ذ. محمد جناي
لقد شغل فضول الإنسان ورغبته في معرفة المستقبل وما ينتظره في قادم الأيام ذهن الناس قديما وحديثا، ولقد حسم القرآن الكريم هذه المسألة بالإخبار أن علم الغيب هو من اختصاص الله تعالى وحده، وبالتالي فإن من الواجب على المسلم أن لا يشغل نفسه بالتفكير في هذا الأمر، كما يجب عليه أن يعيش واقعه ويعمر دنياه وفق شرع الله عز وجل وأن يقوم بوجباته ويتحمل مسؤولياته كاملة وينهض بها بما يرضاه الله تعالى، كما ينبغي على المسلم كذلك أن يقلص من فضوله حول ما سيحدث له في المستقبل قدر المستطاع ، لأن هذا الفضول لن يعود عليه بفائدة ترجى.
ولهذا يبدو أنه على الرغم من تطور الإنسان في شتى مجالات في العلوم والتكنولوجيا واتساع وتعميق فهمه للكون والحياة، وما تحيطه به الطبيعة من أنهار ومحيطات وجبال و غابات وغير ذلك، فإنه لا زال يمارس بعض السلوكيات الذي يدل على جهله الكبير بأمور الحياة ، فنجد الكثيرين من الناس يحاولون كشف مستقبلهم وحل مشاكلهم المستعصية بالذهاب إلى المنجمين والمشعوذين الذين لا يعرفون سوى الحيلة والضحك على الناس والإستخفاف بعقولهم من أجل كسب غير مشروع للرزق مخالفين بذلك المنطق العقلاني والتعاليم الدينية التي بينت للإنسان الحق من الباطل، والشك من اليقين، ولهذا نجد العديد من الناس يقرأون طالعهم صباح كل يوم في المواقع التواصلية وفي الصحف والمجلات الورقية التي تخصص زوايا خاصة للتنجيم تحت يافطات مختلفة مثل ( ماذا تقوله الأبراج لك اليوم ؟) أو ( حظك اليوم) أو ( إعرف حظك ) وغير ذلك .
إن المتمعن في الآيات الكريمة التي وردت في مختلف سور القرآن الكريم، سيلاحظ بكل وضوح أن معظم الآيات التي تضم إشارات علمية تتحدث عن التفكر في خلق الكون الواسع وما فيه من أجرام سماوية تدل على عظمة الخالق عز وجل الذي أوجد الكون الهائل الاتساع والعظيم الإتزان والذي لا زالت الألغاز تحيط به من كل جانب أمام العقل الإنساني الذي رغم جبروته يجد نفسه متواضعا أمام روعة الكون.
لقد بين الله تعالى من خلال القرآن الكريم أن هناك مجالا للإستفادة من الأجرام السماوية ، مثل الإهتداء من خلال النجوم الثابتة في السماء حيث يتم تحديد الجهات الأربع والإهتداء بها سواء في البر والبحر ، في الليل والنهار، أو إستخدامها لمعرفة أوقات الزراعة والحصاد والبرد والحر، وكذلك تحديد مواعيد المناسبات الإسلامية، وغير ذلك كثير، ونظرا لأهمية الأجرام السماوية في حياتنا، وعظمة خلقها، فلقد أقسم الله تعالى بالنجوم، حيث قال الله تعالى في الآيتين 75-76 من سورة الواقعة { فلا أقسم بمواقع النجوم، وإنه لقسم لو تعلمون عظيم}، ولهذا حرم الله تعالى على المسلم الكذب والحديث عن أمور لا يعرفها أو لا يعلمها، وبين الله تعالى أن كل إنسان مسؤول أمام الله عن كل كلمة يقولها، وهكذا فقد بين الله تعالى المنافع المختلفة للأجرام السماوية للإنسان ، ولكنه جل جلاله لم يشر على الإطلاق أنه يمكن لأي مخلوق كان أن يكشف الغيب وما يخبئه له المستقبل من خلال الأجرام السماوية أو بأي طريقة أخرى، وأن علم الغيب هو لله تعالى فقط، وبذلك يقول تعالى :{ قل لا يعلم من في السموات والأرض الغيب إلا الله وما يشعرون أيان يبعثون } سورة النمل 65
والتنجيم وكما عرفه شيخ الإسلام ابن تيمية” بأنه الاستدلال على الحوادث الأرضية بالأحوال الفلكية ، والتمزيج بين القوى الفلكية والقوابل الأرضية كما يزعمون”، وأما الإمام البغوي فقد عرفه بأنه ” ادعاء معرفة الحوادث التي ستقع في مستقبل الزمان ، مثل إخبارهم بوقت هبوب الرياح، ومجيء المطر، ووقوع الثلج، وتغير الأسعار، وإدراك الزوال ، وجهة القبلة ونحوها ، عن طريق مشاهدة سير النجوم واجتماعها، وافتراقها” ، وأما الفلكي عماد مجاهد فقد عرفه بأنه ” السعي إلى كشف المستقبل من خلال رصد حركات الأجرام السماوية ، ومواقعها في السماء وهذا مبني على الخرافة والجهل”.
أما علم الفلك فقد تعددت تعريفاته ولعل أبرزها أنه العلم الذي يدرس الأجرام السماوية من حيث نشأتها ، وحركاتها، وخصائصها مستعينا بالعلوم الأخرى، كالرياضيات ،والهندسة ، وبمساعدة وسائل الرصد الحديثة ، كذلك يدرس الأرض وما يحيط بها وعلاقتها بالكواكب الأخرى،و لهذا أعلنت الأمم المتحدة سنة 2009 اليوم الدولي لعلم الفلك، وهي تهدف إلى تأكيد الوعي الجماهيري والتعامل مع علم الفلك،على أنه علم حقيقي يخضع لمناهج البحث العلمي، وأما التنجيم فلا يمت إلى العلوم بأي صلة، بل هو يصنف علما زائفا ينطوي على تصريحات واعتقادات وممارسات، يدعي قائلوها أنها علمية وحقيقية بلا أي دليل تجريبي، ومن دون أن تكون متطابقة مع أي نهج علمي.
و لو أردنا عقد مقارنة بين المنجمين القدماء وبين المعاصرين منهم فإن واحدة من الحقائق التي سنقف عليها أن الذي اختلف بينهما فعليا إنما هو الأساليب والوسائل المستخدمة في التنجيم، ولربما استفاد المنجمون المعاصرون من آلات الرصد والنشرات الفلكية التي تصدرها بعض الجمعيات العلمية الفلكية ، ولربما وظف هؤلاء المنجمون المعاصرون وسائل التواصل الاجتماعي والقنوات الفضائية المتلفزة في إيصال أفكارهم للجمهور ولكن المبدأ الذي قام عليه التنجيم القديم والمعاصر واحد ،ألا وهو إدعاء القدرة على معرفة ما سيحصل مع الإنسان قبل حصوله وذلك من خلال رصد بعض الأبراج والكواكب والنجوم التي في السماء وبالتالي تقديم النصح والمشورة للسائل في كيفية التعامل مع ما هو آت، وهذا جوهر الأمر والأصل الذي قام عليه التنجيم ادعاء معرفة الغيب أو جزء منه، وذلك مهما اختلفت كلمات المنجمين في وصفه والتعبير عنه.
ويستطيع كل متتبع ومثقف وقارئ أن يدرك ، وبكل يسر الفروق بين علم الفلك وبين التنجيم ، والفرق بين ما يقوم به الفلكيون المختصون وبين ما يقوم به المنجمون ، فإنك عندما توجه سؤالا لأحد المنجمين عن الأجرام السماوية ، فإنه يحدثك عن تأثيرها العام على الناس، كأن يقول لك : إن عطارد هو كوكب يهبك الذكاء ، وإن المشتري يهبك السعادة في الدنيا ، وإن الزهرة تزيد من الرزق، وإن زحل شيء ويجلب الأحزان والمآسي، لكنه لايستطيع أن يحدثك عن الأجسام السماوية بمعلومات أخرى، بينما لو وجه السؤال إلى أحد الفلكيين، فإنه سيحدثك عن حركة الأجرام السماوية وكثافتها وكتلتها وفلكها ونشوئها وبعدها عن الشمس وجيولوجية كل كوكب وكيفية نشوء الكون ونشوء النجوم ومصدر طاقتها وحرارتها ولونها واحتمالات الحياة في الكون … إلخ ، لذلك نستنبط أن نظرة التنجيم للأجرام السماوية تختلف كليا عن نظرة الفلك، وهنا نلاحظ أن نظرة التنجيم عن السماء قديمة وجاهلية وليست علمية على الإطلاق.
ولهذا يؤكد الفلكي المتخصص ناصر أسعد على صدقية الكلام السابق بقوله: والتنجيم ليس علما وذلك لسبب أصيل وهو أنه لا يعتمد المنهج العلمي، فهو ليس كالعلم الذي يصوغ فرضية ما حول الواقع أو الحقيقة ، ليعمل بعدها على التثبت من صحة هذه الفرضية باختبارات نظرية وحسية، و بالمقابل نجد علم الفلك يؤدي دورا بارزا في قياس حالات الطقس، وحركة النجوم والكواكب، ودراسة نشاط الزلازل والبراكين والأعاصير، بالإضافة للكثير من المواضيع الفيزيائية التي تهم البشرية في خضم التقدم العلمي الحاصل.
وختاما، إن اللجوء إلى التنجيم أو الأبراج ناتج عن الفضول في معرفة المستقبل وكذلك هو محاولة للتنبؤ عما سيحدث لبث الطمأنينة بالنفس وحتى ولو كان ذلك وهما وإيهاما، إنها محاولة وهمية في المعرفة لكنها تنطوي على الشعور بالطمأنينة، وهي ظاهرة سلبية تزداد في المجتمعات المتخلفة والبعيدة كل البعد عن التفكير العلمي والعقلاني، وكذلك تظهر أكثر وتشتد في الأزمات والحروب والكوارث، حينما يشعر الإنسان بعجزه وضعفه وعدم قدرته في إيجاد الحلول المناسبة والعلمية والمنطقية للأحداث والمشكلات، وأمام هذا العجز يلجأ لما هو خرافي أو وهمي .
ـــــــــــ
هوامش
(1): د. راجح إبراهيم محمد السباتين ، ” التنجيم وقراءة الأبراج في ميزان الإسلام والعلم الحديث” إصدارات دائرة المكتبة الوطنية، المملكة الأردنية الهاشمية طبعة 2020.
(2): التنجيم بين العلم والدين والخرافة ، تأليف عماد مجاهد ، المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت ، الطبعة الأولى 1998.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=16399