د. يوسف حميتو
يستقر في العقل الفقهي أن الفتوى بيان وإخبار عن الله، وأنها صناعة تقوم على تجسير العلاقة بين النص الشرعي وبين واقع الناس، وعلى نقل العلم من تصور إلى توجيه، ومن حكم إلى هداية. وبناء عليه، يكون النظر إلى الفتوى باعتبارها مجرد جواب نوعا من التسطيح؛ لأنها في حقيقة أمرها تركيب معقد من النصوص الشرعية الحاكمة، ومن مقاصد الشارع الناظمة، ومن مصالح الخلق اللازمة، وهو تركيب أوكل إلى مقام المجتهد والمفتي، وهو مقام يجمع بين التزام النص، والتبصر بمناشئ وموارد الأحكام، والاستبصار بمواقعها ومآلاتها.
ومن خطورة هذه الخِطة، نشأت في الأذهان عبر تاريخ صناعة الفقه والفتوى مهابة وهيبة خاصة، انبنت على تقدير عمق المسؤولية وشدة المساءلة، وعلى طبيعة الأثر والتأثير، وقبل ذلك عن مقام المخبَر عنه الذي هو الشراع، ومقام من ينوب عنه المفتي وهو النبي صلى الله عليه وسلم، لذلك تتحرج النفوس من أي معطى جديد ينتجه واقع الناس وتطور حياتهم، ويكون له أثر صناعة الفتوى وصانعها وأدواتها ومادتها، فتتنوع المواقف بين القبول وبين الرفض، وبين الإقدام على استثمار الجديد أو الإحجام عنه، ونخص بالحديث هنا على سبيل التمثيل توظيف الذكاء الاصطناعي في صناعة الفتوى، هذا الذكاء الذي أصبح قدرا لا يمكن تجاوزه أو التغاضي عنه، كونه أصبح يتدخل في كل مفاصل وتفاصيل الحياة الإنسانية عامة، وحياة المجتمعات المسلمة خاصة.
لكن هل هيبة المقام تمنع من مناقشة أدواته؟ وهل دخول الذكاء الاصطناعي ضمن أدوات عمل المفتي فيه انتقاص من قدر الوظيفة أو افتيات عليها؟
لنتفق أولا على الموقع الذي يرى فيه هذا المقال الذكاء الاصطناعي ضمن حقل الفتوى، فلا أحد ينكر مقامها ولا خطورتها، لكن لا أحد يستطيع أن ينكر أنها وظيفة مسؤولة، تعمل في سياقات الأزمنة واقتضاءاتها، فهي بذلك مفتوحة على التحول في الأدوات وآليات الاشتغال، ضمن ما يمكن أن نسميه بمنطق “الحوسلة”، وهو منطق مجاله الوسائل التي يمكن أن تعين المفتي على أداء وظيفته، وتمكنه من حفظ أبهة الشرع لإنتاج فتوى ترعى طبيعة الزمان والمكان والإنسان المنتمي إليها.
إذن، فمسألة استبدال المفتي الإنسان بالذكاء الاصطناعي لا موجب لاستحضارها في هذا السياق، فإذا اتفقنا على هذا، بقي أن نعالج دخول الذكاء الاصطناعي في نسيج الفتوى، ليعمل تحت إشراف المفتي، وضمن نظامه الاستدلالي، وليكون أداة من أدوات الإفهام وتسديد وترشيد التبليغ، وآلية من آليات تحليل تركيبة واقع المكلفين، وجزءًا من جهاز المفتي في أداء مهمته، وتوسيع دوائر إحاطته بالواقع وتفعيل معرفاته كما سماها العلامة عبد الله بن بيه، والتي أسس لها الغزالي رحمه الله في كتابه أساس القياس ضمن ما سماه بالنظريات الخمس: اللغة، والعقل، والحس، والطبيعة، والعرف، ومن ثم ضمان دقة التصور والتكييف وسلامة التنزيل، وتحقيق فقه أوضح تركيبًا، وأرسخ في الدلالة، وأقرب إلى الغاية.
التعامل مع الذكاء الاصطناعي في حقل الفتوى بمنطق الوسائل لا المقاصد، يُعاد من خلاله بناء وظيفة المفتي بما يتلاءم مع مقتضى العصر، دون إضعاف لسلطة التأصيل، ولا تعطيل لمكانة الورع، ولا استغناء عن فقه النفس والذوق المقصدي، وذلك في إطار تصور جديد لتكوين وإعداد المفتين تكوينا يجمع بين علوم الشريعة الدقيقة، وفلسفة اللغة، ونظرية السياق، وتقنيات التحليل، وآداب الخطاب، وعلم الواقع، ينتج عنه عقل منفتح على الوسائط، قادر على التوجيه، محيط بالمآلات، غير متردد في استعمال الذكاء الاصطناعي حين يكون ذلك من مقتضى الفهم، وفي الوقت نفسه متمكنًا من تقويم أثره، ومنع انحرافه، وتحديد حدوده، استحضارًا لمركزية البيان، ورعاية لمقاصد الشريعة، ووفاءً لأبهة وهيبة مقام الفتوى.
بمنطق حوسلة الذكاء الاصطناعي في صناعة الفتوى المعاصرة، سيجمع المفتي بين فقه النص وهندسة المعنى الذي سينتجه بممارسة الصنعة، وبهذا المسار، يتقدّم المفتي في زمن الذكاء الاصطناعي خطوات في عصره، ويبقى حارسًا للمقام، بصيرًا بالأدوات اللازمة لذلك، صانعًا للجواب، مستعينًا بما يُعينه، متحكمًا فيما حوله، حافظًا لما استُؤمِن عليه من أمانة البيان، متمسكًا بموقعه في صدارة المجتمع، حيث يكون الفقه نورًا، والفتوى هداية، والكلمة ميثاقًا، والمعنى بناءً.
عقلية التهيب قاتلة كما عقلية التسيب، لكن المنحى الأعدل بينهما يفتح أمام مؤسسات التأهيل العلمي والبحث الشرعي أفقًا جديدًا في تكوين المفتين، ليس على مستوى تحديث الوسائل فحسب، بل أيضا على مستوى إعادة صياغة المنهج التكويني وفق منطق الجمع بين الوراثة الشرعية واستحقاقات الزمن الرقمي. وتقوم هذه الصياغة على أربع مرتكزات كبرى:
– أولها: ترسيخ الملكة الأصولية المقاصدية، وهذا يتجاوز المعرفة النظرية إلى البعد التحليلي اليومي، وما يستلزمه ذلك من دراسة لمناطات النوازل والاستفتاءات، لتكون وإقامة بناء معياري يوجه التفكير، ويضبط الفتوى وفق أوزان الأدلة، ومراتب المقاصد، وأحوال المجتمع.
– ثانيها: اكتساب الكفاءة المنهجية في إدارة السياق، وذلك بحسب ما يحتاجه المفتي من مهارات لفهم أنماط التحول الاجتماعي، واستحضار طبيعة المخيال الجمعي في البيئات مختلفة، ومن آليات تحقق التصور الذهني للنوازل قبل التعامل معها في الوجود الذاتي في الواقع، ومن وسائل التلقي عبر الوسائط، دون أن ينزاح عن مرجعيته، أو يتحلل من مركزية النص ووظيفية المقاصد. وهذا التكوين يحقق توازنًا دقيقًا بين الانخراط الواعي في الواقع، والبقاء المتزن داخل نسق الشريعة.
– ثالثها: إدماج الذكاء الاصطناعي ضمن آلية الفهم والتقدير، ولا يكون ذلك على سبيل الاستبدال، بل على جهة الإسناد المدروس، وهنا يتعلم المفتي كيف يُحوسِل هذه التقنية، أي كيف يستدخلها في فعله الاجتهادي دون أن يسلم لنتائجها، بل يفهم حدودها، ويوظف قدراتها، ويضبط أثرها ضمن مسار الجواب. ومن خلال هذا الاندماج تتحول التقنية إلى أداة في خدمة التأصيل، لا عنصرًا مهيمنًا عليه، فيُبقي المفتي على صدارة الفهم، وسيادة التأويل، ومركزية الاجتهاد.
– رابعها: التحلي بسمت البيان الشرعي، وهو ذلك الجمع الرفيع بين الوقار العلمي، والصدق المعرفي، وحكمة الخطاب، وتقدير الموقع، واستحضار البعد الرسالي في كل ما يُقال ويُفتى به، حتى لا يوقع المكلفين والمجتمع في دركات الكوارث الفقهية والإنسانية والحضارية، وهذه السمة لا تُكتسب من التكوين فقط، بل تنبع من الشعور العميق بالوظيفة، والإحساس بثقل الكلمة، والنظر إلى الفتوى باعتبارها ميثاقًا بين صاحبها وبين الله، ثم بينه وبين جماعة المسلمين.
حين تجتمع هذه المرتكزات في تكوين المفتي، يصبح قادرًا على قيادة البيان الشرعي في أزمنة التحول، ويحافظ على أبهة الفتوى في عمق وخضم متغيرات العصر، ويعيد بناء الجواب ضمن نظام معرفي معقد دون أن يتفكك منطقه، أو تُبتذل دلالته، أو يُفرَّغ مقامه من معناه.
إن ما نحتاج إليه ليس إعادة تعريف الفتوى، بل إعادة إحياء شروطها في الزمن المتغير، عبر مفت جديد، عقلُه في الأصول، وبصرُه في الواقع، ولسانه في الحجة، وأداته في التقنية، ووجهته في المقصد. مفت يُنزل الحكم موضعه، ويبني الجواب من داخله، ويتصرف في الآلة من علٍ، دون أن يتنازل عن علو النص، ولا عن حرمة المقام.