زيارة الشرع للسعودية: هندسة جديدة لموازين القوى في الشرق الأوسط

دينبريس
تقارير
دينبريسمنذ 5 ساعاتآخر تحديث : الإثنين 3 فبراير 2025 - 9:36 صباحًا
زيارة الشرع للسعودية: هندسة جديدة لموازين القوى في الشرق الأوسط

دين بريس
تحمل زيارة الرئيس السوري الانتقالي أحمد الشرع إلى السعودية أبعادا استراتيجية في مقدمتها إعادة رسم خريطة النفوذ في الشرق الأوسط، وترسيخ لمعادلات جديدة بين القوى الإقليمية والدولية، وهي تأتي في أعقاب سقوط نظام بشار الأسد، وتعكس تحولات جذرية في المشهد الجيوسياسي للمنطقة، وتظهر براغماتية سعودية في التعاطي مع المتغيرات، بعيدا عن التحالفات القديمة أو الاصطفافات الإيديولوجية التي هيمنت على السياسة العربية لعقود.

ومن منظور استراتيجي، تمثل هذه الزيارة خطوة حاسمة في إعادة تشكيل التوازنات الإقليمية، حيث تستثمر الرياض في واقع سوري جديد يبتعد عن الهيمنة الإيرانية، ويعيد سوريا إلى الفضاء العربي، وهي خطوة تتجاوز الاعتبارات الثنائية بين الرياض ودمشق، إذ ترسل رسائل واضحة إلى طهران وتل أبيب وواشنطن، بأن السعودية باتت اللاعب المركزي في إدارة التحولات في سوريا، وأن مستقبل دمشق لن يرسم في طهران أو موسكو، بل في العواصم العربية.

وتجد إيران، التي كانت الفاعل الرئيسي في سوريا طوال العقد الماضي، نفسها اليوم خارج المعادلة الجديدة، فمع سقوط الأسد، فقدت طهران أحد أهم ركائز نفوذها في المنطقة، وانهارت استراتيجيتها القائمة على دعم الأنظمة الموالية لها، واستبدالها بقوى محلية تخضع لنفوذها السياسي والعسكري، وبالتالي فإن زيارة الشرع للرياض تعني أن دمشق لم تعد حليفا لطهران، بل شريكا للسعودية في إعادة بناء سوريا ضمن رؤية إقليمية جديدة، وهذا ما يفسر الغضب الإيراني الصامت والقلق المتزايد في طهران من تداعيات هذه التحولات.

لكن هذه التطورات لا تعني أن إيران ستتخلى بسهولة عن مصالحها في سوريا، فمن غير المستبعد أن تلجأ إلى تحريك أذرعها العسكرية والسياسية داخل البلاد لإرباك المشهد السوري الجديد، وربما محاولة استنساخ سيناريوهات الفوضى في مناطق أخرى من سوريا عبر ميليشياتها المحلية، لكن وجود دعم سعودي قوي للقيادة السورية الجديدة، إلى جانب الدعم العربي المحتمل، ربما يضعف من قدرة إيران على التأثير في المعادلة السورية.

وبخصوص إسرائيل، فإنها تراقب هذه التحولات بحذر، إذ أن انسحاب إيران من سوريا أو تراجع نفوذها لا يعني بالضرورة مكاسب استراتيجية مباشرة لتل أبيب، فإسرائيل بنت استراتيجيتها السورية على استمرار الفوضى وضعف الدولة، وليس على وجود حكومة قوية مستقرة في دمشق، إضافة إلى أن أي تحول يعيد سوريا إلى الحضن العربي، تحت رعاية السعودية، قد يفرض قواعد اشتباك جديدة على إسرائيل، ويحد من حريتها في التحرك عسكريا داخل الأراضي السورية.

وفي الوقت نفسه، لا يمكن تجاهل التنافس بين السعودية والإمارات وتركيا حول اقتسام النفوذ في سوريا، فالإمارات التي كانت من أوائل الدول التي أعادت العلاقات مع دمشق، لن تسمح بأن تنفرد الرياض بالمشهد السوري، وستحاول أن تفرض نفسها شريكا رئيسيا في إعادة الإعمار والاستثمارات الاستراتيجية، وأما تركيا، التي تدخلت عسكريا في الشمال السوري، فستواجه تحديا كبيرا في التعامل مع الواقع الجديد، حيث إن صعود حكومة سورية مدعومة من السعودية قد يقلص نفوذ أنقرة في المناطق التي تسيطر عليها القوات الموالية لها.

ومن جهة أخرى، فإن زيارة الشرع للسعودية تحمل أبعادا اقتصادية لا تقل أهمية عن الأبعاد السياسية، فسوريا بحاجة ماسة إلى دعم اقتصادي لإعادة الإعمار، والمملكة تمتلك الأدوات الاقتصادية والقدرات الاستثمارية التي يمكن أن تسهم في إعادة بناء البنية التحتية المدمرة، وتحقيق استقرار اقتصادي يخفف من الأعباء التي فرضتها سنوات الحرب، هذا الدعم الاقتصادي هو استثمار استراتيجي في مستقبل سوريا كدولة مستقرة، لا تشكل تهديدا للأمن الإقليمي، بل تكون عنصرا داعما للاستقرار.

وفي السياق الأمريكي، فإن واشنطن قد تنظر إلى هذه التحولات من زاوية براغماتية، فالإدارة الأمريكية، سواء بقيادة الديمقراطيين أو الجمهوريين، تدرك أن مستقبل سوريا لا يمكن أن يبقى في يد إيران أو روسيا، وبالرغم من العقوبات المفروضة على دمشق، فإن الدور السعودي في سوريا الجديدة قد يسهم في إقناع واشنطن بضرورة إعادة النظر في بعض السياسات العقابية، خاصة إذا ما أظهرت الحكومة السورية الجديدة التزاما بمكافحة الإرهاب والتعاون في ملفات الاستقرار الإقليمي.

لكن التحدي الأبرز الذي يواجه “الشرع” لا يكمن فقط في إعادة التموضع السياسي لسوريا، بل في إدارة الداخل السوري نفسه، فالدولة التي خرجت من تحت ركام الأسد تحتاج إلى إعادة بناء المؤسسات، وترميم النسيج الاجتماعي الذي مزقته الحرب والانقسامات الطائفية والإثنية، والحفاظ على التوازن بين مختلف القوى المحلية، وضمان أن لا تتحول المرحلة الانتقالية إلى صراع داخلي جديد بين الفصائل المختلفة على السلطة.

لذلك، فإن زيارة الشرع للسعودية هي محطة مفصلية في إعادة تشكيل سوريا الجديدة، التي لم تعد دولة تابعة لطهران، ولا منطقة نفوذ لموسكو، ولا ساحة للصراعات الإقليمية.

إن سوريا الجديدة التي تبنى اليوم، تُبنى وفق رؤية مختلفة، تجعل من السعودية شريكا رئيسيا في صياغة مستقبلها، وتجعل من عودتها إلى الفضاء العربي مسألة محسومة، لكنها في الوقت ذاته تفتح الباب أمام صراع غير معلن بين قوى إقليمية أخرى، تحاول كل منها تأمين موقعها في خارطة النفوذ الجديدة.

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.