16 سبتمبر 2025 / 14:34

صدور كتاب خرائط اليرموك في قلبي: حين تتحول الذاكرة إلى خريطة للنجاة

الدكتور حسن العاصي ـ باحث أكاديمي وكاتب فلسطيني مقيم في الدنمارك
في لحظة فارقة بين الحنين والمقاومة، يصدر لي كتاب “خرائط اليرموك في قلبي” ليعيد رسم ملامح المنفى الفلسطيني من زاوية وجدانية، فكرية، وأدبية، تتجاوز السرد التقليدي وتُعيد الاعتبار للذاكرة كفعل وجودي لا كأرشيف ساكن.

الكتاب ليس مجرد تأريخ لمخيم اليرموك، بل هو محاولة حثيثة لتفكيك الخرائط التي رُسمت على جدران القلب قبل أن تُرسم على الورق. إنه مشروع سردي يتقاطع فيه الشخصي مع الجمعي، والذاتي مع السياسي، حيث تتحول التجربة الفردية إلى مرآة تعكس وجع الشتات، وتُعيد مساءلة مفاهيم الوطن والانتماء والهوية.

في خرائط اليرموك في قلبي، لا نجد خرائط جغرافية، بل خرائط شعورية، تتنقل بين الأزقة والذكريات، بين البيوت التي تهدمت والروائح التي بقيت. الكتاب يرفض أن يكون مجرد وثيقة، ويصرّ على أن يكون فعلاً سردياً يعيد بناء اليرموك من الحرف، لا من الحجر.

في خرائط اليرموك في قلبي، لا أكتب عن المكان بصفته جغرافيا، بل بوصفه كينونة تتنفس في الذاكرة وتتمدد في اللغة. الكتاب لا يكتفي باستعادة اليرموك كرمز للمنفى الفلسطيني، بل يعيد تشكيله كفضاء داخلي، تتقاطع فيه الأسئلة الوجودية مع التفاصيل اليومية، وتتحول فيه الأزقة إلى استعارات، والبيوت إلى نبض سردي.

إنه نص لا يبحث عن الحنين، بل يختبره، ويعيد صياغته كأداة للنجاة، لا كعبء عاطفي. في هذا العمل، تتكثف الكتابة حول المخيم لتصبح مرآة للذات، ومرصداً للتحولات، وصرخة مكتومة في وجه النسيان.

لا أكتب من أجل التوثيق، بل من أجل الترميم، ومن أجل منح اليرموك صوت لا يُختزل في المأساة، بل يُستعاد في الحضور، وفي المعنى، وفي فعل الكتابة ذاته.

ينتمي هذا الكتاب إلى مسار ثقافي وفكري ويقوم على مساءلة المفاهيم السائدة، وتقديم معرفة نقدية تنفتح على تعدد الأصوات والتجارب.

ويأتي خرائط اليرموك في قلبي كحلقة جديدة في هذا المسار، حيث تتداخل الأنثروبولوجيا مع الأدب، ويلتقي البحث الأكاديمي بالسرد الشخصي، في محاولة لإعادة بناء الذاكرة من خلال اللغة، لا من خلال الوثيقة فقط.

خرائط اليرموك في قلبي هو صوت من الهامش، لكنه لا يطلب الشفقة، بل يطالب بالاعتراف. إنه نص يكتب من أجل الذين لم تُكتب لهم نصوص، ومن أجل الأماكن التي لم تُرسم على خرائط العالم، لكنها محفورة في قلوب أهلها.

صدر كتاب خرائط اليرموك في قلبي إلكترونياً عن هيئة الكتاب الدنماركية، في إصدار يليق بثقل الذاكرة التي يحملها، ويمنح النص امتداداً يتجاوز الحدود الجغرافية.

يتضمن الكتاب سبعة وخمسين نصاً موزعة على 136 صفحة، تتنوع بين السرد الشخصي والتأملات الفكرية، وتُعيد رسم ملامح المنفى الفلسطيني من زوايا متعددة.

هذا الإصدار لا يكتفي بتوثيق التجربة، بل يفتح بابًا للحوار مع القارئ، ويمنحه فرصة للعبور إلى اليرموك عبر اللغة، لا عبر الخرائط. إنه كتاب يُقرأ بالقلب قبل العين، ويُحمل كرفيق لا كمجلد، بما فيه من وجعٍ ناعم، وحنينٍ لا يُراد له أن يُشفى.

مقدمة تليق بالوجدان

افتتح خرائط اليرموك في قلبي بمقدمة كتبها الأكاديمي والناقد المغربي الدكتور محمد خريصي، لم تكن مجرد كلمات تمهيدية، بل كانت بمثابة نبض أول للكتاب، وهدية وجدانية تنبض بالصدق والمحبة.

جاءت مقدمته كأنها مرآة داخلية للنص، لا تشرح مضمونه، بل تُنصت له، وتمنحه شرعية شعورية لا تُمنح إلا لمن قرأ النص بقلبه قبل عينه.

لقد كتب الدكتور خريصي بلغةٍ لا تكتفي بالتحليل، بل تحتضن، وتُربّت على الذاكرة، وتُعيد رسم اليرموك في القلب كما لو أنه عاشه، كما لو أن المخيم يسكنه هو أيضاً.

كانت كلماته امتداداً للمشروع، لا تعليقاً عليه، وكانت روحه حاضرة في كل سطر، تُضيء المعنى، وتُعانق الحنين، وتُعلن أن الكتابة ليست ترفاً فكرياً، بل فعلاً وجدانياً مشتركاً بين الكاتب والقارئ، بين من عاش التجربة ومن آمن بها.

إن هذه المقدمة، بما حملته من دفء واحتفاء، لم تكن مجاملة أدبية، بل كانت موقفاً إنسانياً، ورفقة فكرية، وشهادة حب نادرة في زمن يتقلص فيه الإيمان بالكلمة.

لقد منحني الدكتور خريصي ما هو أعمق من التقديم: منحني شعواًا بأن الكتاب وجد من يفهمه، ومن يرافقه، ومن يضع يده على قلبه ويقول له: “أنا هنا، معك، في هذا الطريق”.

له مني كل الامتنان، وكل المحبة، وكل التقدير الذي لا يُختصر في كلمات، بل يُحفظ في القلب، كما تُحفظ خرائط اليرموك فيه.

مقدمة الكتاب كما كنبها الناقد المغربي د. محمد خريصي:

“وأحسن الأشياء التي تعرف، ويتأثر لها، أو يتأثر لها إذا عرفت، هي الأشياء التي فطرت النفوس على استلذاذها، أو التألم منها، أو ما وجد فيه الحالان من اللذة والألم، كالذكريات للعهود الحميدة المنصرمة التي توجد النفس، تلتذ بتخيلها وذكرها، وتتألم من تقضيها وانصرامها …”

“حازم القرطاجني ”

لماذا بالضبط “خرائط اليرموك في قلبي” بوصفها نصوصا سردية شعرية؟ إنه العنوان الذي استقرت عليه ذائقة الشاعر والأكاديمي “حسن العاصي”، تحديدا ما يمكن أن يكثف الحمولة الرمزية لسؤال الاغتراب ولوعة الحنين وجراح الذاكرة. فإذا سلمنا بطاحونة الزمن التي اقتطعت ستة وعشرين سنة، من إقامة الأستاذ الدكتور “حسن العاصي” بالدانمارك، إلا أن هذه الحقيقة في حد ذاتها عجزت عن محو ذخيرة مفعمة بالحنين وأوصالها متورمة بالحب الشديد والهوى المحرق لأنين الذكريات وصمت السنون الخوالي التي قضاها الأخ “حسن” مع أفراد عائلته الصغيرة وعشيرته الفلسطينية الكبيرة بمخيم اليرموك هناك، قريبا من دمشق، كلاجئين يراودهم حلم العودة إلى فلسطين، أولئك الذين يملكون المفتاح نفسه، معلقا على الصدور وجيناته محفوظة في القلوب تتوارثها الأجيال وعلاماته منحوتة على الخرائط والصور واللوحات الفنية، كشاهدة على وطن وإنسان وهوية.

إن اختيار الشعر لسرد بواعث الحنين، يعد صائبا لما يتميز به هذا الجنس الأدبي من قول موغل في الوجد والاشتياق إلى الديار والذكريات الماضية. هذا الحنين الذي يتأرجح بين لذة استرجاع، وألم فقد ما كان ولم يعد موجودا. هنا بالأساس تشتغل سلطة اللغة وتتحرك الأسطورة وتسرح المخيلة في احتضان كل شيء، بما فيها اللحظات الهاربة التي تشكل هوية الشاعر وتضفي عليها منطق الخلود والتأبيد كما فعل شاعرنا في ديوانه الباذخ “خرائط اليرموك في قلبي” على طول سبعة وخمسين قصيدة، أرى أن كل واحدة منها بمثابة قلادة تقاوم زمن يريد أن يمضي وما هو بمنته، حيث الأثر يستعصي على الاندثار، حين يتربع على عرش اللغة التي عبرها يحرر الشعر الوجدان والإحساس من الاحتلال الإسرائيلي الغاصب لقضية القضايا “فلسطين السليبة. لذلك، لا فرق ولا خلاف بين من يكتب قصيدة أو يحرر كلمة أو يرسم استعارة، مع من يحمل بندقية أو يرمي بحجارة في وجه الكيان المجرم، كلاهما في خط الدفاع الأمامي. فالكتابة ممانعة تتغيا عدم تحطيم الذاكرة ومقاومة النسيان الذي تجند من أجله الصهيونية العالمية المال والإعلام والعتاد يوميا، علاوة على تحويل الحياة والإعمار إلى خراب.

فماذا بعد اليرموك يا ترى؟ إنها خرائط الحنين المتجسدة في سردية مفعمة بالتاريخ ومحطاته التي لا تنسى، محمولة على أكتاف القصائد الشعرية، التي حولته إلى “ندبة في القلب وبصمة بلد على جسد” بالتعبير البليغ لمحمود درويش. القائل كذلك:

الحنين مسامرة الغائب للغائب، والتفات البعيد إلى البعيد.

هكذا شكلت تيمة/موضوعة الحنين عند شاعرنا “حسن العاصي” منبع وجدان ذاتي ثر عز نظيره، حيث توقفت شاهدة بين زمنين، ما كان أي ما حدث وما سيكون أي: مستقبل اليرموك، غير منتصر لا لراهنية زمن (الغربة) بل لماضوية تنتصب علامة فارقة بين إحساسين ووجدانين، فحسن اليوم لا يسكن المخيم، بل المخيم الذي يسكنه كما جاء في ثنايا الديوان. مبرزا في الوقت نفسه تبرمه من راهنية الزمن الذي لم يستطع إدماجه في المكان، وبقي يعيش خارج المكان بتشبيه “إدوارد سعيد” منحازا لماضوية مسكنها الحقيقي متجسد في الألفاظ والتشبيهات والمجازات والأشعار. وبمعنى من المعاني، نفهم أن الغربة إحساس بعدم الانسجام مع الأنا الفردي والأنا الجمعي كذلك. فإذا كانت الغربة تستدعي الحنين، فإن غرض الغربة والحنين يعد من الدوافع الفطرية في أعماق النفس الإنسانية. والحال أن قلائد “خرائط اليرموك” قصائد في الحنين والغربة والذاكرة التي لا تموت كما جاء في العنوان.

لقد دفع الاغتراب بشاعرنا “حسن العاصي” إلى المنافحة عن زمن لا يعود بلغة عربية بليغة وبصور شعرية ونسج خيال عميق وبأسلوب سلس تخاله حكاية تم تسريدها في قالب تصويري، بمستطاع أي قارئ أن يَعُدَّ نفسه أحد شخوصها، بدءا بأول سطر في الديوان “لم أعد كما كنت”، حيث يمكن أن نرى في هذا التعبير إعلان عن حداد أو تأبين ذكرى تأبى النسيان، وصولا إلى آخر كلمة فيه (التي لم تودع كما يجب) التي قد يوحي أحد معانيها إلى نكأ الجراح التي تحتاج إلى أكثر من ضماد، ولعل ديوان “خرائط اليرموك في قلبي” صرخة تتغنى بالوجود وبالوجدان وتنتسب لأفق فلسفي يعكس قدر الشاعر الفلسطيني في المنفى الذي يحول المكان الجديد إلى طاقة استرجاعية لا استشرافية، كما يؤكد “حسن العاصي” في القصيدة الأولى المعنونة ب: “اليرموك الذي يسكنني”، يقول:

في المنفى، كل شيء نظيف

لكن لا أحد يسألني: هل أكلت؟ هل بكيت؟

هل اشتقت إلى صوت المؤذن في شارع فلسطين؟

أنا ابن اليرموك

لكنني لا أملك شهادة ميلاد

ولا مفتاح بيت، ولا صورة واضحة

أملك فقط هذا الحزن

وهذا الحنين

وهذا القلب الذي لا يعرف كيف ينسى

فمن تجليات هذه الأبيات ورمزيتها، الحنين إلى تلك القيم النبيلة التي عاشها الشاعر وساهمت في بلورة تجربته الإنسانية بمخيم اليرموك، أساسا ما يفتقده اليوم. وبما أن الأمم كيانات سردية، كما يقول “إدوارد سعيد”، حيال الشعور بالانتماء ووحدة المصير، أجدني مضطرا إلى الاستشهاد بنص آخر لا يقل لهفة وحنينا وكسرا للإحباط والنأي عن الشعور بالضياع والسقوط، لكن في المقابل، انتفاض لفرائص الحنين، هذا النص عُدَّ من آخر ما خطته أنامل “محمود درويش” قي ديوانه الموسوم ب: “في حضرة الغياب”.

هل انتهت الرحلة أم بدأت؟ هل اقترب هو من المكان، أم افترق المكان عن صورته في المخيلة؟ العائد كبير السن هو المرشح للمقارنة وللحيرة في ترجيح المتخيل على الواقعي. أما المولود في المنفى على أوصافه نقيضه الحسنى، فقد تخذله جنة صنعت خصيصا له، من مفردات تشربها وصنع منها صورا نمطية، لتكون مرشدة إلى الاختلاف. لقد ورث الذاكرة عن أهل خافوا عليه من النسيان / رهان الآخرين.. وورث الذاكرة من إلحاح الأناشيد على تمجيد الفولكلور والبندقية التي صارت هوية، منذ ولد الوطن، بعيدا عن أرض الوطن.. ولد الوطن في المنفى. ولد الفردوس من جحيم الغياب.

هي إذن، إحدى تقاطعات شكوى الغربة والمنفى وسردية المصائر التي آلت إليها أوضاع اللاجئين في كل مكان، ولعل الأنموذج الأبرز “مخيم اليرموك”، الذي يصفه أصحاب الأرض، بعاصمة الشتات الفلسطينية، أو أكبر التجمعات الفلسطينية في الخارج. لذلك، فكل ما قلته عن درر “خرائط اليرموك في قلبي” كما حكاها الشاعر والأكاديمي الدكتور “حسن العاصي”، وما سيرويه القراء عن هذا الديوان مستقبلا، لن تغن أحدا عن قراءة الديوان عينه والاستمتاع بشعريته واستعاراته المتعالية وذكراه الحارقة التي فجعت الذات وجعلت حسرتها ممزوجة بالرجاء الذي حولته اللغة إلى أحلام صارت أشد رسوخا من واقع الحال”.
الرباط، في: 16-09-202
ذ. محمد خريصي