رئيس المجلس العلمي لطانطان: إمارة المومنين من الأمن الروحي للمؤمنين إلى الأمن الاقتصادي للمعوزين

دينبريس
2025-03-02T10:23:35+01:00
آراء ومواقف
دينبريس2 مارس 2025آخر تحديث : الأحد 2 مارس 2025 - 10:23 صباحًا
رئيس المجلس العلمي لطانطان: إمارة المومنين من الأمن الروحي للمؤمنين إلى الأمن الاقتصادي للمعوزين

عبد الخالق حسين ـ رئيس المجلس العلمي لطانطان
تعتبر الرسالة الملكية الصادرة من المؤسسة الشريفة لإمارة المؤمنين تجسيدا واقعيا لحماية الدين وسياسة الدنيا به؛ والتي هي المهمة الأولى والأساس شرعا تاريخا ودستورا لإمارة المؤمنين..
و لابد لفهم اشتغال هذه المؤسسة من استيعاب مجموعة من المقدمات وهي:

1- أن إمارة المؤمنين تشتغل بمنطق الأمة؛ ولهذا فتدخلها يكون عندما يحتاج مسار الأمة للتقويم.. وليس مسار فئة او طائفة من الأمة.. ولهذا يخطئ كثير من الذين هم “خارج المملكة” في تقدراتهم و تحليلاتهم لفعل و سياية هذه المؤسسة؛ لعدم قدرتهم على استيعاب المنهجية التي تشتغل بها؛ لانها منهجية معجونة بالتاريخ الاجتماعي والسياسي للامة المغربية.

2- أن امارة المؤمنين تملك من المعلومات التفصيلية عن أحوال الأمة المغربية ما لا تملكه “جهة أخرى”.. بحكم أن إمارة المؤمنين تتموقع فوق كل المؤسسات وبالتالي فهي الضامن للسير العادي و الصحيح لكل هذه المؤسسات؛ خاصة وان امارة المؤمنين تمتلك خاصية القرب الوجداني من أحاسيس الأمة وهذا إرث من الارث النبوي ( بالمؤمنين رؤوف رحيم)..

3- أن إمارة المؤمنين تفتي في قضايا الأمة؛ مستحضرة المقاصد الشرعية العليا حماية للمؤمن دينا ونفسا وعقلا ومالا وعرضا؛ ولكنها حماية “بمنطق الدولة” وليس بمنطق الفقيه الفرد؛ او الفقهاء/ الطائفة؛ وهذه مقدمة الثالثة؛ تاهت في فهمها عقول دينية كثيرة؛ لعدم استحضارها سوابق تاريخية؛ مثل حماسة الصحابة رضي الله عنهم و مراجعتهم للأمر النبوي أكثر من مرة!! كما وقع في الموقف من صلح الحديبية؛ فقد كان الصحابة يصدرون عن العقل الفردي؛ وكان سيدنا رسول الله يصدر عن عقل الإمامة العظمى اي عقل الدولة..

بعد هذه المقدمات نلج الموضوع الرئيس؛ الذي هو إهابة امير المؤمنين بالمواطنين ان “لا يقوموا بشعيرة أضحية العيد” هذا العام..

إن الدارس و المتمعن في متن الرسالة الملكية لينبهر بالمعمار المعرفي و المنهجي؛ وكذا اللغوي الذي صدرت منه وصدرت به الرسالة؛ فقد هندست الرسالة هندسة جعلتها تدخل أسرة الوثائق السلطانية التي سوف يعتمد عليها المؤرخون و دارسو التواريخ الاجتماعية والإقتصادية والحوليات مستقبلا؛ فالرسالة ترسم خريطة متكاملة لجعرافيا الفتوى الشرعية التي تصدر محترمة الزمان والمكان والاحوال والعوائد والنيات بتعبير صاحب إعلام الموقعين..

فد تضمنت الرسالة السامية المعطيات الجوهرية الآتية:
1_ التذكير بحرص الامامة العظمى بمقتضى البيعة على توفير شروط التدين: فريضة و سننا وعبادات و معاملات
2_ الالتزام بالسنن المؤكدة و الاحتفال بايام الله
3_ الوعي بان العيد يحمل دلالات دينية قوية تتضمن ماهو ديني وماهو اجتماعي وعائلي ؛ وهي (رسالة ضمنية لطائفة العيد بالفنادق)
4_ الحرص على اقامة شعيرة العيد في احسن الظروف.
5_ استحضار التحديات المناخية و الاقتصادية والتراجع الكبير في اعداد الماشية
6_ استحضار أن ذبح الأضحية سنة مؤكدة مع الاستطاعة
7_ التأكيد على اننا نعيش ظروفا صعبة
8_ اقامة شعيرة الذبح سيلحق ضررا محققا بفئات كبيرة من ابناء الشعب لاسيما ذوي الدخل المحدود.
9_ التذكير بضرورة احياء عيد الاضحى وفق السنة النبوية وبالمعاني الروحانية: بالصلاة في المصليات وانفاق الصدقات و صلة الرحم و مظاهر التبريك و الشكر لله

ولو شئنا التقاط التعابير الجوهرية المفتاح التي اوحت باصدار امارة المؤمنين لهذه الرسالة الداعية لعدم ذبح الاضحية؛ لاجملناها في هذه “مصطلحات خمسة” حصرا؛ وهي الخمسة التي اعتقد أن كل عالم متبحر في الشريعة و مطلع على روح التشريع ومستوعب لشروط التدبير السليم في الدولة المعاصرة سوف يبارك مخرجات الرأي والفتوى المتأسسة عليها..

وهي:
_ الدولة حريصة على توفير شروط التدين
_ الشعيرة تقام في الظروف الحسنة التي تحقق مقاصدها
_ التحديات المناخية و الاقتصادية و الاجتماعية تنفي توفر الشروط المناسبة لاقامة الشعيرة
_ الضرورة و المصلحة الشرعية تقتضي رفع الحرج والضرر على الناس
_ عدم القيام بشعيرة الذبح هذا العام يحقق مقصود الشارع من العيد.
بهذه العبارات/ المفتاح يجد كل مواطن مغربي أن إمارة المؤمنين تخاطبه بلسانه و تجيب عن اسئلته و تحقق توقعاته و تزيل عنه همه وغمه و تنفس عنه كربته وضائقته..

إنه من الأهمية بمكان أن ننتبه إلى أن الرسالة الملكية تعيد الإعتبار لروح الأضحية و التضحية؛ تنبه الرسالة على البعد الروحي والباطني والتزكوي لشعيرة العيد ؛ بعد أن ضمر البعد الروحي و ضغى البعد النفسي الإشتهائي المادي؛ فأصبح هم العيد والاستعداد للعيد عنوانه اللحم وشكل الأضحية ووزنها وثمنها؛ وأمسينا نسمع عند قرب العيد قصصا تتراوح بين الكوميديا الطفولية والتراجيديا المؤلمة والمؤسفة؛ فقد يقع الطلاق ويتشرد جيل كامل من الابرياء بسبب عناد بين الزوجين سببه ( اختيار الخروف)!!

وقد أصبح العيد مناسبة لحمية منزوعة الاخلاق و التقوى؛ واستبدل عيد الاضحى (بعيد اللحم) ؛ مما افرز لنا نوعين من التفكير و طبقتين اجتماعيتين لكنهما في العمق “لحميتين” هما :

الطبقة الاولى: تذهب إلى وجوب الحصول على “خروف” بأي ثمن و بأي طريق ؛ فالعيد هو امتلاك خروف في البيت؛ و هو طقوس ذبح خروف؛ و هو الشواء مباشرة بعد صلاة العيد؛ و بغير الخروف ينهار مفهوم العيد و تسود الكآبة و الحزن البيوت والنفوس.. فالعيد هو اللحم و اللحم هو العيد..

و قبل العيد؛ لا حديث الا عن اثمنة وأوزان الخرفان؛ و بعد العيد؛ لا حديث الا عن جودة ومذاق لحم الخرفان؛ وبين اللحظتين سجل ماشئت من أجواء الغيبة و النميمة و الاستهزاء والهمز واللمز والاستعراضية للشهوات والأكلات..

الطبقة الثانية: تذهب مذهب الإمتناع والنقد.. فنحن لا نأكل اللحم اصلا؛ لاسباب طبية و علمية و حداثية فاللحم ضار بالصحة والعقلاء واصحاب الذوق تجاوزوا أكل اللحوم.. ومنهم من يعتقد معتقد “النباتيين” الذي يعتبر ذبح الحيوان اعتداء شنيعا على مخلوقات تحتاج الرأفة والرحمة والعناية!! ومن نقدهم لشعيرة العيد أنها تهافت على اللحم والشواء؛ وكثرة الزيارات الاسرية والتزاحم غير المنظم في البيوت؛ والرحلات والاسفار والتزاحم في المحطات.. وسعار زيارة الاسواق و هذه المظاهر – في نظرهم – من مظاهر البداوة و التخلف؛ لهذا فهم يرفضون ذبح خروف العيد؛ ويفضلون أن قضاء يوم العيد في أحد الفنادق والمنتجعات السياحية؛ بعيدا عن هذه المظاهر المتخلفة والتي ابرزها فوضى الذبح والسلخ والدماء ..

إن فلسفة هاتين الطبقتين؛ فلسفة مادية أرضية استهلاكية للأسف الشديد؛ ولا علاقة لها أصلا بالعيد وشعيرة العيد؛ وفلسفة الاضحية كما شرعها الاسلام؛ وكما جاءت في القرآن وكما مارسها وطبقها وسنها سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم..

ففلسفة عيد الاضحى تقوم على ركيزة “روحية معنوية عقلية” قبل ان تكون مادية استهلاكية..

هذه الركيزة هي: أن الله سبحانه و تعالى (يأخذ) من المضحي يوم العيد؛ (التقوى)؛ ولا يأخذ اللحم و الأضحية المادية التي هي الحيوان المذبوح ( لن ينال الاه لحومها ولادماؤها ولكن يناله التقوى منكم)..

فالاضحية المقصودة في الاعتبار الالاهي؛ هي “أنت” ايها الانسان المضحي يوم العيد؛ أنت بنيتك ال خالصة؛ و فعلك الصالح؛ و سلوكك الطيب؛ وانت فرح بنعم الله وشاكر ربك على نعمة الاسلام ؛و محبا للخلق؛ و معبرا عن شكرك بنشر البهجة بين الاهل والجيران والاصدقاء؛ منفقا و متصدقا على الفقراء..

فالاضحية / اللحم؛ ماهي الا “مظهر جزئي” تابع ونؤطر بهذه المفاهيم الباطنية والقلبية..

فأنت عند قدرتك على شرائها: تتحرى المال الحلال؛ و تشتري بلا تكلف و لا اسراف؛ و تفرح اهلك؛ و تلتزم بسنة سيدنا رسول الله باحترامك اوصاف الاضحية وسلامتها؛ وتلتزم بوقت الذبح بعد ذبح الإمام؛ وفي هذا الالتزام تعبير عن الانضباط للمواطنة والتضامن والإجماع؛ وتدخل الفرحة على الاهل والاحباب و تتصدق بما طابت به نفسك على الفقراء وابن السبيل؛ وتقضي ايام التشريق في فرح وشكر وصلة رحم.. بغض النظر عن اشتهائك أكل اللحم او امتناعك عنه لسبب طبي..

فالأمر متعلق بسلوكك الباطن و الروحي؛ فنجاحك في امتحان الاضحية على قدر التزامك بشروط التقوى؛ التي هي استحضار الله بذكره؛ وعمل الصالحات ب إيصال النفع لخلقه..

إن مفتاح فهم عيد الاضحى هو المفتاح الروحي و جوهره ( التقوى) .. فالله تعالى لا ينظر الى “خروفك” او عنزتك؛ و لا الى كمية اللحم و الشحم فيه.. وإنما ينظر الى قلبك و مدى قدرتك على التضحية بكل شئء من الدنيا لأجل مرضاته سبحانه.. فكما فعل سيدنا ابراهيم عليه السلام؛ عندما (وفى) بالعهد والأمر الذي جاءه في الرؤيا؛ وقرر التضحية بابنه اسماعيل من أجل أمر الله ؛ و تقوى الله التي هي القدرة على تنفيذ أمر الله بلا تردد او تأجيل..

فاللحم لا اعتبار له في فلسفة الاضحية الاسلامية..فاللحم تابع للتقوى و للنية؛ وعندما أصبح اللحم جوهر العيد و مدار الإحتفال غرقنا في أوحال الإحتكار و المضاربة و التطفيف حتى كاد عيد الاضحى يصبح عيد الشقاء و الإكتئاب و زيادة فقر الفقراء ..

ويجب أن نعترف بأن تاريخ الاضحية عند المسلمين قد عرف مؤخرا انحرافا وخروجا عن هذه الفلسفة القرآنية والسنية؛ عندما غير الناس عيد الاضحى الى “عيد اللحم” اعتقادا منهم بأن أمر العيد هو أمر لحمي استهلاكي!

فأنتج هذا الاعتقاد سوقا مصطلحية وتجارية تتمحور حول ” واش شريتي العيد ؟”؛ “واش عيدكم سمين ؟”؛ “مسكين ماشراش العيد؟” كأن يوم العيد نفسه؛ أصبح سلعة يباع ويشترى!! والحقيقة ان هذا تحريف ما بعده من تحريف..

إن الطبقة التي رفضت الاضحية؛ وهربت الى الفنادق في يوم العيد؛ تفكر بنفس طريقة الطبقة التي قاتلت للحصول على الأضحية..

انهما عقليتان تفكران باللحم و في اللحم و من أجل اللحم؛ الا انهما طبقتان متعارضتان في الظاهر؛ متطابقتان في الباطن.. يحكمهما “التطرف” في المواقف؛ فالطبقتان تبرمجان يوم العيد انطلاقا من البرمجة الاستهلاكية..ولا حضور للمفاهيم الروحانية المتعالية في العيد..

فنحن مع لحم الاضحية ان حقق سعادتنا؛ وضد لحم الاضحية ان شوش على سعادتنا..

فلو استحضرت التقوى و توابعها الاخلاقية لعلمت كل فئة بأن العيد لحظة بهجة اجتماعية؛ منضبطة بقواعد عقلية وشرعية ومقاصدية واضحة .. بهجة يكون فيها اللحم ( رمزا) و (آية) تشير و تحيل على حقيقة مطلقة هي ( التسخير) حيث كل النعم مسخرة للانسان من الله الوهاب والرزاق و الذي يستحق الشكر و الامتنان..

والعيد أحد مظاهر الشكر ولكنه شكر وفق الفلسفة القرآنية و النبوية ( فكلوا منها واطعموا القانع والمعتر)..( لا يشكر الله من لم يشكر الناس) ..( كلوا وتصدقوا)..

غير أنه لابد من الاعتراف بأن للخطاب الديني دور كبير في هذا الانحراف الذي مس افكار الناس ومعتقداتهم من العيد والاضحية؛ فلطالما “صور كثير من الدعاة” اضحية العيد بصورة الواجب و الفرض الذي لا مجال للتنازل عنه او التفريط فيه ؛ حتى خلق جو من الرهبة في نفوس الناس بان الذي لم يذبح اضحيته فاسق و ضال و مفرط في دين الله !!..

وانتشر شعور بالخجل والعار بعدم الذبح يوم العيد..وغلب الناس العادة على العبادة.. وابتعدوا عن روح الدين وروح الاضحية؛ وأنا أعرف أن كثيرا ممن يذبح أضحيته التي هي سنة صباح يوم العيد قد نام و ضيع صلاة فجر يوم العيد وهي فرض عيني؛ و تساكن وتعايش الناس مع هذه الحياة المليئة بالتناقضات ؛ و ضاعت الاولويات؛ واختلت الضروريات و الحاجيات و التحسينيات؛ فاختل الميزان الاجتماعي و ضاع الميزان الاقتصادي و اكتوى الناس بنار غلاء الاضاحي وسدت الابواب على الناس؛ ولم يجدوا حيلة ولم يهتدوا سبيلا..

لتتدخل مؤسسة إمارة المؤمنين راعية مصالح الخلق وفق رؤية ميزان العدل و القسطاس المستقيم ليعلن أمير المؤمنين أعزه الله في رسالة مكتوبة بمداد الإلهام الملائكي و المدد الروحاني أن عودوا لحقيقة دينكم ” فاينما تكن المصلحة فتم شرع الله”.. ( وما جعل عليكم في الدين من حرج).. ويهيب حفظه بعدم إقامة ذبح الأضحية هذا العام.. فطار الناس فرحا مستبشرين؛ و عض أهل التطفيف أناملهم نادمين.. وعبرت إمارة المؤمنين عن حملها هموم الأمة كلها من هم الأمن الروحي الى هم الأمن الإقتصادي..

رابط مختصر

اترك تعليق

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *


شروط التعليق :

عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.