بقلم الإبن ياسين التوزاني
الثالث والعشرون من ماي… يوم لا ينسى، وتاريخ لا يمحى، وذكرى لا تفنى. وكيف لها أن تفنى وهي ذكرى رحيل الأستاذ والفنان التشكيلي، وقبل ذلك الوالد والمربي “عبد المجيد التوزاني”؟
ها هي تحل الذكرى العاشرة للرحيل المفجع، والوداع المؤلم، والفراق المضني المحزن للرجل الذي علمني معنى الحياة.
عقد من الزمان مرّ على الرحيل، فترة كفيلة بلم الجرح، لكن غير قادرة على محو آثاره. فتن الزمان كثيرة تغير شكل المكان، وتصبح الأشبال عرضة لمكايد الشيطان، وتتحول الأجساد إلى أشباح، بينما تبقى أرواح الآباء جنودًا مجندة لحماية الأبناء.
آباء عشنا في أحضانهم، فملأوا القلوب رحمة
تمر السنين ويبقى الحنين، ويظلّ الأثر الطيب والذكرى الحسنة في نفوس الأبناء والأحباء، وصدق من قال «الإنسان سيرة»، والحمد لله أن كل من عرف الفقيد عن قرب شهد بسيرته العطرة الزكية، فمهما تحدثت وشرحت، وتكلمت وفسّرت، فلن أوفّيه حقه، ولن أقدّره قدره، فقد عكف على تربيتي وإخوتي بأفضل ما يحسن الأب تربية أبنائه، وتعليم أولاده، وتهذيب أفلاذ أكباده، فتعلمنا منه الأدب وحسن التعامل.
كان والدي -رحمه الله- يقدس قيمة العلم ويرفعه مكانة رفيعة، ويضعه من أولى أولويات الحياة.
أما عن فطنته وفراسته.. فقد كان سريع البديهة، حاضر الرأي، قوي الحجّة، مقنعًا مقدامًا ومستقيمًا تجاه أهدافه، يسعد برؤية أعمال التنمية والتوسع، ومبادر يتخذ خطواته للأمام من دون تردد، ورجل تعلق بالفن وكرّس حياته له.
على المستوى الاجتماعي كان -رحمة الله عليه- رجلا شديد التواضع، كثير التآزر والتعاون، جُبل على العادات الأصيلة، كان يستمتع بزيارة الناس ويشاركهم الأفراح والسرور، كما كان يدفعه الواجب إلى مشاركتهم الأحزان والكروب، وهذا ما جعله يحظى بمكانة مميزة عند الجميع.
واليوم.. بعد مضيّ 10 سنوات على رحيله؛ أسال الله له الرحمة والمغفرة والرضوان، ورغم افتقادي الكثير له إلا أني سعيد غاية السعادة، إذ لا يزال عالقًا في ذاكرة أسرته وأحبابه وأقرانه وأصحابه، وكثير ممن عرفوه من قريب أو بعيد.
نبذة قصيرة عن سيرة الأستاذ والفنان عبد المجيد التوزاني
والدي رحمه الله لم يمت بيننا، فكما يقول المثل، العمر قصير والفن طويل، فقد كان الراحل طائرًا بكل الألوان؛ أكاديمي متميز بأبحاثه، وفنان أصيل أبدع خلال مسيرته عبر حساسيته الفنية التي مارسها في لوحاته وحياته اليومية معاً.
ولد الأستاذ عبد المجيد التوزاني عام 1956 بمدينة تازة، تابع دراسته الابتدائية والثانوية بمسقط رأسه، وبعد نيل شهادة الباكالوريا الأدبية التحق بشعبة الفلسفة وعلم النفس بكلية الآداب جامعة محمد بن عبد الله بفاس، ثم عمل بسلك التعليم الثانوي مدرسًا لمادة الفلسفة وأستاذًا بمركز تكوين الأطر بعد ذلك بكل من تازة ومكناس وفاس، وما لبث أن نال ديبلوم الدراسات المعمقة في علم النفس ثم ديبلوم الدراسات العليا منتصف العقد الأول من الألفية الحالية.
ترك الفقيد إسهامات متعددة في ميدان تخصصه؛ فقد ساهم رفقة آخرين في تأليف “سلسلة التكوين التربوي” الموجهة لطلبة مؤسسات التكوين، ولرجال التعليم، كما أنه قام بترجمة العديد من المقالات والحوارات العلمية التي كان ينشرها عبر الصحف والجرائد الوطنية، ونذكر من هذه الحوارات والمقالات: “لماذا تعتبر ((موروثات سلوكنا)) خيالية؟” وهو مقال كتبه “أندري لانغيني”، وترجمه الفقيد ونشره على “الاتحاد الاشتراكي” يوم 15 نونبر 1998، ونذكر أيضًا: “الكلام لا يوجد داخل الدماغ”، وهو عنوان لحوار تم إجراءه مع الفيلسوف “سيلفان أورو” وترجمه الفقيد على جريدة “الاتحاد الاشتراكي” ونشر بتاريخ 23 أبريل 2000، وأيضًا: “الروح والجسد؟ ليس هناك من مشكل!” وهو حوار مع الفيلسوف الأمريكي “دانييل دينيت”، وترجمه الفقيد ونشره على “الأحداث المغربية”.
أما في المجال التشكيلي، فقد أغرته المدرسة السوريالية بعناصرها وآفاقها المدهشة، وهي المدرسة التي تقوم على وضع تصورات خيالية والابتعاد عن الواقعية، وتكون الأحلام هي المتحكمة في أفكار روادها، فعبّر الفقيد من خلالها عن دواخله ومواقفه الفكرية والفنية وقبل ذلك: عن مواجع وإفلاسات العالم المتخلف، ومن أبرز لوحاته التي ذاع صيتها ولاقت صدى كبيرًا في هذا المجال؛ “لوحة غزة المجزرة”.
قراءة في لوحة (غزة المجزرة)
أنجز والدي الفنان التشكيلي المغربي عبد المجيد التوزاني لوحة بمناسبة الذكرى الأولى لاجتياح غزة. اللوحة غنية بالدلالات، موغلة بالإشارات، أرادها أن تصرخ في وجه العالم وتجهر بهول المؤامرة. فعيش الفلسطينيين بين الجدران ليس قدرًا، وأن يعزل الجدار الضفة الغربية عن بعضها ويفصلها عن محيطها مؤامرة لم يشهد التاريخ لها مثيلاً دونما مقاومة مشروعة وشهداء وتضحيات ودماء زكية، وأن تبنى حول أصحاب الأرض الشرعيين السدود والأسوار، وأن يجبروا على العيش في الشتات لاجئين في مختلف بقاع المعمور، وأن يعزل الاحتلال البيت عن المدرسة والسوق عن الحي، والمسجد عن المصلين كما تتناقل كل يوم وكالات الأنباء… كل هذه الأمور هي مؤامرة تعبر اللوحة عن مدى دناءتها وحقارتها في حق الشعب الفلسطيني.
اللوحة تقول (لا) في وجوه من سكتوا أو قالوا نعم … بفتيل نباهته ومكنون غيرته سلط الفنان التشكيلي المرحوم عبد المجيد التوزاني ضوء إبداعه على معاناة غزة، مدرسة النضال والأميرة المكللة بدم الشهيد، أهل غزة وشعب فلسطين يؤديان ضريبة الخذلان والانهزام والانكسار وعتادنا الدعاء وسلاحنا النضال والحسرات…
اللوحة لن تعطي أهل غزة حقهم، ولا شعب فلسطين حقوقه، ولكنها تشير إلى مقت الصمت المعتمد، فكيف تنام عين الحبيب، وقد أيقظها الخذل المتوبل ببهارات الميوعة، كما توحي اللوحة إلى أن النصر لا محالة آت في ثياب الفخر والبهاء، وأن حمامة السلم البيضاء ستحلق في كل الأرجاء، حاملة غصن شجرة الزيتون الخضراء، مشيرة إلى حتمية الفلسطيني في البقاء. فحتما هناك نور خلف حلكة الظلام يهمس ليبتسم لغزة وفلسطين.
وهكذا يمكن القول إن المبدع الراحل الفنان التشكيلي والأستاذ عبد المجيد التوزاني قد وضع يده على الجرح الغارق في هذا الزمن المثخن بالعذابات، وها هي ذي اللوحة منبر تعبير الفنان كما الإبداع معركة وهمية نحس فيها بنشوة الانتصارات رغم الخيبات.
كانت هذه نبذة قصيرة عن أعمال الفقيد الكثيرة، ولمحة يسيرة عن مسيرة المرحوم الكبيرة، وهذه التفاتة بسيطة إلى أعماله الجسيمة في ذكرى رحيله الأليمة.
المصدر : https://dinpresse.net/?p=14566