجديد في (دولة الهجرة) أنها أرحب في آفاقها من الدم والأرض، والسكان والإقليم… فهذه الدولة (الأيديولوجية) الجديدة في التاريخ قامت على أساس إنساني مفتوح ((لا إكراه في الدين، قد تبين الرشد من الغي))، هكذا قامت دولة جديدة… مفتوحة… بغير إكراه، لكل عقل رشيد !!.
دولة تقدس (الإنسان) لأنها تؤمن بالله: رب الناس، ملك الناس، إله الناس…. والناس كلهم بعد ذلك أجمعون -بغير استثناء -أشباه وأنداد، كلهم مخلوقون، وكلهم عبيد لله…
ورب الناس هو رب العالمين بريء من المحاباة والتحامل، لا ينحاز لجنس ولا لأرض، ولا يصانع سلطة أوطبقة….
وكان على من يزاول الاختيار الحر ويمارس الفكر أن يصير منطقيا مع هذا الأساس الجديد، فيجاهد أهواء النفس وإيحاء الجمع، ورغبة المصلحة، ورهبة السلطة، ليُعْليَ ميزان الرشد والحق.
فميزان الرشد القائم بين الناس لإعلاء اعتبارات الفكر وأصول الحق لا يزال يدفع الإنسان بقدر ما في طاقته للتجريد الموضوعي الأمين، بعون من الحكمة الإلهية المحايدة. وأي فسق أفسق من الانتكاس والارتكاس إلى عصبيات الدم والأرض، ومغالبات المال والتجارة، لتخطط لعلاقة الإنسان بالإنسان وتحدد للإنسان فلسفة في الكون والحياة !!.
فالإنسان لا يتحقق توازنه النفسي والعقلي إلا بأن يعرف مركزه في الكون: هل هو القوة الكبرى التي تتحكم في كل شئ فيطغى ويطيش، أم هو عبد الطبيعة وريشة في مهب الريح فيضعف ويستخدي؟؟
لكن صاحب العقيدة الصحيحة يأمن شر العجز الكبير، وشر القوة المغرورة سواء بسواء، لأن العقيدة الربانية تجعل هذا الكون الذي خلقه الله مسخراً بأمره لعباده من بني آدم الذين كرمهم وفضلهم تفضيلا. فصاحب هذه العقيدة لا يلتصق بالأرض، ولا يشمخ في السماء، لا يُطْغيه الفرح ولا تُسْكنه المصيبة، إن أصابته السراء شكر، فكان خيرا له، وإن أصابته الضراء صبر فكان خيرا له……
فالإنسان لا يتحقق توازنه النفسي والعقلي إلا بمعرفة منزلته في هذا الكون، وكذلك الناس لا يتحقق فيهم التوازن الاجتماعي إلا إن استشرفوا قوة أكبر من الإنسان، ومتاعا أكبر من الحياة الدنيا، وإن هم تجاهلوا قوة الله، وحساب اليوم الآخر فسيعيشون لأنفسهم، وتكون النتيجة الحتمية أن يعيش الإنسان لنفسه، ويصبح متاع الدنيا غاية همه ومبلغ علمه، وهكذا تتأصل جذور (الأنانية) الفردية و(المادية) النفعية في المجتمع الإنساني…
ولن تستطيع (فلسفة أخلاقية) أن تثمر ثمرتها مادامت هذه الفلسفة نتاجا إنسانيا من إنسان مماثل، ولن يستطيع (قانون) أن يقتلع هذه الجذور الشريرة لأنه صناعة إنسانية !!. وهيهات للعدالة السياسية والاجتماعية والدولية أن تستقر في مجتمع تجذرت فيه (الأنانية) الفردية و(المادية النفعية). (1)
وعلى هدي ميزان الرشد والضمان الأمين في الدولة (الأيديولوجية) الجديدة، ترى (المبادئ العليا) التي تقيد سيادتها وسلطتها تتقرر وتتحدد في وضوح. فهي تعمل بما لها من سيادة وسلطة على مقاومة (العدوان)، لا على استئصال (الإنسان) في الداخل والخارج على السواء.
وبما أنها دولة أيديولوجية تقوم على (فكرة وعقيدة) فإنها لا تصادر الأفكار والعقائد الأخرى، وإنما تدفع (العدوان) من جانب أصحاب تلك الأفكار والعقائد فحسب: ((إنما ينهاكم الله عن الذين قاتلوكم في الدين وأخرجوكم من دياركم وظاهروا على إخراجكم أن تولوهم، ومن يتولاهم فأولئك هم الظالمون)) (الممتحنة، 9).
فإن تَوقَّفَ (العدوان) فقد تقدست حرمات (الإنسان): ((لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين، ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم، إن الله يحب المقسطين))(الممتحنة، 8).
ومن أجل احترام حقوق (يهودي) اتُّهمَ ظلماً وعدوناً من طرف مسلم، نزلت آيات من القرآن حتى لا يختل الميزان ولا تُضَلَّلَ العدالة على المتهم الحقيقي :((إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق لتحكم بين الناس بما أراك الله، ولا تكن للخائنين خصيما ،واستغفر الله، إن الله كان غفورا رحيما)) (النساء، 105-106).
كما أن هذه الدولة الجديدة تحارب طغيان رأس المال في معركة مقدسة بأمر من الله ورسوله 🙁 (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين، فإن لم تفعلوا فآذنوا بحرب من الله ورسوله…)) (البقرة،279).
فإن اجتثت زوائد الشر وعدلت انحرافات الظلم فقد وجبت صيانة (الإنسان) عن الفناء أو الضياع.
كما أن هذه الدولة الجديدة لا تبطل العصبيات والأهواء لتقيم عصبية جديدة باسم الفكرة والعقيدة….. إنها لا تكرر تجربة الشعب المختار الذي ينظر إلى (الله) على أنه إلهه هو دون سواه.
وهذه الدولة الجديدة تجعل المؤمنين قوامين بالقسط شهداء لله، وتحارب البغي في كل مجال، فإن قلمت أظافر (البغي) عاد الأصل المقرر في حفظ حرمات (الإنسان). والإنسان لا يستفيد كثيرا إن تبدلت مواضع (الظالم) و(المظلوم) في ساحة اللعب، ما دام لا يزال هناك ظالم ومظلوم….
فهذه الدولة الجديدة أغنى ب (الفكر) عن الحقد، وب(الحق) عن الهوى. وهي حريصة على أن ينتصب ميزانها الرشيد الأمين قائما شامخا لا يهتز أي اهتزاز، مهما زمجرت العواطف واشتعلت الانفعالات: ((ولا يجرمنكم شنئان قوم أن صدوكم عن المسجد الحرام أن تعتدوا، وتعاونوا على البر والتقوى، ولا تعاونوا على الإثم والعدوان، واتقوا الله، إن الله شديد العقاب)). (المائدة،3).
4- (دولة الهجرة) دولة عالمية
لتكون الدولة عالمية يجب أن تكون (الإيديولوجية)التي تقوم عليها عالمية، حيث لا تختص بجنس من الأجناس البشرية، وألا ينحصر تطبيقها في إقليم خاص أو بيئة معينة، وأن يكون امتداد هدايتها أزماناً طويلة تتجاوز العصر الذي بدأت فيه، بمعنى أن تكون(الإيديولوجية) (الدين) صالحاً لكل جنس وكل جيل، أو لكل زمان ومكان، أو بمعنى آخر أن يكون الدين شريعة الإنسان من حيث هو إنسان، بقطع النظر عن العوامل والفوارق العارضة، التي لا تدخل في ماهية الإنسان كإنسان، وبدون ذلك لا يتحقق معنى العالمية في أي دين.
وهو لا يكون ديناً عالمياً إلا إذا صحب الإنسان في جميع أزمانه المتطورة، وعصوره المتلاحقة، بمعنى أن يكون خالداً لا يعتريه نسخ أو زوال، ولا عقم أو جمود، موفياً بجميع مطالبه المتنوعة المتجددة في الميادين السياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية، وفي كل الميادين التي يزاول فيها الإنسان بعقله الواسع نشاطه الكامل من كل نوع. ولا يوجد دين من الأديان السماوية أو الوضعية فيه هذه المواصفات التي تجعله عالمياً إلا دين الإسلام.
وشاءتْ إرادة الله تعالى أنْ تُختمَ الرّسالات السّماوية برسالة الإسلام، وأنْ يكون النبي محمّد صلى الله عليه وسلم خاتم الأنبياء والمرسلين ورحمة للعالمين، فجاءت رسالة الإسلام عالمية لكل الناس مهما اختلفت ديانتهم أو أجناسهم أو ألوانهم أو لغاتهم أو منابتهم، وتلك من خصائص هذه الرسالة العظيمة ميزتها عما سبقها من الرسائل السماوية السابقة، حيث اتخذت طابع الخصوصية حينما كان النبي يُبعث إلى قومه خاصة، بينما بعث النبي محمّد صلى الله عليه وسلم إلى الناس عامة، حيث قال سبحانه: (وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا كَافَّةً لِّلنَّاسِ بَشِيرًا وَنَذِيرًا وَلَـكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)،(سبأ: 28 .((2)
إن الدولة الإيديولوجية بحكم طبيعتها الإنسانية المفتوحة (دولة عالمية)، والإنسانية اليوم تحلم بالدولة الإيديولوجية كما تحلم بالدولة العالمية العادلة. وقد عرف القرن الماضي ثنائية القوى العظمى (الكتلة الشرقية والكتلة الغربية)، فمن جهة: الديمقراطية الغربية والعالم الحر. ومن جهة أخرى: الديمقراطيات الشعبية الاشتراكية، وكل من الكتلتان تحاول تحقيق الطابع الأيديولوجي والعالمي والدولة المعاصرة.
أولا: الديمقراطية الغربية تبرز فلسفتها من الناحية الأيدولوجية في الجانب السياسي، وهو جانب بطبيعته عرضة للتغيير من وقت لآخر في الدولة الواحدة، ومن دولة لأخرى بالنسبة لدول العالم. ويظهر ذلك بمتابعة التطور الفقهي والتشريعي لموضوعات مثل: حق الانتخاب وفصل السلطات، والعلاقة بين رئيس الدولة ورئيس الحكومة والبرلمان، والتعرف على مدى الحق المقرر للقضاء في الرقابة على دستورية القوانين، وعلى الحريات الفردية، والمدى المسموح للدولة بالتدخل فيه، خاصة بعد أن أصبحت الدولة العصرية هي دولة الرخاء العام وليست مجرد دولة الأمن والسكينة وما إليها من معان تقليدية. على أن الديمقراطية الغربية تحاول أن تتعمق لتكون فلسفة في (التربية و السلوك) بوجه عام، ولها بالطبع انعكاسات في شتى مجالات نشاط الانسان…فالديمقراطية أكثر من مجرد شكل من أشكال الحكم، إنما هي جماع طريق حياة المجموع أو الأفراد…..(3)
ثانيا: أما الدولة الاشتراكية فالطابع الإيديولوجي أبرز فيها، لكن هذا الطابع يجنب أهله الشقاق، فمثلا بين الاتحاد السوفياتي والصين وإن كانت هذه الخلافات قد أعيطت لونا عقائديا، لكن هذا الطابع الإيديولوجي يهتز كثيرا جدا حين يختنق بمُسَلَّمات(الحتمية) التي تقوم عليها الفلسفة الماركسية، إذ يتيه الاختيار الحر للفرد في زحام الطبقة وحتمية
الصراع، ثم يضيع الاختيار الحر للفرد تحت مطارق (دكتاتورية البروليتارية) !!. وليس نجاح الكتلتان أكبر في مجال تحقيق (الدولة العالمية).
فالعالم الغربي الحر تنغصه الحزازات الأمريكية والوحدة الأوروبية، والحزازات الأمريكية الصينية والروسية، وأحيانا الحزازات التركية اليونانية، والملاحظ الآن الحزازات التركية والوحدة الأوروبية، فتكاد تتجمد هي الأخرى نتيجة تضارب الأهواء والمصالح.
والدولة الاشتراكية (عالمية) من الناحية النظرية، كما هي أيديولوجية، فالاتحاد السوفياتي سابقا لم يكن دولة قومية، ولا يتطلب حدوداً جغرافية معينة، إذ لا حدود له سوى اشتراكية فيديرالية سوفيتية مفتوحة لكل جمهورية اشتراكية حيثما وجدت في أي بقعة من الأرض مادامت ترغب في الاندماج داخل الجمهورية الفيدرالية للاتحاد السوفيتي.
ولكن العبرة في الطابع العالمي للدولة في طابعها الإيديولوجي القائم على الاختيار الحر، وتحقيقه للمساواة بين جميع عناصر التركيب الاجتماعي للدولة أفراداً أو أمما، وبهذا تختلف العالمية المعاصرة عن الإمبريالية القديمة، وقد انفجرت خلافات مذهبية خطيرة بين بعض الدول وتدخل الاتحاد السوفيتي عسكريا لإخماد ثورة المجر…لكن الظلم الاجتماعي والقهر الإنساني وانعدام الحريات والمكر الغربي من العوامل التي أدت إلى انفجار وتقسيم الاتحاد السوفيتي سنة 1989م بعد سقوط حائط برلين واستقلال كثير من الدول الاشتراكية….
أما (دولة الهجرة) فكانت عالمية كما كانت (أيديولوجية) على أساس من الواقع التاريخي الأمين…فقد تضمنت “مهاجرين من مكة”…لكن هؤلاء المهاجرين لم يكونوا من الضعف بحيث يكونون “لاجئين”، ولا من القوة بحيث يكونون (فاتحين). وتضمنت (أنصاراً) من يثرب، لكنهم في عددهم المحصور وقوتهم المحدودة لم يُكوّنوا جبهة غالبة كاسحة، بل كان يتربص بهم خطر مخالفيهم داخل مدينتهم ومن خارجها خطر مكة وقريش وقد آووا طريدهم !!
ومن هنا وجد (المناخ) الصالح لقيام الدولة العالمية، نتيجة حتمية لقيامها على الأساس الإيديولوجي، واجتمع في ظل لوائها على نفس الحقوق والواجبات عرب أقوياء وضعفاء، من قريش وغير قريش، ومن الأوس والخزرج، كما اجتمع عليها غير العرب ومن أمة اليهود على اختلاف قبائلهم.
وكان من حسن الحظ أن الإسلام تبرأ من أول يوم من حواجز الجنس والأرض واللون واللسان، واستهدف قيام الأخوة العالمية بين المؤمنين على اختلاف عقائدهم…ولما كانت دعوة الإسلام لم تأت من البداية إلى بلد معين، فإنها كانت خطوة تقدمية إلى الأمام نحو تحقيق ما بذلت المحاولات لتحقيقه من بعد، وهو تدويل المجتمع الإنساني. فإلى جانب عالمية (الدعوة) فإن الإسلام أقام نظام (الحج) ونظام (الخلافة) من أجل تحقيق هذا الهدف. (4)
ففي واقع التطبيق نرى (دولة الهجرة) دولة عالمية في عناصر تركيبها ووثائق تأسيسها، كما هي عالمية في أصولها ومبادئها الفكرية العقائدية العامة. فوثيقة المدينة هي كتاب رسول الإسلام الذي يحدد أسس الدولة الجديدة كما أورده ابن هشام…وقد ورد في دباجة الكتاب: {بسم الله الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمد النبي، بين المؤمنين والمسلمين من قريش ويثرب ومن تبعهم فلحق بها وجاهد معهم، إنهم أمة واحدة من دون الناس….}.
وفي هذا إعلان صريح للأساس الإيديولوجي العالمي للدولة الجديدة، إنها أمة الفكرة والعقيدة (من دون الناس) باب الولوج إليها هو الإيمان بمبادئها، ويستوي في الانتماء إليها أهل (مكة) وأهل (يثرب)، وقبيلة (قريش) وغيرها من تابع وجاهد. وهذا الرباط العالمي لا يقطع الوشائج القريبة وما تعين عليه من تعاون أهلي وخدمات محلية. وعلى هذا الأساس الإيديولوجي العالمي في تكوين (الأمة) تمارس الدولة سيادتها وسلطتها العليا في الداخل والخارج.
ف(دولة الهجرة) تمارس سيادتها وسلطتها على أساس المساواة الشاملة والعدل المطلق، وهي لا تقتلع عصبيات الدم والأرض لتَصطَنع عصبية أخرى، إنها تفتح أبوابها لمختلف الأديان ما برئت من نزعات العدوان: {وإنه من تبعنا من يهود، فإن له النصر والأسوة غير مظلومين ولا متناصرين عليهم…وإن يهود بني عوف مع المؤمنين لليهود دينهم وللمسلمين دينهم ومواليهم وأنفسهم، إلا من ظلم وأثم فإنه لايوتغ إلا نفسه وأهل بيته…}.
فحقا لم تكن (دولة الهجرة) دولة قبيلة أو دولة مدينة…ولم تكن دولة دم ولا أرض.
(ولقد كتبنا في الزبور من بعد الذكر أن الأرض يرثها عبادي الصالحون…)(الأنبياء 105).
(وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الأرض ومغاربها التي باركنا فيها…)(الأعراف 137).
وقد مثلت “وثيقة المدينة” عهدًا وميثاقاً قانونياً وحقوقياً يحدد العلاقة الاجتماعية بين مختلف مكونات مجتمع المدينة وضوابطها وحدودها بتفصيل يوضح الحقوق وواجبات كل عنصر من عناصر المدينة، كما يؤكد مبادئ المواطنة وواجباتها، واحترام التعددية العقدية والقومية، كما تعتبر هذه الوثيقة أصلاً تفرعت عنه نصوص القانون الدولي في الإسلام، وتنظيم العلاقات بين مختلف الفئات باختلاف عقائدها ومواطنها.(5)
“فميثاق المدينة أنشأ مجتمعاً مدنياً عالمياً قائماً على الولاء التعاقدي بين أفراده وجماعاته، متنوع في انتمائه الديني، من خلال الالتزام بمجموعة من المبادئ الأخلاقية الكلية التي شكلت الميثاق المدني، وأخضعت ولاء العضوية للجماعات السكانية المختلفة (من مسلمين ويهود ومشركين) إلى الولاء التعاقدي”.°°
فالرسول صلى الله عليه وسلم عمل على إيجاد مجتمع موحد تربطه أواصر الأخوة الإنسانية، والمودة والرحمة، والعدالة الاجتماعية في الشئون العامة للدولة الإسـلامية الجديدة، فظهر في المدينة أول مفهوم “للأمة”..
فالمقصود هنا بالأمة أولئك الذين يعبر عنهم القرآن غالبا بالناس، فالرسول أرسل للناس كافة، بالمعنى الواسع للكلمة. العالم كله هو مجال الدعوة، والناس في العالم بالتالي أمة محمد صلى الله عليه وسلم (أمة الاستجابة وأمة الدعوة).
فأول مفهوم للأمة ظهر في المدينة من خلال بنود الوثيقة: “فهي كيان اجتماعي سياسي، يقوم على أساس “الفكرة والعقيدة”، لا على أساس الدم، أو على أسس بيولوجية، لا تحُدها لغة أو جنس أو وطن، ولا تصادر الأفكار والعقائد الأخرى، بل لها من الرحابة ما تستوعب به العناصر الأخرى دون صهر أو تذويب، قابلة للتوسع والتقلص تبعا لعدد من ينظم إليها أو يتركها باختياره”. والطريف هو أن هذه “الوثيقة” التأسيسية استطاعت أن تستقطب وتقود كل هذه الأمشاج وهذا الشتات المجموع جمع توليف لا تعسف وفق تصور جديد قائم بالأساس على مفهوم “الأمة” ذي الطابع السياسي والمدني لا العقدي الديني.(6). وعلى هـذا الأساس فتحت «الوثيقة» المجال لكـل من يريد الالتحاق بالأمة ولو من خارج حدود المدينة؛ لأن كلمة «الأمة» هـنا، ليست اسما للجماعة العربية القديمة التي تربطها رابطة النسب بل هـي تدل على الجماعة بالمعنى المطلق»… «فدخلت بناء على هـذه القاعدة طوائف وأعراق متعددة دون أن يضع الرسول صلى الله عليه وسلم أية حواجز أو عقبات تمنعها أو تحول بينها وبين المشاركة في حياة العالم الإسلامي؛ لأن الحدود القبلية أصبحت غير معترف بها رسميا في الدولة الجديدة».°°
«… فاليهود الذين حالفوا المسلمين (أمة مع المؤمنين)، وليسوا جماعة سياسية منفصلة، فهم يشكلون أمة بالمعنى السياسي وليس العقدي (لليهود دينهم وللمسـلمين دينهم)، فيكـون المجتمع الجديد أمة واحدة بالمعنى السياسي وأمتين بالمعنى العقدي» (7)
وتعد هذه الوثيقة أول دستور مكتوب في التاريخ يعترف بحقوق المواطنة لجميع سكان الدولة باعتبارهم (أمة من دون الناس)، فهم جميعا شركاء في نظام سياسي واحد، يضمن لهم حقوقًا متساوية، ويستظلون بحماية الدولة، مقابل أدائهم واجباتهم في الدفاع عنها، لذا فقد رضي سكان المدينة كلهم، بها دستورا حاكمًا بينهم، لما وجدوه بها من عدل ومساواة.
فالنظام السياسي الإسلامي الجديد تبنّي “مبدأ التسامح الديني المبني على حرية اعتقاد أفراد المجتمع”، فالوثيقة كفلت الحرية الدينية لليهود، واعتبرتهم “أمة مع المؤمنين”، وضمنت لهم ما يشبه الحكم الذاتي وخاصة فيما يتعلق بشؤونهم الدينية وأحوالهم الشخصية. °°
ولا نكاد نعرف من قبل دولة قامت منذ أول أمرها على أساس دستور مكتوب غير هـذه الدولة الإسلامية، فإنما تقوم الدول أولا ثم يتطور أمرها إلى وضع دستور. ووثيقة المدينة تعتبر أول دستور في التاريخ ينظم العلاقة بين جميع سكان الدولة باعتبارهم (أمة من دون الناس)، فهم جميعا شركاء في نظام سياسي واحد، يضمن لهم حقوقًا متساوية، ويستظلون بحماية الدولة، مقابل أدائهم واجباتهم في الدفاع عنها، لذا فقد رضي سكان المدينة كلهم، بها دستورا حاكمًا بينهم، لما وجدوه بها من عدل ومساواة.
وتعتبر هذه الوثيقة أصلاً تفرعت عنه نصوص القانون الدولي في الإسلام، وتنظيم العلاقات بين مختلف الفئات باختلاف عقائدها ومواطنها. والإسلام لا يرى حرجا في وضع دستور مكتوب للوطن الذي يتكون من مجموعات مختلفة يوحدها العيش المشترك في حدوده، يكفل للجميع ما كفلته وثيقة المدينة من حقوق وواجبات.°°
5- (دولة الهجرة) دولة العقد والتضامن الاجتماعي
لقد أجهد الفلاسفة والمفكرون عقولهم ليُقيموا شرعة العدل ويدفعوا أي تسلل للظلم…
فالاتجاه الأول: عمد إلى بحث (أصل نشأة الدولة) ليتوصل منها إلى مصادرة أي طغيان من الأساس، واقتلاع جذور الاستبداد من المنبت. فذهب جان جاك روسو (أبو الديموقراطية) في كتابه المعروف (العقد الاجتماعي) الذي ظهر سنة 1762م إلى أن الدولة ترجع في أصل نشأتها إلى (عقد) اتفق الأفراد بمقتضاه على الخروج من تلك الحياة الطبيعية البدائية (Etat nature) … حياة لا يخضعون فيها لسلطان عليهم، وليست فيها قيود تقيد حريتهم، كما اتفقوا على تكوين مجتمع سياسي يخضع لسلطة عليا، أي أنهم “تعاقدوا على إنشاء دولة”.
وهكذا يُرجع (العقد الاجتماعي) نشأة الدولة إلى (الإرادة العامة للأمة)، وبذلك تكون السيادة للأمة ولا تكون السلطة التي تمارسها الدولة مشروعة إلا حينما تكون وليدة الإرادة العامة للأمة. (8)
وقد بحث الأستاذ الدكتور السنهوري في كتابه ((Le califat (الخليفة) في طبيعة (عقد الإمامة) فقال: {إنه عقد مستوف للشرائط من وجهة النظر القانونية، فهو مبني على الرضا، وغايته أن يكون المصدر الذي يستمد منه الإمام سلطته، وهو تعاقد بينه وبين الأمة…}
وقد أشار الدكتور السنهوري إلى أن روسو في نظرية (العقد الاجتماعي) لم يبتعد عما قاله فقهاء الإسلام: بأن الحاكم يتولى سلطته من الأمة نائبا عنها نتيجة لتعاقد حر بينهما، كما عرّفوا نظرية السيادة كما ذهب إليها (روسو) مع ميزات خاصة في الفقه الإسلامي(9)
ويعالج الدكتور ضياء الدين الريس هذه الحقيقة مبرزاً المدى الذي وصله الفكر الإسلامي في أبحاثه القانونية بقوله: {هكذا قبل مجيء روسو وأتباعه بقرون عديدة…وذلك أيضا مع فارق، فإن العقد الذي تكلم عنه(روسو) كان مجرد افتراض لأنه بناه على حالة تخيلها في عصور ماضية سحيقة ولا يوجد عليها برهان تاريخي، بينما (نظرية العقد الإسلامية) تمتد إلى ماض تاريخي ثابت هو تجربة الأمة في خلال العصر الذهبي للإسلام…}(10)
“ومن خلال تحليل تلك التجربة، يتضح إن الإسلام يعتبر الجماعة التي تحكم بموجب أحكامه وحدة إنسانية بغض النظر عن طائفتها وجنسها، فكل من يحمل تابعية الدولة يتمتع بالحقوق التي قررها الشرع له سواء أكان مسلماً أو غير مسلم. ويُطبَّق الإسلام على جميع الرعايا باعتباره قانوناً للجميع، فحين تطبق أحكام المعاملات والعقوبات مثلاً، ينظر إلى الناحية التشريعية القانونية، لا الناحية الروحية الدينية، وجميع الناس لهم الاعتبار الإنساني فقط ….
“فالمجتمع السياسي الذي أنشأته وثيقة المدينة، هو مجتمع تعاقدي متنوع في انتمائه الديني، والوثيقة أسست لعدد من المبادئ التعاقدية المهمة، التي شكلت بمجملها الميثاق السياسي للمدينة الذي حدد حقوق وواجبات أعضاء المجتمع السياسي الجديد، مسلمين وغير مسلمين، وصاغ البنية السياسية للنظام الناشئ. ف«دستور» المدينة، الذي تعاقد فيه المسلمون مع غيرهم من أهل الديانات الأخرى نشأ عنه أول ميثاق -عصبة أمم-أساسه النصر للمظلوم، والنصح والنصيحة، والبر دون الإثم، وحرمة الوطن المشترك. والمتعاقدون لا ينبغي أن يؤدي اختلافهم في أديانهم إلى أن يقتل بعضهم بعضا أو يعتدي بعضهم على بعض، بل يجب أن يتعاونوا على فعل الخير ومكافحة الشر، لأن “دولة الإسلام دولة «الحرية» لا «الحتمية»، قامت على أساس إنساني مفتوح”، قال تعالى:﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلَا تَعَاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ﴾.(المائد:2).”°°
فكان -هـذا الدستور-الأساس المتين للدولة العالمية، وللمعاملات الدولية القائمة على أساس الحرية للمشتركين فيه وعلى مبدأ الاستقلال، كما أنه أعطى كل ذي حق حقه، فلا ظلم ولا أنانية ولا تحيز لطرف على آخر(11).
الاتجاه الثاني: عمد في الفقه الدستوري والفلسفة السياسية إلى بحث (أركان الدولة) مقررا أن سيادة الدولة ترتبط ويجب حتما أن ترتبط بمبادئ عليا، فسلطة أو سيادة الدولة ليست مطلقة بل هي مقيدة، وكان مرد هذه العناية في وضع حدود أو قيود على سلطة الدولة إلى الرغبة في تقديم ضمانات للأفراد ضد استبداد الحكام. لكننا لا نجد اتفاقا على (ماهية) هذه القيود أو المبادئ العليا أو على (السلطة) التي تفرض هذه القيود أو المبادئ العليا، أو على(قيمة) هذه المبادئ: هل هي قيمة قانونية، أو سياسية، أو أدبية بحتة.
لكن من أعلام فقه القانون العام في فرنسا (ديجيDuguit) فإنه يطلق على هذا القانون العام” القاعدة القانونية” “La règle de droit” وتحمل في طيها جزاءها الاجتماعي (sanction sociale)، ذلك أنها وليدة رابطة ” التضامن الاجتماعي”(solidarité sociale)، وهكذا يجعل(ديجي) للقانون مصدرا خارجا عن إرادة الدولة ليكفكف من غلوائها. وقد أتعب الفقيه الكبير عقله وأكد فكره، ثم انتهى بعد عناء إلى أن ” القاعدة القانونية” مسألة ضمير (Affaire de conscience)، فتاريخ ميلادها حين يحس ضمير المجتمع إحساسا قويا أنها ملزمة للدولة إإ.
فما السبيل إلى تحديد هذا الإحساس وقياس درجته؟؟. وما السبيل إلى تبين أنه ارتفع إلى مستوى التعبير عن المجتمع وليس مجرد تقدير خاص لفرد معين.؟؟ (12)
“فبالنسبة للتضامن الاجتماعي الذي ذكره (ديجي Duguit) “فإن «دستور» الدولة الإسلامية قد اعتنى بالفرد اعتناءه بالجماعة على حد سواء، فبينما حدد مسئولية الفرد أمام المجتمع، نجده يدمج بينها وبين مسئولية المجتمع عن الفرد في مسئولية مشتركة كي تصبح كلا لا يتجزأ، لأن كل ما يخص الفرد يفضي في النهاية إلى المجتمع إيجابا أو سلبا، إذ المجتمع في آخر المطاف، هـو هـذا الفرد الذي يشكل الأساس لقيامه على أسس سليمة ومتماسكة. فكل فرد في المجتمع مسئول عن أداء واجب معين، ومسئول مسئولية شخصية.”
“فالمسئولية والحرية ترتبطان في منظور «الوثيقة» بالكرامة الإنسانية ارتباطا وثيقا، فالله سبحانه وتعالى – الذي كرم بني آدم – هـو الذي جعل الإنسان مسئولا عن عمله، فردا وجماعـة، لا يؤاخذ واحد بوزر واحد، ولا أمة بوزر أمة: ﴿ …كُلُّ امْرِئٍ بِمَا كَسَبَ رَهِينٌ ﴾(الطور:21). وأن وجود الأمة لا يعني القضاء على كيان الفرد ومكانته، فالمسئولية المدنية والأخلاقية والدينية فردية. وقد جعل الإسلام العقيدة هـو الأصل الأول الذي يربط بين أتباعه، لكنه اعترف بارتباطات أخرى تندرج تحت رابطة العقـيدة وتخدم المجتمـع وتساهم في بناء التكافل الاجتماعي بين أبنائه.
“فـ«الوثيقة » لم تفقد العرف قيمته كلية، بل أقرته، لذا فهي تبقي على الأعراف الصالحة، وتلغي أو تعدل ما كان فاسدا أو متعارضا مع مبادئ الإسلام الأساسية، وهذه هي طريقة الإسلام في تشريعاته كلها. إذ كان يقصد بالضمان الاجتماعي التزام الدولة الإسلامية بتقديم المساعدة للمحتاجين في الحالات الموجبة، ويراد بالتكافل الاجتماعي التزام الأفراد بعضهم نحو بعض، وقد طبقت هـذه العلاقة (ما بين الضمان والتكافل الاجتماعيين) خاصة عند التزام الأفراد بواجـب (التكافل الاجتمـاعي) الذي يخفف أعـباء الدولـة في واجبها (الضمان الاجتماعي).”°°
لكن شريعة الإسلام تُعلي” مبادئها الإيديولوجية العامة” لتجعلها حاكمة على كل تشريع. ولا يشق على الفقه الإسلامي تقرير أساس هذا العلو أو مصدره، ولا تحديد ماهية هذه المبادئ العليا، أو الجزاء المترتب على إصدار تشريع مخالف لها… ذلك أن (دولة الهجرة) تقوم على أن السلطة الحاكمة العليا هي (الله)…هي القوة المحايدة التي تقرر المبادئ والموجهات العامة، إذ هي لا تميل مع فرد أو جماعة، ولا تنحاز لحاكم أو محكوم.
يقول تعالى:((يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تومنون بالله واليوم الاخر، ذلك خير وأحسن تاويلا))(النساء،59).
ويعلق الإمام ابن القيم على الآية الكريمة فيقول: {..فأمر بطاعته وطاعة رسوله وأعاد (الفعل) إعلاما بأن طاعة الرسول تجب استقلالا من غير عرض ما أمر به على الكتاب…ولم يأمر بطاعة أولي الأمر استقلالا، بل حذف الفعل وجعل طاعته في ضمن طاعة الرسول، إيذانا بأنهم إنما يطاعون تبعا لطاعة الرسول}.(13)
6-دولة الهجرة (هجرة إلى العقيدة)
هكذا قامت (دولة الهجرة) على الفكر والاختيار الحر…وكانت دولة إيديولوجية عالمية ذات طابع فذ في التاريخ، ذلك لأن حجر الأساس في الدين نفسه على اختلاف رسالات الأنبياء وشرائعهم، أنه يقوم على أصوله الاعتقادية، وهذه لا تُقبل إلا على أساس الفكر والاختيار الحر. والامتحان الحقيقي الذي يواجه الدين عامة في عصرنا هو في أساسه العقدي، لأن الهدف الحقيقي الذي توخته الديانات هو في إرساء أساس العقيدة لتحقيق سعادة الإنسان.
و{معجزة النظام} في الدين هي في أصوله العقدية التي يُرسيها في أعماق النفوس لتكون مصدرا دائما ورصيداً متجدداً للنظام. ونظرة إلى رسالات الله المتتابعة ترينا أن اختلاف شرائع الله على مر العصور، لم تحجب المجتمعات عن الإفادة من حكمة الدين الأساسية وأصله الجامع من (العقيدة)، فعن طريقها يسمو الدين بدوافع الخضوع في نفوس البشر حتى لا يُساء استخدامها في الانقياد للناس والأهواء، ويحكم صمامات النفس بعروة العقيدة الوثقى، فلا يَأسَ ولا بَطرَ، وبصرف مشاعر الخوف والرجاء إلى من لا يَتجبَّر بها بغير الحق، إذ هو غني عن العالمين…
وفي خلال الربع الأول من القرن العشرين ظهر كتاب (ألبر شفيتزر) الطبيب الفيلسوف الألماني (فلسفة الحضارة)، وقد تراوحت تواريخ إعداد فصوله ما بين 1914-1923م. فلنستمع إليه يقول:”…الخاصية المروعة في حضارتنا هي أن تقدمها المادي أكبر بكثير جدا من تقدمها الروحي، لقد اختل توازنها! … لكن الحقائق بدأت تدعونا إلى التفكير، إنها تقول بلسان حاد: إن الحضارة التي لا تنمو فيها إلا النواحي المادية دون أن يواكب ذلك نمو متكافئ في ميدان الروح، هي أشبه ما يكون بسفينة اختلت قيادتها ومضت بصرعة متزايدة إلى الكارثة التي ستقضي عليها !! فالطابع الجوهري للحضارة لا يتحدد بإنجازاتها المادية، بل باحتفاظ الأفراد بالمثل العليا لكمال الإنسان وتحسين الأحوال الاجتماعية والسياسية للشعوب والإنسانية في مجموعها، وأن تكون عادات التفكير خاضعة لهذه المثل بطريقة حية ثابتة… لقد أسكرنا التقدم في الكشف والاختراع الذي غمر هذا العصر فنسينا أن نهتم بتقدم الإنسان في غير المادة، انزلقنا دون تفكير ولاوعي إلى نوع من التشاؤم، هو الإيمان بكل أنواع التقدم دون الإيمان بتقدم الروحي للفرد وللإنسانية”(14)
” ….لكن حماستنا للتقدم في المعرفة وأسباب القوة التي بلغناها جعلنا نتصور الحضارة تصورا ناقصا معيبا، فإننا نغالي في تقدير انجازاتنا المادية ولا نقدر أهمية العنصر الروحي في الحياة حق قدره !!. لقد فقد الإنسان توازنه بين علمه المادي الصاعد وجهله الروحي الهابط، فأصبح أحْوَلَ البصر لا يستقيم له ميزان، أعرج الساق لا يثبت على صراط. وفقد روحه يوم أضاع إيمانه، وفقد سعادته يوم أن ربطها بقوة المادة وغفل عن قوة الله. فأحس الإنسان العظيم بالفراغ الهائل في آفاق روحه والتباين الكبير بين ألوان حياته، فأخذ يستعيض عن الحقيقة بالخيال، وعن الأصل بالصورة”(15)
وللفيلسوف الألماني(سبلنجر) كتاب اسمه (أفول الغرب) قرر فيه: “أن الحضارة الأوروبية طغت فيها المادة على الروح، وهذا بداية النهاية لها رغم ما تخدع به البصر من التقدم العمراني والمادي”. ثم يقول:”….وما مرحلة الحضارة المالية إلا غمرة المدنية المضللة ببهرجتها الذي يستر فقرها الروحي، فهي سائرة بخطى واسعة إلى الفناء المحتوم الذي أصاب الحضارات السابقة، ذلك سنة الوجود ولا راد لأمر الله”. ثم يقول:”…إن الحضارة دورات فلكية تغرب هنا لتشرق هناك، وإن حضارة جديدة أوشكت على الشروق في أروع صورة، هي حضارة الإسلام الذي يملك أقوى روحانية عالمية نقيةّ”.
خواء الروح
إن الحضارة الغربية ورغم إشباعها للجانب المادي عبر الطفرة المادية الجامحة التي غزت العالم بأسره وهيمنت على كل نواحي الحياة فيه بصورة طاغية، قد خلقت واقعاً شائهاً من خلال تركيزها على “الماديات” وإهمالها الكامل للجانب “الروحي” الذي يمثل شقاً مهماً وضرورياً بالنسبة للإنسان الذي يتكون من جسد وروح، وأن ثمة ضرورة لإشباع حاجات الإثنين معاً بصورة متوازنة تلافياً لأي خلل في تكوينه النفسي أو الوجداني. فالشق الروحي في الإنسان يتغذى بالمعتقدات الدينية (خاصة العقيدة الإسلامية)، نظراً لأنها تزرع الطمأنينة والأمن والسلام الداخلي في الإنسان، كما تمثل بلسماً شافياً له من أدواء العصر. وبدونها (العقيدة) يدخل الإنسان في غربة روحية ومتاهة نفسية تقذف به بعيداً عن الحياة السويّة الخالية من العقد والتوترات. وقد تولدت عن المنحى “المادي” المذكور حالة من التيه والضياع تمثلت في العديد من السلوكيات الشاذة في الغرب وتجسدت في الانحطاط الخلقي للإنسان في أبشع صوره وتدلل على بهيميته المختزنة في تلافيف إنسانيته. (التفسخ الأخلاقي، إدمان المخدرات، ارتفاع نسبة الجريمة والانتحار، العديد من أنماط الشذوذ والانحراف) التي سادت العالم الغربي تأكّد على تجذر الجوانب السلبية في النفس البشرية التائهة. أما عن التفكك الأسرى فحدث ولا حرج.
يقول الفرنسي روجي جارودي: “أن الحضارة الغربية عبارة عن مظهر باهر بلا جوهر وذلك تعبيراً عن غرقها في “الماديات” وتجاهلها التام للروحانيات” مما أفرز مجتمعات ظاهرها السعادة وباطنها التعاسة والشقاء، حيث الضلال، والقلق، والتوتر الدائم، والأمراض النفسية المتباينة. ..ونحن اليوم نلاحظ أن كثرة ما يحيط بنا من أشياء قد صرف أذهان كثيرين منا عن الاهتمام بتزكية سرائرهم وإثراء أرواحهم، مع أن الفقر الحقيقي هو فقر الروح وقحط المعنى، وقد صدق الذي قال: “إن رجلاً لا مال له، هو رجل فقير، وأفقر منه رجل لا يملك سوى المال”.
إن (خواء الروح) كثيرًا ما يتمثل في ذلك الشعور العميق في الاحتياج الشديد إلى المال والشهرة والنفوذ وتقدير الآخرين والأنس بهم، ومن الطبيعي أن يكون (الامتلاء الروحي) عبارة عن شعور قوي بالاستغناء الداخلي عن الكثير من هذه الأمور. فمعظم الناس أرواحهم خاوية؛ لأن الخواء هو الأصل، وهو الشيء السهل، أما (الامتلاء الروحي) فهو ثمرة جهد ومجاهدة وتبصُّر، وهو عنوان لوضعية عامة لشخص من الأشخاص. فالامتلاء الروحي هو عاجل الجزاء لأولئك الذين أدركوا في الوقت المناسب أن كل ما بين أيديهم من علم وقوة ومال، وجمال ونفوذ ووجاهة، عبارةٌ عن وسائل يجب أن تُستخدم في تحقيق الهدف الأسمى. وحين تصبح الوسائل غايات، فإن ذلك لا يعني سوى شيء واحد.. هو فَقْد الاتجاه، وضياع المعنى.
كيف نخطئ في تقديمنا للناس دين الإسلام؟
يبدو أن عرضنا للدين حتى في صورته المعاصرة لا يخلو من قصور وتَجَنّ، فالمذاهب والنُّظُم التي يرج بها العالم جعلتنا نعرض الإسلام في صورة نظام سياسي، أو نظام اجتماعي، أو نظام اقتصادي، وغفلنا أن لكل نظام أساسه الفلسفي:
– فالشيوعية فلسفتها في المادية الجدلية.
– والديمقراطية فلسفتها في الحرية الفردية.
– والليبيرالية فلسفتها في الحرية في كل مجالات الحياة.
– والعلمانية فلسفتها في فصل الدين عن مجالات الحياة جزئياً أو كلياً.
ومنها ينبغي أن نعطي جد اهتمامنا لعرض الأساس الفلسفي للإسلام متمثلا في عقيدته وأصوله الفكرية الكبرى…
لأن الاحتياج الحقيقي الذي يلح على الإنسان في عصرنا هو في الجوعة الروحية النفسية.
فالمذاهب والنظم الوضعية العصرية قد حققت على اختلاف مناهجها وأساليبها كثيرا من مطالب الإنسانية المادية والتنظيمية، وبقي الفراغ المهول يطل من وراء المادة أو من وراء التنظيم، وتراقصت (المادة) نفسها باضطراب نفوس العاملين فيها، واهتز التنظيم من جراء أزمات الأفراد والجموع !!
ونحن معاشر الإسلاميين نخطئ كثيرا حين نقدم الدين إلى الناس كمجموعة من الشعائر التعبدية، أو أحكاما شرعية في الحلال والحرام، كما أننا حين نتعلم الدين ونعلمه نبدأ حيث تأخر الوحي.. نبدأ بالشرائع التي لم تنزل إلا بعد الهجرة ب(ثلاثة عشر سنة بعد البعثة)…فيفتقد تفكيرنا المنافذ ولا تتفاعل مع نفوسنا الأصول، وتحجزنا عن الانطلاق أسوار وأشكال وألفاظ، إما أن نحطمها فنحطم الدين معها-فهذا ما فهمناه-وإما نسجن داخلها صاغرين. !!
لقد خلطنا بين مصدر(الدين) الخالد وبين ثماره النامية وآثاره المتجددة(التدين)، فصارت لدينا صورة واحدة مُعادة متكررة لفترة زمنية لكتاب يضم مائة وأربعة عشر سورة، بجانب كتب أخرى لآلاف الأحاديث النبوية، ومئات الآلاف من الكتب تتعلق بهما في أزمنة مختلفة ماضية، ولم تتغير صورة الكتابين ولن تتغير، اللهم في كيفية وأسلوب طباعتها بعد أن كانا ينسخان على ورق منشور. لكن ينبغي أن يكون للكتابين في كل جيل بل في كل فرد آثار في حياة الفكر، وفي حياة العمل. !!. “لكننا لو تعلمنا الدين وعلمناه للناس كما نزل، وذلك باتباع المنهج الرباني الذي التزمه الحبيب المصطفي صلى الله عليه وسلم، لبدأنا بالعقيدة أولاً، فهي الأساس الذي إن تقبله الناس أفادوا من الشعائر وتشربوا الشرائع واعتادوا على الآداب… فالعقيدة هي التي تبني في صميم الوجدان: أخلاق الفكر وأخلاق النفس وأخلاق السلوك.
والعقيدة في الإسلام أولها المعرفة:(اقرأ باسم ربك الذي خلق..)، (إنما يخشى اللهَ من عباده العلماء..).
وهذا المنهج الرباني هو الذي أخرج جيلا فريداً كما قال الشهيد سيد قطب رحمه الله. فلنأخذ من الدين دفعة الحياة، ثم نخوض به واقع الحياة.”(16) “فالعبادات في الإسلام ليست شعائر فحسب، إنما هي الحياة والتسامي والتذوق العالي. لقد جاءت لتصوغ المسلم قلبا وروحا وخلقا وسلوكا، صياغة تجعله يحلق في الأفق الأعلى، وتُحيلُه إلى صورة حية لآيات القرآن وخُلُق الرسول..
صياغة تجعله طاقة كونية فعالة مُهيمنة ومُوَجّهة لكل شيء. طاقة عزيزة أَبيَّة لا تَذّلُ ولا تَضعُف، ولاتَهنُ ولا تَجبُن، تواجه الأحداث في ثقة، وتجاهد في قوة، وترفع رأسها في عزة، ولا تستسلم لرهبة أو رغبة.”(17)
فالدين في أصله وحقيقته أرحب وأعمق، فالله أودع سر الخلق في قوله (كن)، لينبثق من هذه الكلمة كون وحياة، ثم لا يفتأ الكون يتطور ويتمدد، ولا تنفك الحياة تتدفق وفق سنن متعددة متباينة متقابلة متكاملة. وكما ينبسط نطاق المخلوقات التي انطلقت عن إرادة الخالق الكائنة في كلمة من حرفين… ينفسح مجال الحياة الذي تمخضت عنه أصول الحياة، وكذلك يكون (الدين)…إيمان بالله يعمر دنيا الناس، وعقيدة تخلف حضارة، وعبادة تربي مجتمعا وأجيالا، وهو انطلاق للحياة على الأرض، وحينها يشع (الدين) على النفس والعقل والسلوك والتشريع، دون أن ينحصر في مجموعة من الكلمات والتعاليم والمظاهر الجامدة المتناهية التي تضمها الأوراق وتتناقلها الشفاه !!.
ف(الدين) ليس مجرد رسوم وتعابير هامدة تكرر نفسها دون تجديد، بل هو يخلق حضارة في كل أرجاء الحياة.. حضارة تتجدد وتتطور كلما تتابعت الأجيال وتطورت البيئات. إنها الحياة…نمو ورقي…تطور وامتداد.
“((يا أيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور، وهدى ورحمة للمؤمنين…)).(يونس،57).
– و(موعظة الله) ليست هي الكلمات المحدودات التي تحتويها دفتا المصحف، وإنما الحقيقة الهائلة التي تُودعُها الكلمات في الفكر الإنساني… ف(الدين) مَوْعظة العقل: لينطلق العقل المؤمن من بَعدُ فيُبدع إبداعه الخلاق.
– و(شفاء الصدور) ليس باللحظات المحدودات التي تومض فيها ألفاظ القرآن أمام الأبصار أو الأسماع، وإنما هو بتربية النفس السوية البريئة من الذّهان والعصاب، والفصام والعُقَد، والعلل والأسقام. و(الدين) شفاء النفس: حتى لا تعوق أزماتها قوى الإنسان الراكضة في الآفاق.
– و(الهدى) و(الرحمة) كلمتان كبيرتان لا يُعقَلُ أن ينحصرا في شعارات أو شعائر، إن الهدى نور يضئ كل فج في كل وقت، والرحمة نعمة سابغة تستغرق كل بني الإنسان في كل بقاع العالَمَيْن !!.
– و(الدين) هدى ورحمة للفرد بكل طاقاته، وللمجموع البشري بكل أفراده، حتى لا يستنزف الصراع المتخبط دون طائل قطرة من دم، أو نفْساً من حياة، أو ذرة من مادة.
– ف(الدين) شحنة حياة، تختلط بالنفس والحس والفكر والوجدان… وتنمو في البيئة النفسية والعقلية للفرد أولا، ثم تهيج فتطفر إلى رحاب الأرض…”(18)، فأين طلاب (الدين)… من حقيقة (الدين)؟؟؟
حلول لمشكل من مشاكل العصر..
إن الرجل المعاصر لم يَعُد يَشعُر بدافع إلى التفكير في المُثُل العليا للتقدم والسعي إليها، بل استسلم للنزعة الواقعية، ومن ناحية أخرى نراه يصرح بالتشاؤم لأنه أصبح لا يؤمن بالتقدم الروحي والأخلاقي للناس وللبشرية، مع أن هذا التقدم الروحي والأخلاقي هو العنصر الجوهري في الحضارة. وهذا سببه طابع نظرته الكونية التي تعاني أزمة منذ منتصف القرن التاسع عشر، نظرته للكون والحياة والإنسان.
فالمسألة الكبرى عندنا إذن هي ما إذا كان علينا أن نتخلى نهائيا عن النظرة الكونية التي تحمل في داخلها المثل الأعلى، لا كمال الإنسان بعامة، وكذلك النشاط الأخلاقي. فإذا نجحنا في إعادة تقرير نظرة كونية على نحو مقنع، فإننا نستطيع الهيمنة على انحلال الحضارة المتواصل، وبلوغ حضارة حية حقة من جديد.
فالرجل العصري لا يزال خاليا من الشعور الصحيح بالمعنى الكامل لهذه الحقيقة، وهي أن يعيش على فلسفة غير مُرضية، أو لا يعيش على أي فلسفة !!.
فعلينا أن نهز الناس في هذا العصر وندفعهم للتفكير الأُوَّلي في حقيقة الإنسان، ومكانته في هذا العالم، وماذا يريد أن يفعل بحياته…. لأنهم حين ينطبعون بضرورة إعطاء معنى وغاية وقيمة لوجودهم، فسيشعرون بالتعطش إلى إيجاد نظرة كونية شاملة لمتطلبات الجسم والعقل والروح، وحينها ستتوافر الأسباب الأولية لقيام أحوال روحية نستطيع فيه من جديد إنشاء حضارة…
روى الطبري من أخبار سنة (14ه) في (ابتداء أمر القادسية) أن ربعي بن عامر دخل على (رستم) في مجلسه فسأله: ما جاء بكم؟….فقال: ” الله ابتعتنا لنخرج من شاء:
من عبادة العباد…. إلى عبادة الله. – ومن ضيق الدنيا…. إلى سعتها.
ومن جور الأديان….إلى عدل الإسلام . – فأَرْسَلَنا بدينه إلى خلقه، لندعوهم إليه..”.(19)
فالإسلام لا يُعلن النضال إلا لحماية حق الإنسان في الاختيار الحر…. ليكون الفيصل في قضايا الفكر: هو اقتناع(العقل) لا (رهبة السلطة)…. إنه يدفع القوة بالقوة ليكون (الدين) لله، لا تحت سلطان أحد من (الناس) !!.
حتى لا تكون فتنة، ويكون الدين لله. ((فإن انتهوا…فلا عدوان إلا على الظالمين)).
إن غاية الإسلام الكبرى هي تأمين الحرية لكل بني البشر…. ثم ليعتنق الناس بعد ذلك ما يشاؤون من أفكار أو دين. فلهم كامل حرية الاختيار، إذ لا إكراه في الدين، ولا يجبر الناس حتى يكونوا مؤمنين !!. والحمد لله رب العالمين…
كتبه عبد الرزاق سماح: كاتب في الفكر والحركات الإسلامية
_________________________________
(1) د. فتحي عثمان، الدين والواقع، فصل: بصائر من ربكم.
(2) مقال لي: رسول أمي.. بدين عالمي.. وبشريعة رحمة لِلْعَالَمِينَ(2). منشور على الشبكة.
(3) أوستن راني، سياسة الحكم، ترجمة د. حسن زنون، ص 261-262 بتصرف.
(4) د. حميد الله الحيدر أبادي، دولة الإسلام والعالم، مترجم للعربية، ص 65-74 بتصرف.
(5) رشيد، كهوس، فقه السيرة النبوية-المفهوم والأسس والنماذج، ص 348.
(6) مجموعة من الأساتذة، محمد نظرة عصرية جديدة، ص100.
(7) محمد مهدي، في الاجتماع السياسي الإسلامي 302.
°° مقال لي: البعد السياسي لوثيقة المدينةّ، منشور على الشبكة.
(8) د. عبد الحميد متولي، الأنظمة السياسية، ص 64-65 بتصرف.
(9) د. السنهوري، الخليفة ((Le califat)، ص 94 بتصرف.
(10) د. ضياء الدين الريس، النظريات السياسية الإسلامية، ص 144-145 بتصرف.
°° مقال لي: البعد السياسي لوثيقة المدينة، على الشبكة.
(11) أحمد قائد الشعبي، وثيقة المدينة..المضمون والدلالة، ص 178.
(12) د. عبد الحميد متولي، مصدر سابق، ص 21-34 بتصرف.
°° مقال لي: البعد الاجتماعي لوثيقة المدينة، على الشبكة.
(13) إعلام الموقعين، ج1، ص39.
(14) ألبر شفيتزر، فلسفة الحضارة، ترجمة د.عبد الرحمن بدوي، ص 107-116بتصرف.
(15) طه عبد الباقي سرور، دولة القرآن، ص 17 بتصرف.
(16) فتحي عثمان، الدين للواقع، فصل: ينابيع وأوعية.
(17) طه عبد الباقي سرور، دولة القرآن، ص 11 بتصرف.
(18) فتحي عثمان، دولة الفكرة، ص 85-86 بتصرف.
(19) تاريخ الطبري، ج3، ص: 520.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=18912